القدس المحتلة- شهد الكنيست الإسرائيلي مساء أمس الاثنين مشهدا سياسيا ذا دلالات عميقة، عندما فشل الائتلاف الحكومي بزعامة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، المطلوب للمحكمة الجنائية الدولة بتهمة ارتكاب جرائم حرب في غزة، في تمرير مشروع قانون إقصاء النائب أيمن عودة، رئيس تحالف الجبهة والعربية للتغيير، من البرلمان.

ورغم العدد الكبير من المؤيدين لطرده، والذي ضم 73 عضوا من الائتلاف وأطرافا في المعارضة، لم يتمكن المبادرون من تأمين 90 صوتا من أصل 120، وهي الأغلبية المطلوبة قانونيا لإقصاء نائب منتخب.

استند مقترح الإقصاء إلى البند (7أ) من القانون الأساسي للكنيست، الذي يتيح شطب عضو إذا ثبت دعمه لمنظمة “معادية” أو نفيه تعريف إسرائيل كدولة “يهودية وديمقراطية”. غير أن المستشارين القانونيين للكنيست والحكومة أوضحوا أن المنشور الذي كتبه عودة، في يناير/كانون الثاني الماضي على منصة “إكس”، لا يفي بهذه الشروط القانونية.

أزمة عميقة

ودعا منشور أيمن عودة إلى تحرير الشعبين (الفلسطيني والإسرائيلي) من نير الاحتلال، وعبّر عن الفرح بإطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين والمحتجزين الإسرائيليين، “في سياق إنساني وسياسي” لا يرقى -بحسب الرأي القانوني- “إلى مستوى التحريض أو نفي طابع الدولة”.

وعكس فشل مشروع القانون عمق الأزمة السياسية داخل الائتلاف الحاكم، فقد امتنعت كتلة “يهودات هتوراه” الحريدية (المتدينين المتطرفين) عن دعمه احتجاجا على تراجع الحكومة عن التزاماتها بقانون إعفاء طلاب المعاهد الدينية الإسرائيلية من الخدمة العسكرية.

ومنحت أحزاب المعارضة الكبرى، مثل “أزرق أبيض” بزعامة بيني غانتس و”هناك مستقبل” بقيادة يائير لبيد، حرية التصويت لنوابها، وذلك ما أضعف قدرة نتنياهو على تأمين الأصوات اللازمة.

ترافق النقاش البرلماني مع خطاب تحريضي غير مسبوق ضد الأحزاب والنواب العرب والتمثيل العربي في الكنيست، في مشهد أثار مخاوف جدية لدى فلسطينيي 48.

واعتبر كثيرون هذه المحاولة سابقة سياسية خطيرة، تمهّد لمسار يهدف إلى تجريم العمل السياسي العربي، وتجعل من المواطنة الفلسطينية في إسرائيل موضوعا للريبة والتهديد الوجودي.

يأتي إسقاط مشروع الإقصاء نتيجة حملة سياسية وشعبية واسعة النطاق، قادها النائب عودة وشاركت فيها قوى وأحزاب عربية ومحلية، واستقطبت دعم حقوقيين ومحاضرين جامعيين إسرائيليين، ونواب أوروبيين وأميركيين، وحتى رئيسي حكومة إسرائيليين سابقين.

وشكلت هذه الحملة أول جبهة سياسية واسعة بعد عملية “طوفان الأقصى” في أكتوبر/تشرين الأول 2023، ونجحت في كسر جزء من “الإجماع القومي الصهيوني” تجاه استهداف التمثيل العربي.

مسار خطير

في خطابه أمام الكنيست، حذّر عودة من خطورة هذا المسار، ودعا إلى بناء جبهة عربية يهودية عريضة ضد الفاشية، تقوم على قيم وقف الحرب، والمساواة، والحرية. وشدد على أن استهدافه اليوم قد يكون مقدمة لاستهداف أي نائب عربي أو أي صوت حر في المستقبل.

يقول المحلل السياسي والباحث في مركز تقدم للسياسات أمير مخول إن هذا التطور يثير تساؤلات جوهرية عن مستقبل المشاركة السياسية لفلسطينيي 48 في الكنيست، ومخاوف من محاولة استخدام القانون كأداة لإقصاء الأصوات المعارضة وتقليص التعددية السياسية.

وأوضح للجزيرة نت أن هذا الفشل التشريعي الحالي محطة مهمة، لكنه في الوقت ذاته جرس إنذار يستدعي نقاشا أوسع حول حماية العمل السياسي العربي في إسرائيل وضمان استمراره. ويضيف أنه رغم إسقاط مشروع قانون إقصاء عودة، شكلت جلسة الكنيست لحظة سياسية خطيرة، “كشفت عن عمق النفوذ الكهاني الفاشي” (نسبة إلى كهانا أحد مؤسسي حركات المتطرفين اليهود)، وعن مسار متعمد لنزع شرعية التمثيل العربي وتشويه الأصوات المعارضة للحرب باتهامات “دعم الإرهاب”.

ووفق مخول، سعت الحملة ضد عودة لخلق سابقة قانونية تسمح لاحقا بشطب مرشحين وقوائم عربية، وسط صمت أو تغيب أحزاب الوسط واليسار. واعتبر أن الجلسة كانت الأخطر، بتحولها إلى “ساحة تحريض عنصري علني يمس المواطنة والكرامة من دون أي رادع”.

ويعتقد أن موقف “يهودات هتوراه” بعدم التصويت، رغم شراكته في الائتلاف، كشف عن أزمة الحكومة حول قانون التجنيد، وأبرز حدود التزامها عندما يستخدم الإقصاء السياسي أداة.

لذلك، فإن إسقاط القانون رغم رمزيته، حسب مخول، ليس كافيا. “والمطلوب استمرار العمل بروح الحملة محليا بتوحيد القائمة العربية المشتركة (في الكنيست) وتوسيعها، ودوليا بفضح المسار الفاشي لأن الفلسطينيين العرب يواجهون خطرا وجوديا مضاعفا يتطلب ردا سياسيا موحدا وحازما”.

احتجاجات في الداخل الفلسطيني على سياسات حكومة نتنياهو تجاه الشعب الفلسطيني (الجزيرة)

حملة ممنهجة

من جانبها، أكدت الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة -في بيان لها تلقت الجزيرة نت نسخة منه- أن محاولة إقصاء النائب عودة تستهدف العمل السياسي برمته، وتأتي ضمن حملة ممنهجة ضد كتلتها “التي تمثل المعارضة الأشرس للحرب وسياسات اليمين الفاشي”.

وقال سكرتير الجبهة أمجد شبيطة -في البيان- إن هذه الملاحقات جزء من الهجمة الفاشية على الجماهير العربية وقياداتها وعلى القوى اليهودية الديمقراطية الرافضة للحروب والعنصرية. وأوضح أن الجبهة واجهت مخطط الإقصاء بحملة جماهيرية وإعلامية واضحة وجريئة.

واعتبر شبيطة أن مجرد طرح الموضوع للتصويت مؤشر خطير على الانحدار الفاشي في السياسة الإسرائيلية، وسط تصاعد تطرف اليمين “وتواطؤ معيب” من المعارضة.

وأشار إلى أن تمرير الإقصاء كان سيخدم انقلاب نتنياهو ووزير العدل ياريف ليفين لضرب التمثيل العربي وضمان أغلبية يمينية دائمة.

وحذر من الرسالة الموجهة للعرب بأن تمثيلهم مشروط بالالتزام بسياسات اليمين، مؤكدا أن الجبهة لن تتراجع عن نضالها من أجل الديمقراطية والمساواة، ورفض الضم والتطهير العرقي.

وتعقيبا على القرار، قال حسن جبارين، المدير العام لـ”مركز عدالة” وممثل النائب عودة، إن إسقاط مشروع الإقصاء لا يلغي خطورة الرسالة التي حملها هذا المسار.

وأوضح للجزيرة نت أن التصويت، رغم فشله في بلوغ الأغلبية المطلوبة، أظهر حجم التأييد الواسع لطلب الإقصاء من داخل الائتلاف والمعارضة معا، وذلك يكشف عن نية واضحة لدى الدولة لتقويض التمثيل السياسي الفلسطيني في الكنيست.

وأضاف أن المسار برمّته لم يكن إجراء قانونيا منذ اللحظة الأولى، بل “عرضا فاشيا وعنصريا” هدفه معاقبة عودة على موقفه المبدئي ضد الاحتلال والقمع والعنف. وأشار إلى أن القانون الإسرائيلي نفسه قد انتُهك بشكل صارخ، مع تجاهل أبسط المعايير القانونية، حتى دون الوصول فعليا إلى قرار الإقصاء.

وحذر جبارين من أن ما حدث يشكل سابقة خطيرة، ويعطي مؤشرا مقلقا لما قد يحدث في أي انتخابات مقبلة، حيث يتوقع هجوما شرسا من اليمين على القوائم العربية وممثليها.

واعتبر أن استهداف عودة لم يكن موجها ضده شخصيا فحسب، بل هو خطوة “عنصرية” تهدف إلى إسكات وإقصاء كل من يختلف عن غالبية الكنيست.

شاركها.
Exit mobile version