أفرزت الحرب على غزة والمواقف حيالها في الغرب، حالةً فريدة، خاصة من لدن أصحاب القرار. يُعلن قادة الغرب عن شجبهم للحرب، من حيث الخطاب، ولا يضيرهم أن يروا آلة الحرب تحصد الضحايا، وتُشرّد الأسر، وتُعرّضهم للجوع والبرد والضياع كل يوم. تُهدَم البيوت على رؤوس أصحابها، وتُستهدف أماكن العبادة والمستشفيات، من دون أن يفعل قادة الغرب شيئًا عمليًا لوقف آلة الدمار.

يُعبرون عن أساهم، وقلقهم، وانشغالهم، كما لو أن الحرب غضب الطبيعة، لا يستطيعون حيالها أمرًا، ثم ينتقلون لشيء آخر. أو لهم أولويات لا يريدون أن يسفروا عنها. ما تعلنه الإدارة الأميركية ليس ما تضمره. تُعبر عن شيء وتأتي بما يناقضه، وهو الأمر الذي يُنعت بالانفصام، أو بالشيزوفرينية.

الغرب الحامل لحرية التعبير، يتصدى لحرية التعبير، ببذاءة، وصفاقة، وافتراء، كما فعلت الصحفية البريطانية التي شوشت على الناشط الحقوقي مصطفى البرغوثي، في حكم قيمي

بقدر ما تتحرك الآلة الدبلوماسية الغربية، أخذ الإعلام الغربي في الخفوت، في نوع من حالة استئناس بما “يجري في غزة”، والوقوع في اللامبالاة. لم تعد الحرب في غزة تتصدر الأخبار في الشاشات الغربية، واستعادت الحرب الروسية -الأوكرانية صدارتها. تتم تغطية محدودة للحرب على غزة، ليست في صدارة العناوين، مع توجيه مقصود لتبني السردية الإسرائيلية.

يمكن للناطق الرسمي للجيش الإسرائيلي أن يتحدث لكل الوسائل المرئية في فرنسا، وكل اعتراض عليه، يُعرّض صاحبه لإجراءات تأديبية، صحفيًا كان أو ضيفًا، ولذلك يتم اختيار الضيوف بعناية، ويتحاشى من لا يتبنى السردية الإسرائيلية من الظهور.

في بعض القنوات، كما “سي إن إن”، لا يجوز استعمال مصطلحَي ” إبادة جماعية”، ولا “جرائم حرب”، حتى لو كان الواقع يشي بإبادة، وينطق عن جرائم حرب. لا يكفي أن يصرح مسؤولون إسرائيليون بالتعامل مع الفلسطينيين بصفتهم حيوانات، وتهديد آخرَ باستعمال القنبلة النووية على غزة، واستعمال كل أعمال التقتيل والدمار والتجويع، واستهداف الأطفال والنساء من المدنيين، وقصف المستشفيات والمدارس ودور العبادة، وتسوية غزة بالأرض.

كل ذلك ليس إبادة، ولا يرقى لأن يكون جرائم حرب، كما صرّح بلينكن في مؤتمره الصحفي بإسرائيل. الفرق بين الكيل بمكيالين هو تمييز واعٍ ومقصود، أما الشيزوفرينيا، فهي أن تؤمن حقًا بأن ما يجري في غزة لا يرقى أن يكون إبادة، ولو جافى ذلك الواقع.

من العسير أن تحكم على من دأب أن يحكم على الآخرين، فهذا لن يتم قبوله منك بطبيعة الحال ولكن لا تستطيع أن تغض الطرف عن شيزوفرينية الغرب.

الغرب الحامل لقيم الإنسان، ينسى أن هناك أناسًا تجري في عروقهم الدماء نفسها التي تجري في عروق الغربيين، كما في تعبير شكسبير في تاجر البندقية، ويحق لهم أن يُعامَلوا بالمعايير نفسها التي يُعامل بها أي إنسان.

الغرب الحامل لحرية التعبير، يتصدى لحرية التعبير، ببذاءة، وصفاقة، وافتراء، كما فعلت الصحفية البريطانية التي شوشت على الناشط الحقوقي مصطفى البرغوثي، في حكم قيمي.

الغرب الذي يؤمن بالشك المنهجي، ويُعلّم “البرابرة” أفضاله، لا يتورع عن تلقف سردية إسرائيل عن البطون المبقورة، والأجساد المحروقة والرؤوس التي حُزّت، من دون تشكيك ولا تحرٍّ. ولا يفعل شيئًا من تقديم اعتذار بعد ما تبين زيف ما تم ترويجه حدَّ الغثيان.

الغرب العقلاني جدًا، ينسى عقلانيته، باسم انتماء، وهُوية المتحضرين ضد “البرابرة”. يَعِد ألا يتكرر ما وقع في 7 أكتوبر، كما أعلن بلينكن، ولا يتساءل عمّا جرى قبل هذا التاريخ، من تقتيل بطيء لأهل غزة، وعمليات تجريد لأهل الضفة من أراضيهم، وانتهاكات مستمرة للمسجد الأقصى.

الغرب الديمقراطي، حامل سيادة الشعب، لا يقيم اعتبارًا لرأيه العام.

الغرب حامل حرية التفكير، يتعقب من لا يفكرون من داخل قنوات الأرثوذكسية: (حرفيًا، التفكير القويم، واصطلاحًا الاتجاه العام)، ويقوم بنوع من الماكارثية، في تعقب من يناصرون الشعب الفلسطيني، أو مجرد أن ينادوا بوقف الحرب، حتى بداخل الحرم الجامعي.

الغرب الغيور على الحرية، حتى على الحرية الجنسية، ينسى أول حق للإنسان، وهو الحق في الحياة. يتجند من أجل حرية متحول جنسي، ولا يُحرك فيه ساكنًا أطفالٌ يُقتلون، أو حق جريح في التعبير عن أنّته، أو موتور في الصدع بالظلم الذي حاق به.

الغرب الداعي للتسامح منذ لوك وفولتير، يتعقب المسلمين في الغرب، في لباسهم ومأكلهم ومعتقدهم وأفكارهم.

الغرب الذي حمل منذ اجتياح صدّام للكويت بروفة نظام عالمي جديد، ينسى (أو يتناسى) أن هناك واقعَ احتلال في فلسطين. لا يفتر عن تجنيد قاذفاته الخطابية في “حل الدولتين”، مع التستر على مسلسل المستوطنات، وتقديم القروض لإقامتها ومنح المساعدات.

الغرب أو الولايات المتحدة للدقة -إذ أن عنوان الغرب كما يقول الفيلسوف الفرنسي رجيس دوبري هو “البيت الأبيض”- مَن رسم خِطاطة حل قائم على الأرض مقابل السلام، والوسيط النزيه، نسي تمامًا ما وضعه هو نفسه، ولا يفتأ يُقدّم الدعم الدبلوماسي والمالي لإسرائيل، وبضع كلمات للسلطة الفلسطينية، وقام في سلسلة من عمليات متواترة بما ينافي ما يقتضيه دور الوسيط النزيه.

الولايات المتحدة -مثلما ذكّرنا بوش في خطابه الشهير “أيامًا معدودة” عقب ضربات 11 سبتمبر- هي منارة الحرية والتعدد والديمقراطية، وهو ما يَنْفسه المتطرفون الحاقدون، على الولايات المتحدة ويكرهونها من أجل ذلك. لا نريد أن نكره أحدًا. ومن حقنا فقط التذكير بالقيم التي يدفع بها الغرب، وحالة عدم الاتساق، بين ما يقول به، وما يقوم به فقط. أو النقص في الاتساق فقط.

الغرب الذي يؤمن بالإنسان من حيث هو إنسان، من يتستر على واقع الأبارتايد في الضفة الغربية وفي إسرائيل.

الولايات المتحدة التي جرّمت رئيسًا كما حدث مع الرئيس نيكسون -لأنه كذب وتستر على حقيقة – لم تتورع عن الكذب حول امتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل وضلوعه مع “القاعدة”، أو عن ترديد سردية بقر بطون النساء، وتحريق الأطفال، وتفجير مستشفى المعمداني من قِبل الفلسطينيين أنفسهم.. يبادر الرئيس الأميركي بايدن أول ما تطأ قدماه إسرائيل، إلى أن يخبرنا “النبأ اليقين”، بأن الفلسطينيين هم من فجّر مستشفى المعمداني.

الولايات المتحدة من هبّت لتحرير العراق من طاغية، هي من أعطته “دروسًا تطبيقية” حول احترام حقوق الإنسان في سجن أبي غريب!. وهي اليوم من تلتزم الصمت عن مدنيين تُمتهن كرامتهم، في غزة، ويُجرَّدون من لباسهم، في البرد، وحين تُقتحم بيوت الله، بالأحذية، وتُنتهك حرمتها.

الولايات المتحدة حاملة مشعل السلام، أو السلام الأميركي، هي التي تبعث خبراءها العسكريين إلى إسرائيل، وتقدم خبرتها الميدانية، واستخباراتها، فضلًا عن السلاح.

الولايات المتحدة التي ترى الخراب، ولا تفعل شيئًا لإيقافه، تستنفر “الأشقاء” من أجل إعادة البناء، وتجري أسفارًا مكوكية، لتَطْمئن أن “الحلفاء” على “العهد”، من أجل استكمال المشوار، مشوار اتفاقية أبراهام، هو المهم. أما أن يموت عشرات الآلاف من الأطفال والمدنيين، ويُهجَّروا، وتُدمّر بيوتهم على رؤوسهم، فأحداث جانبية، وتفاصيل، أو عدد غير كافٍ، كما قال مسؤول أميركي سابق، يستقوي على “غلبان” مصري يبيع الهوت دوغ.

كلمة أخيرة في حق بلد الأنوار وإعلان حقوق الإنسان والمواطن والعلمانية. الأنوار لا تسطع إلا لفائدة فئة محدودة، والمساواة هندسة متغيرة، والعلمانية لا تضع الأديان في مرتبة واحدة، باسم العلمانية الإيجابية. حلل وناقش. مع دعم “عرب الخدمة”، كما في العهد “الجليل” للاستعمار.

لسنا في وضعية أن نفكر بروية، ونتأمل بهدوء، لأننا في معمعان الحرب، ولكن هناك حالة باثولوجية، أو غير سوية في القول بشيء، وإتيان ما يناقضه.. للأمر ثمن، طبعًا، هو ضعف القدرة على الإقناع، أو كما يقول غوته في رائعته فوست:” نحن أحرار إذ نأتي الفعل الأول، ونُضحي أسرى للفعل الثاني”.

لا يمكن لأيّ أن يقول، لم نعرف، أو لم نكن نعرف، أو يتذرع بـ “الواجب الأخلاقي”، كما دفع هابرماس، حيال أشياء من الماضي، والسكوت عما يتم اقترافه اليوم جهارًا. كل شيء أمام ناظرَينا: القنابل إذ تهوي على المستشفيات والمدارس، والرصاص وهو يخرق صدور الماشين وهم يحملون الأعلام البيضاء، وارتجاف الأطفال وهو يُخرجون من الأنقاض.. نعرف، والعالم يعرف، ولا يمكن لأحد أن يتذرع بالجهل.

الأمر أكثر من الكيل بمكيالين، ولكن سكيزوفرينيا، لا يُخفف منها تنديد بعض أحرار الغرب. العبرة بالواقع. والواقع، هو التقتيل والتدمير ومشاريع التهجير. هل يعفي ذلك الغرب من مسؤوليته؟ وهل يستطيع أن يُقدم الدروس بعد اليوم؟ حتى إن فعل، فلن يستمع له أحد.

شاركها.
Exit mobile version