مع الذكرى المتجددة والنازفة لمجزرة صبرا وشاتيلا (دام ارتكابها ثلاثة أيام بلياليها، فيما بين 14 – 17 أيلول 1982) يبدو أنها باتت للذكرى الباردة!.. لا ليس ثمة من يقف حاني الرأس، ربما سوى من تبقى من أهالي الضحايا، يزورون تلك البقعة التي لا تعرف لها شكلاً، إذا كلما سنحت لك الفرصة بزيارة مخيم شاتيلا ستكتشف استعمالاً مختلفاً للمكان الذي انطوى على جثث قرابة ثلاثة آلاف، أو ما يزيد، من الفلسطينيين واللبنانيين، وبعض العرب، الذين قضوا قتلاً بدم بارد.

ذكرى مجزرة صبرا وشاتيلا

الآن.. سيبدو وكأن الفلسطينيين شاغلتهم الوقائع والأحداث.. وربما تكاثرت عليهم المجازر حتى باتوا لا يعرفون لها عدداً.. وكأنما تأتي واحدة لتحل محل أخرى، تمحو وهج دمها الحار، بدم آخر.. حتى كأنما النصال باتت تقع على النصال، في الجسد الفلسطيني المدمى..

واحدة على طريق المجازر الكثيرة

ألم تأت مجازر 17 أيلول 1982، لتقع تماماً فوق مجازر 17 أيلول 1970؟ وتتراكم الجثث على الجثث، وتنز الدماء على الدماء، والفلسطينيون مغرقون في المضي على أتون المركب اللاهب، الذي ما عادوا يدركون إلى أي شطّ يمضي بهم، أو إلى أيّ قاع!

ننسى أو نتناسى.. ننشغل أو نتشاغل.. وعندما تمر بنا الصورة الوثيقة، صورة المجزرة، في هذا الوثائقي أو ذاك، لم تعد تلامسنا رجفة الغضب، ولا لمحة الأسى.. بات الأمر عادياً.. معتاداً.. جثث مشلوحة هنا وهناك.. ودم ينساب بين دمار وأنقاض.. وإذا أردنا الاستذكار ينفتح السجل أمامنا طويلاً عريضاً، تتكاثر فيه المجازر، كما تتكاثر الهموم على ذي محزنة.

الآن.. يأتي أيلولنا، كالعادة.. وعند منتصفه يشتعل الدم الفلسطيني.. خيبة أثر أخرى، ترسم وقع الخطوات على الدرب، الذي أراده الفلسطينيون طريقاً صاعداً نحو تحقيق الحلم بالتحرير والعودة، والشمس التي تشرق على أفياء فلسطين.. فتلوّى، وتشظّى، وتهشّم، ودخل في غياهب، تستعصي على أوسع الخيالات، وأكثرها خصوبة!

هل بات ثمة من يقف اليوم لينظر إلى تلك اليد التي تخضَّبت مأفونة بالدم، نظرة غضب؛ نظرة غضب فقط؟.. هل ثمة من يحني الرأس للذكرى، للوجوه، للأسماء، للأنفاس، للأحلام.. للبراءات التي سُفحت، والأعراض التي هُتكت؟.. للذين عاشوا مذلين مهانين، مخفورين في مخيم البؤس واللجوء والتعاسة، وماتوا أكثر إذلالاً ومهانة، وقد باتوا أدوات تسلية لصبيان مجرمين؟

الهروب من الثورة

تذهب الذكرى، وتعود.. لا تملّ.. تأتينا في الموعد ذاته كل عام، وقد باتت أكثر عرياً، أكثر جموداً.. باهتة، لا يبثّ فيها الروح كلام إنشاء، أو خطابات ثورية، أو توعدات ثأر وانتقام، ولا حتى وعودات الوفاء للذين بقوا حتى مضوا حتف أنوفهم، بأحطّ الصور التي يمكن للبشرية أن تتخيلها.

ذات مساء، لململت الثورة متاعها، وغادرت تمخر عباب البحار إلى منفى جديد.. ترك الثوار نساءهم وأطفالهم، شيوخهم وفتيانهم وفتياتهم.. تركوا المخيم للعراء.. تلفعوا بالكاكي، ولوحوا بما تبقى في أيديهم من بنادق، وما نفضوا حبات الأزر التي نثرتها النساء المودعات على أمل لقاء قريب.. ولكن أي لقاء، والذئب يتربص، ويشحذ أنيابه، متحيناً الفرصة، التي ستحين عما قريب!..

«وكان ليل.. وكان قتل.. وكانت صبرا وشاتيلا».. وصمة على جبين الزمان، ولطمة على صدر التاريخ، وسبّة في وجه الإنسانية في شهقتها الأخيرة أمام وحشية البشر، وفتكهم، ودناواتهم التي تعفّ عنها الضواري.

قرابة أربعين سنة من عمرها، وما استطاعت أن تسحب رائحتها الدائخة في أزقة ما تبقى من مخيم شاتيلا.. ما زالت أصداؤها ترن في الزواريب، وترسم خطوطها على وجوه اليتامى والثكالى والأيامى.. ها هنا قبر، فوق قبر، فوق آخر.. ها هنا ردم مرتو بالدم، ينزّ ما إن تطأ القدم أديمه.. هذه بقايا جدار أسند القتلة ضحاياهم صفاً صفاً قبل أن يطرزوهم بالرصاص الواخز.. وتلك قطعة من حبل شنقوا به ما تيسر لهم من أعناق كان لها أن تشرئب ذات حلم، وتنظر إلى شمس واعدة.

أفلام في حق المجزرة

فيلم “صبرا وشاتيلا” الوثائقي الذي حققه المخرج العراقي “قاسم حَوَل”، عام 1983، متوسط الطول (مدته 35 دقيقة)، والذي نال الجائزة الرئيسية في مهرجان دمشق السينمائي عام 1984، وجائزة فيبريسي من مهرجان لايبزيغ عام 1983، ونتوقف عند الفيلمين الهامين اللذين حققهما المخرج العراقي الكبير قيس الزبيدي: فيلم “مواجهة” عام 1983، مدته 28 دقيقة، وفيلم “ملف مجزرة”، عام 1984، مدته 34 دقيقة، هذه الثلاثية الفليمية المبكرة، التي عملت على تقديم قراءة تاريخية للعدوان الصهيوني، الذي بلغ ذروته في اجتياحه لبنان عام 1982، مسلطة الضوء على فيض التفاصيل والمواقف المختلفة عبر اللقاءات والشهادات والتصريحات، وعبر محاولة بناء السياق التاريخي لللأحداث والوقائع والموقف، الذي أفضى إلى المجرزة الدامية، لتبقى الوثيقة شاهدة إن صمت البشر، أو تناسوا، أو غفلوا.

مئات الجثث تم انتشالها من بين أنقاض المجزرة بعد يثلاثة أيام من الحادثة

ولن تبتعد المخرجة مي المصري، والمخرج جان شمعون، معاً، عن التردد إلى مخيم شاتيلا، من فيلم آخر، بدءا من وثائقيهما الأول “تحت الأنقاض” عام 1982، وحتى فيلم “أطفال شاتيلا” عام 1998، وليس انتهاء بفيلم “أحلام المنفى” عام 2001. إنه الهم والاهتمام لديهما، وهو المخيم النموذج المنكود بالنكبات والنكسات والحصارات، والاجتياحات والمجازر، دون أن يفقد أمله لحظة.

لن تذهب مي المصري وجان شمعون إلى المجزرة مباشرة، ليس إلى وقائعها، أو صورها، ولكن المجرزة ستلقي بظلالها الثقيلة. كيف يمكن للأطفال الذين يشبّون في مخيم شاتيلا أن ينسوا؟.. الصور المعلقة على الجدران المتهالكة، القبور فيما تبقى من مساجد، المقبرة الشاسعة، وشبكة الزواريب التي لا تستطيع الفرار من سجن المكان، ولا الاغتسال من رائحة المعشعشة.

فيلم في زيارة المجزرة

أما المخرج السويسري ريتشاند ديندو، فإنه يذهب إلى المجزرة مباشرة، في فيلمه “جينيه شاتيلا” عام 1999. هذا الفيلم الوثائقي الطويل البديع (مدته 105 دقائق)، الذي يدور حول الشاعر الفرنسي جان جينيه، الشهير بعلاقته الوطيدة مع الفلسطينيين، منذ الأيام الأولى للثورة الفلسطينية، وحتى المجزرة الوحشية.

تقع المجرزة في صبرا وشاتيلا، ويأتي جينيه، ويخوض التجربة التي ستنتهي إلى كتابه “4 ساعات في شاتيلا عاشق فلسطين”. ويقتفي المخرج ريتشارد ديندو أثر خطوات جان جينيه الأخيرة، ليخلص إلينا بفيلم وثائقي كبير، يمكن القول إنه أحد أهم الأفلام، عالمياً، التي تناولت القضية الفلسطينية، والثورة الفلسطينية، وبؤرته المجزرة الدامية في صبرا وشاتيلا.

كثيرة هي الشهادات التي يقدمها فيلم “جينيه شاتيلا” لناجين وناجيات من مجرزة صبرا وشاتيلا.. قصص وحكايا تقشعر لها الأبدان.. تجربة لا يطيقها عقل.. تبلغ ذروتها في مشهد لا يُنسى، عندما يجمع المخرج نفراً من هؤلاء الناجين والناجيات ليعرض عليهم صوراً حية من المجزرة!..

لم تغب مجزرة صبرا وشاتيلا عن كثير من الأفلام الوثائقية الفلسطينية، والعربية، والأجنبية.. تناولها كل منها بطريقته الخاصة، فهي خاتمة الفيلم للياباني “سنوات النضال الفلسطيني”، إخراج نونا كاوا، عام 1982، وهي ذاكرة الفلسطينيين المهاجرين إلى الدانمارك في فيلم جمال أمين “حياة الظل” 2002، وهي استكمال صورة موت الفلسطيني في العراء، في فيلم “صورة شمسية” للمخرج فجر يعقوب 2003، و”متاهته” التي لم تنته بعد، وهي الحكاية من أولها إلى آخرها، في فيلم “سنرجع يوماً” لسمير عبدالله، ووليد شرارة..

شاركها.
Exit mobile version