أصدرت الدائرة الجنائية الثانية بالمحكمة الابتدائية بتونس العاصمة في ساعة متأخرة من ليلة الثلاثاء – الأربعاء 5 فبراير/شباط 2025 أحكامًا وُصفت بالصادمة والظالمة فيما بات يُعرف إعلاميًا بملف “أنستالينغو” في حق واحد وأربعين متّهمًا من بينهم سياسيون وإعلاميون وإطارات أمنية ورجال أعمال، وعدد من موظفي الشركة.

بلغت جملة الأحكام 760 سنة سجنًا، بعضها حضوري وبعضها غيابي، إضافة إلى خطايا مالية ومصادرة للأملاك في حقّ البعض.

مسار القضية.. إخلالات بالجملة

“أنستالينغو” هي شركة مختصة في صناعة المحتوى الإعلامي والترجمة، سبق لها أن قدّمت خدمات إعلامية لعدد من المترشحين في الانتخابات، بعضهم في الانتخابات الرئاسية لسنة 2019 التي فاز فيها الرئيس قيس سعيد بولايته الأولى.

انطلقت الأبحاث في ملف هذه الشركة أوّل مرة سنة 2021. واللافت أنها لم تكن بمبادرة من النيابة العمومية، وإنما بناء على وشاية “من شخص يحترف الابتزاز منذ سنوات صادرة في حقه أكثر من عشرة أحكام بالسجن والإدانة قبل تاريخ الوشاية وبعدها”، اتهم الشركة بامتلاكها صفحات على شبكات التواصل الاجتماعي” حسب ما جاء في بيان للشركة بتاريخ 5 فبراير/شباط 2025.

عرف المسار القضائي لهذه القضية العديد من التقلبات والتجاوزات أفقدته أدنى شروط المحاكمة العادلة، وجعلت من هذه المحاكمة حدثًا غير مسبوق في تاريخ القضاء التونسي بجميع اختصاصاته.

تداول كثيرون على تعهّد الملف، وكان يتم عزلهم بقرار سياسي في شكل مذكرة عمل من وزيرة العدل. فقد تمّ عزل أول وكيل للجمهورية ومساعده تعهّدا بالملف، ليتم تعيين وكيل ومساعد جديدين في 2022، تمّ عزلهما مرة أخرى بقرار سياسي.

نفس الشيء حصل مع قضاة التحقيق، فقد تم عزل أول قاضٍ للتحقيق تعهّد بالملف سنة 2021، وتمّ تعيين قاضٍ آخر تم عزله هو الآخر، إضافة إلى تكرار عزل قضاة آخرين تعاملوا مع الملف في العديد من المحاكم التي مرّ بها الملف.

لم يتوقف الأمر عند العزل السياسي المتكرر للقضاة، بل تعدّاه في الفترة الأخيرة إلى تغيير الجهة المتعهّدة بالملف من محكمة سوسة 2 إلى الدائرة الجنائية الثانية بالمحكمة الابتدائية بالعاصمة تونس التي قضت مؤخرًا بإدانة وسجن وزير العدل السابق والقيادي بحركة النهضة والنائب بالبرلمان الشرعي المنتخب سنة 2019، الأستاذ نورالدين البحيري بعشر سنوات سجنًا من أجل تدوينة أثبتت كل الاختبارات الفنية عدم وجودها أصلًا.

يضاف إلى قائمة الخروقات والإخلالات التي شابت كامل المسار القضائي لهذه القضية منع هيئة المحكمة للمحامين من الترافع عن بعض المتهمين، وعدم تقديم الأدلة والقرائن التي تدين المتّهمين.

قضاء سعيد..  قضاء التعليمات

المتتبع لأطوار هذه القضية يدرك بدون كبير عناء أنها مثال يعكس الحالة التي تردّى إليها القضاء في عهد الرئيس قيس سعيد، الذي أصبح بنصّ دستوره الذي وضعه بنفسه ولنفسه (2022) مجرّد وظيفة بعد أن كان في دستور الثورة (2014) سلطة مستقلة لها هياكلها التمثيلية المنتخبة، وأهمها المجلس الأعلى للقضاء قبل أن يحلّه قيس سعيد ويعوّضه بمجلسٍ أعلى منصّبٍ يعيش حالة من العطالة منذ أشهر عديدة نتيجة عدم تسديد الشغورات فيه.

كما أعفى قيس سعيد أكثر من خمسين قاضية وقاضيًا، أغلبهم بناء على الوشاية وبالشبهة، وقد حكمت المحكمة الإدارية ببطلان قرار الرئيس وقضت بإعادة المعزولين إلى وظائفهم السابقة، وهو ما رفضته وزيرة عدل الرئيس.

أحكمت سلطة قيس سعيد وضع يدها على المرفق القضائي بكل اختصاصاته العدلية والمالية والإدارية، ليفعل به ما يريد، ويستعمله ذراعًا لتصفية معارضيه السياسيين بأدوات قضائية ممسوكة ومتحكم فيها.

فقد تواترت الحالات الفجّة التي تدخلت فيها السلطة السياسية في سير المرفق القضائي لاستعماله في أجندتها السياسية الضيقة، حتى أصبح القضاء يعرف في عهد قيس سعيد بأنه قضاء التعليمات، وقضاء الأروقة أو الممرات “المضمونة” التي تقبل فيها سلسلة القضاة المتعهدين بنفس الملفات بتطبيق التعليمات، ولو أدى الأمر إلى خرق الإجراءات وانتهاك الحقوق وتجاوز كل الأعراف والقوانين.

صحيح أن المرفق القضائي لم يبلغ في كل الأزمنة السياسية التي عرفتها تونس الحديثة، بشيء من التفاوت، درجة المعافاة التامة، ولكنه وصل مع قيس سعيد إلى أقصى درجات الانحدار والعبث، فقد معها كل شروط العدل والنزاهة، وجعل كل مساراته من التحقيق إلى الحكم بمختلف درجاته ساحة للتنكيل بالخصوم السياسيين وتجريدهم من كل حقوقهم المكفولة في الدستور، وفي المواثيق والمعاهدات الدولية التي وقعت عليها تونس، وتصرّ سلطة سعيد على عدم احترامها لسبب بسيط ولكنه ثقيل في الميزان، وهو أن سعيد لا يؤمن بالحقوق ولا بالإجراءات ولا بالزمن القضائي، هو يؤمن فقط بأن القضاء وظيفة بين يدي الحاكم يستعملها كيف يشاء ومتى شاء من أجل تجريف الفضاء العام وإخلاء الساحة من خصومه ليتسنى له تحقيق مشروعه “الشخصي”.

تسييس للملف وأحكام صادمة

كثيرًا ما صرّح محامو الدفاع منذ نشر ملف القضية في 2021 أمام محكمة سوسة 2 (سوسة مدينة بالساحل التونسي) بأن الملفّ “لا شيء فيه” يمكن اعتماده دليل إدانة ضدّ أيّ من المتهمين بعد كل التحقيقات والاستنطاقات والاختبارات التي أجريت على مدار أربع سنوات كاملة، وبعد كل القضاة الذين تعاقبوا على الملف.

كما أثبتت الأبحاث والتحقيقات المجراة أن أيًّا من المتهمين من موظفي الشركة لا تربطه علاقة بأي سياسي أو أمني من المشمولين بالبحث في القضية، كما أن أيًّا من السياسيين والأمنيين لا تربطه علاقة بأي موظف من موظفي الشركة.

رغم كل ذلك، أصدرت الدائرة الجنائية الثانية بالمحكمة الابتدائية بالعاصمة أحكامًا صادمة وظالمة، تراوحت بين خمس سنوات وأربع وخمسين سنة سجنًا، إضافة إلى خطايا مالية ومصادرة للأملاك في حق البعض.

شملت هذه الأحكام الأستاذ راشد الغنوشي (84 سنة) رئيس البرلمان الشرعي المنتخب سنة 2019، ورئيس حركة النهضة المسجون منذ 17 أبريل/نيسان 2023 (وقع اعتقاله من بيته وقت إفطار ليلة السابع والعشرين من رمضان)، على ذمة قضايا أخرى عديدة بعضها صدرت فيها أحكامٌ بالسجن وخطايا مالية وأخرى لا تزال أمام المحاكم في انتظار البتّ فيها.

فقد حُكم على الأستاذ راشد الغنوشي غيابيًا باثنتين وعشرين سنة لمقاطعته المسار القضائي منذ إيقافه؛ لقناعته بعدم استقلالية المرفق القضائي، ولقناعته بأن سجنه كان بقرار سياسي استعمل فيه القضاء أداة، وأن خروجه من السجن سيكون بقرار سياسي أيضًا وليس قضائيًا.

ويؤكد فريق الدفاع عن الأستاذ راشد الغنوشي أنّ موكلهم لا علاقة له بشركة “أنستالينغو”، وأنه لا أفعال منسوبة إليه تبرّر الحكم الجائر الصادر في حقّه، وهو ما يثبت من وجهة نظرهم أن إقحام اسم الأستاذ راشد الغنوشي جاء لأغراض سياسية بحتة في غياب أي “أساس واقعي أو قانوني لإدانته والحكم عليه”، وإنما بتعلّة أن ” موقعه في الحزب وفي الدولة يجعله مطّلعًا بالضرورة على مثل هذه الملفات”، حسب بيان جبهة الإنقاذ الوطني الصادر بتاريخ 5 فبراير/شباط 2025.

شملت الأحكام الصادرة عددًا من عائلة الأستاذ راشد الغنوشي كلهم في حالة غياب، وهم ابنه معاذ الغنوشي المحكوم بـ(35 سنة)، وابنته سمية الغنوشي بـ(25 سنة)، وزوجها الدكتور رفيق عبدالسلام وزير الخارجية السابق بـ(35 سنة)، ما يجعل جملة الأحكام الصادرة في حق عائلة الغنوشي 117 سنة سجنًا.

إلى جانب الأستاذ راشد الغنوشي، شملت الأحكام عددًا من السياسيين من بينهم مسؤولون سابقون: (رئيس حكومة، وزيران ومسؤولان أمنيان)، إضافة لإعلاميين ومدوّنين وعدد من موظفي شركة “أستالينغو”.

ويؤكّد إقحام مثل هذه الأسماء وخاصة الأستاذ راشد الغنوشي حرص السلطة على تسييس الملف وتضخيمه للذهاب به بعيدًا في بناء سرديتها “المحبّبة إليها”؛ بأن هذه المحاكمات تأتي في سياق حرب التحرير الوطني التي أعلنها سعيد ضد الخونة والعملاء ووكلاء الصهيونية والمتآمرين مع الخارج ضد الأمن الداخلي والخارجي لتونس.

محاكمات فاضحة

المحاكمات “الهيتشكوكية” منتج طبيعي لانقلاب قيس سعيد ونهجه الاستبدادي في الحكم، وتعكس نظرته لنفسه باعتباره “مبعوث العناية الإلهية” الذي جاء من كوكب آخر لإنقاذ تونس والبشرية بأفكاره الجديدة التي لم يسبقه إليها أحد من الأولين، وتعكس نظرته “الدونية” للآخرين الذين لا يمكن أن يكونوا إلا رعايا بين يديه يفعلون ما يأمر به؛ لأنه وحده الذي يعرف ما يريدون، ومن يرفض منهم طاعته وموالاته فهو عدو وخائن تجب معاقبته بإسكات صوته وإخراجه من الفضاء العام والرمي به في السجن لسنوات طويلة.

إلى جانب ذلك، تبدو المحاكمات “الهيتشكوكية” أداة من أدوات حكم قيس سعيد يستعملها كلما احتاج إليها للتغطية على عجزه وفشله، ولتلهية الرأي العام وصرفه عن الاهتمام بمشاكله ومتاعبه.

بعد أربع سنوات من الحكم المطلق بدون أي منجز حقيقي يفيد التونسيين، ومع بداية سنة جديدة محفوفة بصعوبات متعاظمة وبمخاطر عالية، يطلق قيس سعيد، مرة أخرى، بالونة المعارضة والغنوشي والنهضة لتحقيق غرضين اثنين يحتاجهما:

  • الأول ليرضي بها أنصاره المتعطشين لأخبار اعتقال المعارضين وسجنهم والتنكيل بهم.
  • الثاني ليخفي عجز سلطته المتعاظم في تدبير شؤون الحكم وخاصة الاقتصادي الاجتماعي والسياسي، وعجزها عن إيجاد الحلول المطلوبة والمستدامة لمشاكل التونسيين ومعاناتهم اليومية خاصة مع تواصل التهاب الأسعار، وفقدان المواد الأساسية، وتراجع خدمات المرفق العمومي في النقل والتعليم والصحة وغيرها، وعجزها عن معالجة الاختلالات الهيكلية للمالية العمومية ولبنية الاقتصاد التونسي، وعجزها عن فكّ عزلتها الخارجية مع الدول والهيئات والمنظمات.

ربما كان قيس سعيد يعلم أكثر من غيره بأن حبل سياسة التغطية على المشاكل الحقيقية التي تعيشها تونس في ظل حكمه المطلق بإطلاق شعارات فضفاضة لا أثر لها في الواقع، وبإعلان حروب موهومة مثل حرب التحرير الوطني، حبل قاصر وقصير، قاصر؛ لأنه يعجز عن حلّ المشكلات، وقصير لأن طاقة تحمّل الشعب لمتاعب الحياة وعجز السلطة عن تحسين مستوى عيشه لها حدود لا أحد يعلم متى تصل إلى نهايتها.

 رغم ذلك يواصل قيس سعيد العمل بنفس السياسة فقط؛ لأنه لا يملك غيرها ولا يقدر على اجتراح السياسة المطلوبة لأن عقله السياسي محدود وخلفيته السياسية وتجربته في الحكم ضعيفتان، خاصة أمام تضخّم ذاته، الشيء الذي حجب عنه الواقع ومنعه من التعلّم.

محاكمة تؤشر لما بعدها

لكل ما تقدّم بيانه، تبدو الأحكام الصادمة والظالمة الصادرة رسالة واضحة وقوية لكل من يعارض الرئيس قيس سعيد ومساره، بأن السلطة ماضية في تسليط أقصى العقوبات السالبة للحرية، وأن الأحكام القادمة ستكون من جنس الأحكام الصادرة وربما أعلى وأشدّ.

بعد الحكم منذ أسابيع على الأستاذ نورالدين البحيري وزير العدل السابق والقيادي بحركة النهضة بعشر سنوات سجنًا من أجل تدوينة غير موجودة أصلًا، من المتوقع أن يصدر حكم قاسٍ جدًا ضد المهندس علي العريض رئيس الحكومة السابق والقيادي في حركة النهضة والمتهمين معه في قضية ما يُسمّى بتسفير “المقاتلين إلى الجبهة السورية”.

كما يتوقع أن تصدر أحكام قاسية أيضًا في حق القادة السياسيين الموقوفين منذ سنتين على ذمة ما يسمى بقضية “التآمر على الأمن الداخلي والخارجي لتونس”.

تضاف الأحكام الصادرة إلى العديد من الإجراءات القمعية التي اتخذتها سلطة قيس سعيد منذ انقلاب 25 يوليو/ تموز 2021 في التضييق على الحريات وانتهاك الحقوق.

ويتأكد مع كل إجراء قمعي جديد أن خيطًا ناظمًا يربط بين كل هذه الإجراءات يجعل منها خطة مكتملة الأركان تقف وراءها الثورة المضادة بمختلف روافدها، كل من موقعه، هدفها تصفية كل ما له صلة بالثورة ومكاسبها، من مؤسسات وهياكل وشخصيات وفاعلين، انتقامًا منها للمنظومة القديمة التي تبدو المستفيد الأكبر من سياسة قيس سعيد القمعية.

ليس من الصدفة أن يكون أغلب المعتقلين والمطاردين زمن حكم قيس سعيد من العائلة الديمقراطية الواسعة الذين ساهموا في الثورة وفي الانتقال الديمقراطي، في الحكم أو المعارضة، ومن الذين عارضوا الانقلاب وعملوا على استعادة الديمقراطية.

لن يتوقف قيس سعيد عن تدمير كل ما له صلة بالثورة والديمقراطية خاصة إذا تواصل تشتت المعارضة، وتواصل غياب مشروع وطني جامع.

لن تتوقف المحاكمات المشهدية الجائرة باستفاقة المرفق القضائي؛ لأن ذلك يبدو مستحيلًا في ظل منظومة قيس سعيد.

 ستتوقف هذه المحاكمات بإرادة سياسية عندما يتغير ميزان القوة لصالح المعارضة الديمقراطية، كما قال الأستاذ راشد الغنوشي.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version