تحمل مدينة حماة السورية في طياتها طبقات من تاريخ طويل للحضارة، والتدمير كذلك، ففي عام 720 قبل الميلاد، دمرها الجيش الآشوري بقيادة الملك سرجون الثاني، تاركا وراءه طبقات من الفخار التي تحمل آثاراً حيوية عن تلك الحقبة التاريخية.

وعبر قراءة مغناطيسية للفخار الذي بقي شاهدا على فترة التدمير التي تعرضت لها المدينة قبل 2700 سنة، وفي دراسة منشورة في “جورنال أوف أركيولوجيكال ساينس”، توصل الباحثون إلى أن الفخار، المصنوع من الطين، يمكن أن يحتفظ بمعلومات عن المجال المغناطيسي للأرض عند تسخينه لدرجات حرارة عالية.

ويقول الأستاذ بمعهد باريس للفيزياء الأرضية بجامعة “باريس سيتي” إيف جاليت، والباحث الرئيسي بالدراسة للجزيرة نت “عند العثور على هذا الفخار القديم، يمكننا قياس المغناطيسية المحفوظة فيه، لمعرفة شكل المجال المغناطيسي للأرض في ذلك الوقت، ثم مقارنة المعلومات التي يتم الحصول عليها مع ما هو معروف لدينا حول التغيرات في شدة المجال المغناطيسي في منطقة الشرق الأوسط في فترة تدمير حماة (720 قبل الميلاد) من قبل قوات سرجون الثاني، وبالتالي يمكن بدقة تحديد الفترات الزمنية التي كانت فيها هذه الأواني الفخارية قيد الاستخدام”.

فخار مدينة حماة السورية احتفظ بمعلومات عن المجال المغناطيسي للأرض (المتحف الوطني الدانماركي)

كيف تحتفظ المعادن بالبصمة المغناطيسية؟

ويشرح جاليت كيف تحتفظ المعادن المغناطيسية الموجودة في الطين ببصمتها المغناطيسية عندما يتم تسخينها، موضحا أنه “عندما يتم تسخين الطين إلى درجات حرارة تتجاوز 600 درجة مئوية أثناء عملية صناعة الفخار، تصبح المعادن المغناطيسية (مثل المغنيتيت) الموجودة في الطين حساسة للمجال المغناطيسي للأرض، وعند هذه الدرجة، تفقد تلك المعادن مؤقتا المغناطيسية التي اكتسبتها من الأرض، وبعد الانتهاء من عملية الحرق، يبدأ الفخار في التبريد، وأثناء تبريده، تعود المعادن إلى حالتها المغناطيسية الطبيعية، وخلال هذه المرحلة، تتأثر هذه المعادن بالمجال المغناطيسي للأرض في ذلك الوقت والمكان، وتقوم جزيئات هذه المعادن بالتوجه وفقا لاتجاه وقوة المجال المغناطيسي الأرضي عند التبريد”.

وبمجرد أن تنخفض درجة الحرارة إلى ما دون “درجة كوري” (حوالي 580 درجة مئوية لمعادن مثل المغنيتيت)، يتم “قفل” المغناطيسية في تلك المعادن بشكل دائم، وهذا التأثير يشبه تخزين معلومات مغناطيسية داخل الفخار، وهذه المعلومات يمكن أن تبقى محفوظة لآلاف السنين، كما يوضح جاليت.

وفي العصور الحديثة، يقوم العلماء بتحليل هذه المغناطيسية المحفوظة باستخدام تقنيات تُعرف باسم “قياس الشدة الأثرية” لقياس الشدة المغناطيسية المخزنة وتحديد العلاقة بينها وبين التغيرات في المجال المغناطيسي عبر الزمن.

ويقول إنه “بفضل هذه الآلية يمكننا استخدام الفخار القديم كأداة لفهم التغيرات في المجال المغناطيسي للأرض على مدى التاريخ، وتحديد أوقات تصنيع الفخار وأحداث مثل التدمير الذي قد يكون أثر على تلك المنتجات”.

كيف طبق الباحثون هذه الآلية؟

ولتطبيق هذه المنهج العلمي، جمع الباحثون 16 قطعة من الفخار من أنقاض مدينة حماة، وهذه القطع كانت من أوانٍ للاستخدام اليومي وعُثر عليها في مبان ملكية أو مهمة.

واستخدم العلماء جهازا خاصا لقياس المغناطيسية في الفخار يسمى “مغناطيسومتر ثلاثي المحاور”، لقياس المجال المغناطيسي الذي سجلته القطع الفخارية، ووجدوا أنه مختلف قليلا من قطعة لأخرى، حيث تراوحت القراءات بين 65 و81 ميكروتسلا، بمتوسط 74.2، وهذا التباين يرجع إلى أن هذه القطع الفخارية قد صُنعت في أوقات مختلفة قبل تدمير المدينة.

ولفهم هذه النتيجة، تخيل أنك تقوم بجمع أجهزة إلكترونية قديمة من مدينة تم تدميرها في الماضي، وهذه الأجهزة تحتوي على بطاريات تسجل نسبة الطاقة في وقت ما، فلو جمعت 16 جهازا من هذا المكان، ستجد أن مستوى الطاقة في كل جهاز مختلف قليلا لأن بعضها تم تصنيعه واستخدامه قبل فترة أطول من الأخرى، وبالتالي، حتى لو تم تدمير المدينة في اللحظة نفسها، فإن الأجهزة كانت تعمل لفترات مختلفة قبل هذا الحدث.

وفي حالة الفخار، فإن التباين في القراءات يعكس مدة استخدام هذه الأواني قبل تدمير المدينة، فبعض الأواني كانت قديمة، وكانت تستخدم لعدة عقود قبل تدمير حماة، بينما أخرى كانت جديدة نسبيا.

سيطرت فصائل مسلحة مناهضة للنظام السوري، الثلاثاء، على 18 قرية وبلدة بريف محافظة حماة وسط البلاد، لتصبح على بعد 6 كيلومترات من مدينة حماة مركز المحافظة. ودخلت الاشتباكات بين قوات النظام وفصائل مسلحة تقودها "هيئة تحرير الشام"، يومها السابع، لتمتد باتجاه مدينة حماة. ( Kinene Hindevi - وكالة الأناضول )
تحمل مدينة حماة السورية في طياتها طبقات من تاريخ طويل للحضارة (الأناضول )

التاريخ الطبيعي والمغناطيسي

وعبر القياسات المختلفة، وجد الباحثون أن هناك تنوعا في العمر الزمني للفخار، إذ أظهرت نتائج التحليل أن الأواني الفخارية التي فحصت قد تكون استخدمت لمدة 30 سنة على الأقل قبل تدمير المدينة، وهو أمر مفاجئ لأن هذه الأواني كانت للاستخدام اليومي ومن المفترض أن عمرها يكون قصيرا.

كما أشاروا إلى أن التغيرات في شدة المجال المغناطيسي كانت سريعة وشديدة خلال القرن الذي سبق تدمير المدينة.

إضافة إلى ذلك، أكد الباحثون أن شدة المجال المغناطيسي في المنطقة كانت موحدة تقريبا في الشرق الأوسط خلال تلك الفترة، مما يعني أن القيم التي تم الحصول عليها من مختلف المواقع الأثرية يجب أن تكون متشابهة إذا كانت القطع تعود إلى الفترة الزمنية نفسها.

وفيما يتعلق بإمكانية تعرض بعض قطع الفخار لحرارة متفاوتة نتيجة تدمير المدينة، أشار جاليت إلى أن الفخار بعد تصنيعه يحتفظ بمغناطيسيته الأصلية في درجة حرارة تصل إلى 580 درجة مئوية، لكن إذا تعرض لحرارة أعلى نتيجة للتدمير، فإن جزءا من هذه المغناطيسية الأصلية قد يتغير.

وأوضح قائلا “لهذا السبب قمنا بقياس المغناطيسية المتبقية عند درجات حرارة عالية لضمان تحديد المجال المغناطيسي الذي نشأ خلال التصنيع الأصلي للفخار”.

وعن الاختلافات في شدة المجال المغناطيسي بين قطع الفخار، أشار جاليت إلى أن هذه الاختلافات ليست ناتجة عن اختلاف المواد الخام أو أساليب التصنيع، بل تعود إلى اختلاف المواد المغناطيسية الموجودة في العينات.

ويقول: “القيم الأثرية للمجال المغناطيسي التي تم قياسها ليست متأثرة بنوع الطين أو إجراءات التصنيع، طالما أن الفخار تعرض للتسخين بدرجات حرارة عالية (600 درجة مئوية)”.

ويستطرد: “لكن يختلف السلوك المغناطيسي أثناء التجارب المعملية بناء على الخصائص المعدنية المغناطيسية لكل عينة، ففي بعض الأحيان، لا يمكن الحصول على قيمة للمغناطيسية بسبب عدم ملاءمة التركيب المعدني للعينة للتجارب، وفي هذه الحالة يتم رفض هذه القطع”.

ويختم جاليت إن “هذه النتائج تؤكد كيف يمكن استخدام الفخار القديم لتتبع التغيرات السريعة في المجال المغناطيسي للأرض، كما أنها تشير بوضوح لإمكانية تنفيذ تسلسل زمني للأحداث باستخدام معلومات مستخلصة من الأواني الفخارية، مما يعطي فكرة عن الفترات الزمنية التي كانت فيها هذه الأواني قيد الاستخدام”.

شاركها.
Exit mobile version