يقول تقرير لمجموعة الأزمات الدولية إن الحرب الروسية على أوكرانيا أنهكت الطرفين بعد ما يقرب من 3 سنوات. ويقدر عدد الضحايا بمئات الآلاف، وفقدت كميات هائلة من المعدات العسكرية ودُمرت أجزاء كبيرة من أوكرانيا.

ولا تزال أكبر حرب برية تشهدها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية تشكل خطر التصعيد إلى مواجهة مباشرة بين الدول الغربية -التي تدعم أوكرانيا بالمساعدات العسكرية والاقتصادية- وروسيا، القوة النووية الأكبر في العالم.

وفي كييف، هناك فهم متزايد لحقيقة مفادها أن وقف إطلاق النار أكثر واقعية من تحقيق النصر في ساحة المعركة، ولو أن الأوكرانيين يعارضون أي اتفاق لا يحتوي على ضمانات أمنية لردع أي هجوم روسي متجدد.

ويرتفع مستوى التعب من الحرب في أوكرانيا لدرجة أن ناقش كبار الجنرالات “خطط السلام الروسية الزائفة”.

نموذج الحرب الكورية

وفي محادثات مع مجموعة الأزمات، أشار المسؤولون الأوكرانيون إلى هدنة عام 1953 التي أنهت الحرب الكورية (لكنها لم تسفر عن معاهدة سلام رسمية) كنموذج محتمل لإنهاء القتال. وبدأ الهمس الأوكراني بشأن وقف إطلاق النار المحتمل خلال الصيف في كييف، مع تجنب الحديث علنا لتجنب وصفهم بالانهزاميين.

وقال أحد المراقبين في كييف لمجموعة الأزمات “الناس البعيدون عن ساحة المعركة وطنيون في العلن، لكنهم في السر يقولون: متى النهاية؟”.

فقد أظهر استطلاع للرأي أجرته صحيفة “دزيركالو تيزنيا” الأوكرانية في أواخر يونيو/حزيران أن 44% من الأوكرانيين يعتقدون أن الوقت قد حان لإجراء محادثات سلام مع روسيا، في حين اعترض 35% على ذلك، و21% لا يعرفون.

وفي الوقت نفسه، قال 61% من المشاركين في الاستطلاع إن أوكرانيا لا ينبغي أن تقدم تنازلات، ويعتقد 66% منهم أنها ستحقق نصرا عسكريا.

وتشير مقابلات أجرتها مجموعة الأزمات مع قادة سياسيين وعسكريين أوكرانيين إلى رغبة جديدة في تصور شكل لوقف القتال، مما يعكس الشعور العام بالإرهاق.

دون أن يعني ذلك أن الأوكرانيين يفكرون في الاستسلام، فهم ينظرون لوقف إطلاق النار على أنه فرصة لأخذ قسط من الراحة وإعادة البناء والقتال مرة أخرى. كما يرى بعض الأوكرانيين أيضا أن توقف القتال يمثل فرصة لإعادة ضبط السياسة الداخلية.

فقد جمع فولوديمير زيلينسكي سلطات هائلة، مما أدى إلى تهميش البرلمان وخصومه السياسيين. ومن شأن وقف إطلاق النار أن يسمح بعودة الانتخابات وإمكانية التجديد السياسي، وهو احتمال سيرحب به بعض الأوكرانيين.

ويبدو أن هذا الوقت يعمل ضد كييف، وقد يبدو بمثابة حافز للتحدث عاجلا وليس آجلا.

موقف كييف التفاوضي

على افتراض أن التقدم الروسي في الشرق مستمر، فمن المرجح أن يتفاقم موقف أوكرانيا التفاوضي، وخاصة إذا تراجع الدعم الغربي.

لكن أغلب المسؤولين في كييف يعتقدون أن أفضل صفقة في الظروف الحالية ستكون كارثية لأوكرانيا في ظل عزوف الكرملين عن أي تسوية لاعتقاده في تحقيق الانتصار العسكري أو انتظار رؤية الإدارة الأميركية القادمة.

ويدرك الأوكرانيون أن الحرب بالنسبة للكرملين تدور حول حبس البلاد بالكامل في دائرة النفوذ الروسي.

من جانبه، يرفض زيلينسكي إجراء محادثات مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وطرح رؤيته الخاصة للمفاوضات وصيغة سلام من 10 نقاط تبدو أشبه بشروط استسلام روسيا حيث تتضمن إعادة موسكو للأراضي الأوكرانية، وانسحاب جميع القوات الروسية، ومحاكمة مجرمي الحرب الروس ودفع التعويضات.

قمة جنيف

وفي يونيو/حزيران، عقدت أوكرانيا وسويسرا مؤتمرا دوليا بهدف إظهار الدعم العالمي لصيغة السلام بمشاركة أكثر من 90 دولة، لكنها فشلت في توحيد تحالف عالمي خلف مطالب أوكرانيا.

وذكر البيان الختامي 3 نقاط فقط -وربما الأقل إثارة للجدل- من نقاط زيلينسكي العشر وهي أهمية السلامة النووية، والأمن الغذائي، وعودة السجناء.

ولم توقع الهند والسعودية وجنوب أفريقيا على البيان، في حين غابت الصين والبرازيل اللتان قدمتا في مايو/أيار الماضي اقتراحا مشتركا لإجراء محادثات سلام.

وفي حديثه عشية المؤتمر، ذكر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أنه مستعد لبدء المفاوضات في أقرب وقت وفق شرطين هما: انسحاب القوات الأوكرانية بالكامل من 4 مناطق أوكرانية –دونيتسك ولوغانسك، وخيرسون، وزاباروجيا ـ-باعتبارها أراضي روسية، وأن تتخلى أوكرانيا عن طموحها في الانضمام لحلف شمال الأطلسي (الناتو).

ويكرر القادة العسكريون في كييف العبارة القديمة أن “كل الحروب تنتهي بالمحادثات”. ورغم أن المحادثات غير محتملة الآن، لكن مطالب زيلينسكي وبوتين يمكن اعتبارها مجرد مواقف توضع على طاولة التفاوض وذلك يحكمه ميزان ساحة المعركة.

آثار الهجوم الروسي بالطيران المسير على العاصمة الأوكرانية كييف

نقاط التفاوض

رغم تعنت الجانبين، فإن نقاط التفاوض الرئيسية كانت واضحة لبعض الوقت. ففي الأيام الأولى من الحرب عام 2022، حاولت أوكرانيا وروسيا التوصل إلى نهاية للأعمال العدائية في سلسلة مفاوضات في روسيا البيضاء ومدينة إسطنبول التركية.

وتُظهر مسودة معاهدة، مؤرخة في 15 أبريل/نيسان 2022، ما سيكون على الأرجح مطروحا على الطاولة في أي مفاوضات مستقبلية.

فقد كانت أوكرانيا مستعدة للتحول إلى دولة محايدة بشكل دائم بالتخلي عن آمالها بعضوية الناتو مع تأجيل مناقشة مصير أراضي شبه جزيرة القرم وغيرها من أراض أوكرانية تسيطر عليها روسيا لوقت لاحق.

وبدت روسيا مستعدة لقبول عضوية أوكرانيا في الاتحاد الأوروبي وإجراء محادثات مباشرة بين بوتين وزيلينسكي.

وكشفت محادثات 2022 أيضا عن نقاط شائكة فيما يتعلق بحجم المؤسسة العسكرية الأوكرانية في مرحلة ما بعد الصراع، ورفضت أوكرانيا أن روسيا “دولة ضامنة” للأمن الأوكراني مع قبول ضمانة بريطانيا والصين وفرنسا والولايات المتحدة”.

وأصرت كييف على أن يكون للضامنين الحق في استخدام القوة العسكرية لوقف أي عدوان مستقبلي على أوكرانيا، في حين طالبت موسكو باستخدام حق النقض (الفيتو) على أي قرار من هذا القبيل.

هذا الطلب الأخير يبدو أنه دفع الأوكرانيين لوقف مواصلة المحادثات، وتلا ذلك تشدد مواقف الطرفين.

وتعقد الأمر بعد إعلان بوتين أن مناطق دونيتسك ولوغانسك وخيرسون وزاباروجيا بأكملها هي أجزاء لا تتجزأ من روسيا، في حين أن طلب تقليص حجم الجيش الأوكراني سيكون صعبا بعد تحوله لقوة قتالية صلبة.

كما أن ارتكاب ما قد يكون جرائم حرب محتملة واستهداف روسيا للبنية التحتية المدنية، جعلت الأوكرانيين أكثر تصميما على المطالبة بالتعويضات والعدالة.

تحديات السلام

إن التحدي الأساسي أمام أي اتفاق مستقبلي هو قدرته على الصمود، وليس مجرد فسحة لإعادة الأطراف تجميع صفوفها لجولة قتال أخرى.

كذلك أصبحت علاقة أوكرانيا بالناتو أكثر صعوبة، ذلك أن وحشية الحرب شكلت إجماعا واسعا بأوكرانيا على أهمية هذه العضوية وهو ما يناقض النظرة الروسية الرافضة لهذا الطلب.

ووصف أحد المستشارين صيغة زيلينسكي للسلام بأنها وسيلة لأوكرانيا لتحديد كيفية تصورها للسلام بعدم تكرار تجربة اتفاقيات مينسك التي لم يكن أمام كييف خيار سوى التوقيع عليها.

وذهب أحد الدبلوماسيين في كييف إلى حد وصف مبادرة زيلينسكي بأنها “مشروع غرور”. ووصف آخر الأمر بأنه تمرين في “التشجيع لأوكرانيا”.

وفي يوليو/تموز، شرع رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان، أشد منتقدي المساعدات العسكرية الأوروبية لأوكرانيا، في مهمة سلام حيث زار زيلينسكي أولا ثم سافر للقاء بوتين والرئيس الصيني شي جين بينغ والمرشح الرئاسي الجمهوري دونالد ترامب، لكن هذا التحرك فشل.

وفي وقت لاحق، ألقى أوربان دعمه لاقتراح من 6 نقاط قدمته الصين والبرازيل، لكن زيلينسكي رفضه.

ويتفق الطرفان الروسي والأوكراني على أن الانتخابات الأميركية ستكون حاسمة في مسار الحرب.

فمن المرجح أن يتواصل الدعم لأوكرانيا في حال فوز الديمقراطيين، وقد تسعى المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس لإنهاء الحرب بشكل أكثر نشاطا من جو بايدن، بينما يصف بعض المسؤولين الأوكرانيين وصول ترامب للرئاسة بأنه كارثي بسبب إعجابه الصريح ببوتين.

ورغم تصريحاته العدائية تجاه أوكرانيا وتعهداته بإجبارها على إبرام صفقة مع موسكو، لا يعرف حتى الآن كيف سيتصرف ترامب بشأن وعوده.

في يونيو/حزيران، قدم اثنان من مستشاري ترامب خطة لجلب طرفي الصراع للتفاوض تقوم على أساس تهديد بوتين بزيادة المساعدات العسكرية لأوكرانيا، وتحذير زيلينسكي من فقدان المساعدة الأميركية إذا رفض المحادثات.

والعناصر الرئيسية للخطة مألوفة من: وقف إطلاق النار على طول الخطوط الأمامية، أينما كانت في ذلك الوقت، وتأجيل عضوية أوكرانيا في حلف شمال الأطلسي.

وقد سمعت مجموعة الأزمات أفكارا مماثلة من محللين أوكرانيين وآخرين. وليس من الواضح كيف تحل الخطة المعضلة الأساسية المتمثلة في ضمان استدامة أي اتفاق لوقف إطلاق النار وحماية أوكرانيا من هجوم روسي آخر.

الجهود الممكنة

ورغم أن محادثات السلام الحقيقية تبدو بعيدة المنال، فمن الممكن أن تعلن كييف عن استعدادها للتحدث مع موسكو دون شروط مسبقة وهو ما من شأنه أن يضع عبء الرد على روسيا، ويعطي إشارة للعالم بأن أوكرانيا تسعى إلى الدبلوماسية.

ويمكن للدول الغربية، حتى أثناء تسليح أوكرانيا، أن تفعل المزيد بدعم الاقتراح الأوكراني للقاء مسؤولين روس دون شروط مسبقة. وقد يعمل الدبلوماسيون الغربيون أيضا خلف الكواليس لاستكشاف القنوات الحالية مع موسكو والمساعدة في تفعيل الوسطاء المحتملين.

ويبدو من المحتم تقريبا أن تضطر أوكرانيا إلى القبول بالخسارة المؤقتة للأراضي التي تسيطر عليها روسيا بالفعل.

وسيكون التحدي الرئيسي للمحادثات في الخلافات حول تعاون الجيش الأوكراني الأمني مع الغرب الذي ترى بعض عواصمه أن أي اتفاق يترك أوكرانيا بلا دفاع يشكل تهديدا لأمن القارة ككل.

بالنسبة لموسكو، فإن عضوية أوكرانيا في الناتو خط أحمر معلن، ويبدو أنها لن ترغب في التراجع عن هذا الهدف.

ومن المرجح أن يكون حجم وتسليح الجيش الأوكراني أحد أعنف نقاط الخلاف، وحتى في ظل الضمانات الأمنية، فإن كييف ستحتاج لجيش كامل التجهيز. كما سيكون التعاون العسكري مع الدول الغربية مثيرا للجدل أيضا.

حوافز لأجل السلام

يمكن أن تقدم أوكرانيا حوافز لروسيا ستسمح لها بوصف الصفقة بأنها ناجحة، مثل منح اللغة الروسية وضعا رسميا وتقييد الرموز والخطابات النازية، وهي خطوات يمكن أن تساعد بوتين في الادعاء بتطهير البلاد من النازية.

ومن الممكن أن يترك نظام العدالة الدولي يتولى ملاحقة مجرمي الحرب الروس، حتى مع استمرار المحاكم الأوكرانية في جمع الأدلة والبحث عن سبل للاعتراف بمعاناة الضحايا.

وأخيرا، يتعين على أوكرانيا وداعميها أن يخططوا لمستقبل أوكرانيا السياسي. وأي اتفاق مع روسيا سوف يغذي الاتهامات المتبادلة.

إن عودة السياسات المثيرة للجدل وحرية الصحافة من شأنها أن تؤدي إلى الغضب العلني الذي يغلي الآن تحت السطح.

وأي تسوية مع بوتين من شأنها أن تشعل مشاعر الاستياء، فقد يطالب المحاربون القدامى والمتطوعون وأسر قتلى الحرب بالانتقام، مما يزيد من مخاطر الاضطرابات وربما حتى العنف، ولذلك يتعين على كييف أن تعالج تلك المخاوف بأقصى قدر من الشفافية والشمول.

كما أن على أوكرانيا وداعميها أن يمهدوا الأرضية للمحادثات دون تقويض موقف أوكرانيا التفاوضي، ويكون ذلك على النحو التالي:

أولا: رغم أن موسكو قد ترفض إجراء محادثات دون شروط مسبقة، فإن كييف تستطيع ترك العرض على الطاولة.

ثانيا: أيا كان الشخص الذي يستعد لتولي البيت الأبيض، فإن الولايات المتحدة ستظل الدولة الأفضل للقيادة، مع كييف، في تحديد إستراتيجية تعزز موقف أوكرانيا التفاوضي، حتى لو لم يتحسن الوضع في ساحة المعركة.

وسوف يتطلب هذا إجراء المزيد من المحادثات الصريحة مع أوكرانيا وأنصارها الأوروبيين من أجل التوصل لإجماع بشأن الخطوط الأساسية قبل أي محادثات مع روسيا. ويجب أن تتم هذه المناقشات خلف أبواب مغلقة، لأنها قد تؤدي إلى إجهاد التحالف ولا شيء يضمن موافقة روسيا على أي شيء سيظهر. ولكن من دونها، يصبح التوصل إلى اتفاق مستدام أقل احتمالا.

شاركها.
Exit mobile version