“فأخذ شمشون العمودين المتوسطين اللذين كان البيت قائما عليهما، وأسند عليهما… وقال: لتَمُت نفسي مع الفلسطينيين. وقوس على العمودين بقوة فسقط البيت”

  • (سفر القضاة 16: 29–30).

في صباح استثنائي من خريف 1956، كانت إسرائيل تشهر سيفها هي وفرنسا وبريطانيا في حرب ستعرف بالعدوان الثلاثي على مصر. ولكن خلف ضجيج المدافع وحركة الأساطيل، كان ثمة مشروع آخر يولد في الظل، مشروع أخطر من قصف المطارات واحتلال قناة السويس.

ففي ذات اليوم، وفي مكان بعيدٍ عن ساحات القتال، أمسك جندي إسرائيلي بقلم وكتب على جسم معدني بارد عبارة قصيرة: “لن يحدث ذلك مجددا”! قاصدا عهد الاضطهاد النازي في النصف الأول من القرن العشرين. ليس مهما من هو الجندي، ولا حتى مضمون العبارة، بقدر ما كان مهما أين كتبها.. لقد كتبها على أول قنبلة نووية إسرائيلية تنتجها إسرائيل!

ما قبل إسرائيل.. ولادة الفكرة الأولى

كان أرنست ديفيد بيرغمان رجلا نحيلا شاحب الملامح، ومدخنا شرها لا تفارق السيجارة يده. خلف ذلك الجسد الهزيل كان يختبئ العقل المدبر لأحد أخطر مشاريع إسرائيل على الإطلاق؛ مشروعها النووي. وُلد بيرغمان لأسرة يهودية بارزة؛ فوالده كان من كبار حاخامات برلين، وصديقا مقربا لاسم بارز في الحركة الصهيونية هو حاييم فايتسمان، عالم الكيمياء الحيوية الروسي اليهودي الذي استقر في بريطانيا.

في عام 1933؛ كانت السياسات النازية قد بدأت تخنق الوجود اليهودي في ألمانيا، حتى كان من شبه المستحيل أن يحصل أكاديمي يهودي على فرصة عمل في برلين. ولكن بفضل علاقة والده بفايتسمان، حصل بيرغمان على وظيفة في جامعة مانشستر، حيث سيواصل أبحاثه في شطر الذرة. وهناك، سيلفت انتباه اللورد تشيرويل، كبير المستشارين العلميين في حكومة تشرشل قبل الحرب العالمية الثانية.

عمل بيرغمان في مشاريع دفاعية لصالح بريطانيا، ورغم شح المعلومات عن طبيعة مهامه، فإن المؤكد أنه بحلول منتصف الثلاثينيات كانت له اتصالات وثيقة بالحركة الصهيونية. لم يكن وحده في ذلك؛ ففايتسمان نفسه كان على صلة وثيقة بالمشروع الصهيوني في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

لاحقا؛ ستطلب الحركة الصهيونية من فايتسمان أن يرسل أحد المتخصصين في الكيمياء إلى فلسطين للمساهمة في إنتاج مادة شديدة الانفجار لاستخدامها ضد البريطانيين والعرب.

وبالطبع تبدو القصة واضحة؛ إذ لم يكن أمام فايتسمان من خيار أفضل من ابن الحاخام، سيذهب بيرغمان إلى الأراضي المقدسة، وهناك سيصبح عضوا في اللجنة الفنية لـ”الهاغاناه”، وسيترقّى فيها لدرجة أنها ستختاره عام 1939 للسفر إلى فرنسا لتبادل الخبرات مع علماء فرنسيين كانوا في تلك الفترة يخوضون مواجهات استعمارية في شمال أفريقيا.

عاش بيرغمان تجربة النازية حتى نهايتها بهزيمة هتلر، ثم استقر في فلسطين ليساهم في تأسيس “معهد فايتسمان للعلوم” جنوب تل أبيب. حاول فايتسمان لاحقا إقامة تعاون مع أوبنهايمر وفريق “مشروع مانهاتن”، إلا أن محاولاته باءت بالفشل رغم دعوتهم مرارا وتكرار لزيارة فلسطين المحتلة.

برز اسم بيرغمان في المجتمع العلمي الإسرائيلي بعد نكبة 1948، حيث قُدّم باعتباره عالما لامعا في الكيمياء العضوية ومديرا لقسم الكيمياء في “معهد فايتسمان”، قبل أن يتولى رئاسة لجنة الطاقة الذرية الإسرائيلية. وفي الظهور الإعلامي النادر له، كان يتحدث عن ضرورة امتلاك إسرائيل للطاقة النووية “لأغراض سلمية”، خاصة في ظل عداوة الدول العربية وعدم إمكانية الاعتماد على النفط المستورد منها.

أبلغ بيرغمان المقربين منه أن حقول الفوسفات الضخمة في المنطقة لا تحوي سوى كميات محدودة من اليورانيوم. لكنه في عام 1953، قاد فريق الباحثين في “معهد فايتسمان” لتطوير تقنية لإنتاج الماء الثقيل اللازم لتشغيل المفاعلات النووية.

وفي العام التالي، أعلن بفخر تقدم إسرائيل في “الأبحاث النووية السلمية”. كما انضمت إسرائيل في عهد الرئيس الأميركي أيزنهاور إلى برنامج “الذرات من أجل السلام”، الذي منحها أول مفاعل نووي “لأغراض سلمية”.

لم يكن بيرغمان مخادعا بالكامل؛ فقد كان يؤمن بالفعل بجدوى الطاقة النووية السلمية، لكنه كان يدرك أيضا أن هذا المشروع يمثل الغطاء الأمثل للتوجه نحو تصنيع القنبلة النووية. وقد وجد حليفا سياسيا وفكريا يؤمن أكثر منه بضرورة امتلاك إسرائيل للردع النووي، هو دافيد بن غوريون، وشابا آخر يدعى شمعون بيريز عُيّن وزيرا للدفاع في الثلاثين من عمره، وأخضع لجنة الطاقة الذرية لإشرافه المباشر.

ثلاثةُ رجال، وحُلمٌ مشترك، وإيمانٌ عميق بالمشروع. لم يكن ينقصهم إذن سوى شيء واحد؛ الحليف.

عصابات الهاغاناه (غيتي)

حين فتحت فرنسا أبواب المفاعل

في ظلال كابوس لا ينقضي؛ كان يعيش دافيد بن غوريون أول رئيس وزراء لإسرائيل، إذ لم يكن يرى العرب أقل خطرا على اليهود من النازيين؛ بل كان يرى في جمال عبد الناصر صورة محدثة لهتلر.

لذا؛ فقد اعتبر الردع النووي الضمانة الوحيدة لئلا تتكرر “المحرقة”. فقد كان يعتقد أن العرب لن يتخلوا عن حلم تدمير إسرائيل إلا إذا أيقنوا أن هذه الدولة الصغيرة تمتلك القدرة على إبادتهم إن هم حاولوا ذلك.

كان بيرغمان يقاسم بن غوريون هذا الاعتقاد، وكان يردده علنا: “أنا مقتنع بأن دولة إسرائيل تحتاج إلى برنامج أبحاث دفاعي خاص بها، حتى لا نصبح بعد الآن خرافا نُساق إلى المذبح”.

وعكس ما قد يُتوقع، فإن الحليف الذي كان سيقود إسرائيل إلى عتبة النادي النووي هو فرنسا، وليس الولايات المتحدة، إذ لم تكن علاقة تل أبيب بواشنطن على أفضل حال في ذلك الوقت.

كما تزامن احتياج إسرائيل في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات مع احتياجات فرنسا للردع النووي، إذ لم تكن باريس قد توصلت بعد إلى حيازة السلاح النووي الذي امتلكه الأميركيون والبريطانيون والسوفيات.

كان قرار حيازة القنبلة النووية محط خلاف في الداخل الإسرائيلي، فقد كان جزء من قادة حزب العمل يرون في حيازة السلاح النووي انتحارا “للدولة” الناشئة، لكن بن غوريون وفريقه كانوا مصرّين. أما في فرنسا، فقد كانت النقاشات لا تقل سخونة، مع تصاعد الحرب الباردة وعزلة البلاد عن برامج السلاح النووي رغم إسهامات علمائها في أبحاث الانشطار.

حين شرع الفرنسيون في بناء مشروعهم النووي، الذي جرى لاحقا اختباره في الجزائر ومستعمرات أخرى، كان فريق أرنست بيرغمان يعمل إلى جوارهم. سمح الفرنسيون للإسرائيليين بالولوج إلى قلب مجتمعهم النووي السري، وهو امتياز لم يمنح لأي طرف آخر. وبحسب بعض الشهادات، كان العلماء الإسرائيليون يتحركون بحرية شبه مطلقة في تلك المنشآت.

استفاد الفرنسيون من براعة الإسرائيليين في الحوسبة العلمية، وهو عامل حاسم في ذلك العصر. لكن المسألة لم تكن تقنية فحسب؛ فقد وجد بعض الفرنسيين الذين شاركوا في المقاومة ضد النازيين رابطا عاطفيا مع إسرائيل، متأثرين بما تعرض له اليهود في أوروبا.

من بين هؤلاء العلماء الفرنسيين الذين كانوا يتعاطفون إلى حدّ التماهي مع الإسرائيليين، برتران جولد سميث. كان جولدسميث يهوديا، وزاد ارتباطه بإسرائيل بزواجه من عائلة روتشيلد، التي موّلت الهجرات اليهودية إلى فلسطين بملايين الدولارات. في أوائل الخمسينيات، أدى جولدسميث “حجا” إلى القدس المحتلة ضيفا على بيرغمان، والتقى هناك بن غوريون في لقاء ترك أثرا بالغا فيه.

لاحقا، قال إن الفرنسيين لم “يساعدوا” الإسرائيليين على صنع السلاح، بل سمحوا لهم فقط بمعرفة ما يعرفونه، مضيفا: “في الخمسينيات والستينيات كان امتلاك سلاح نووي يُعد إنجازا تُتلقَّى التهنئة عليه، وليس وصمة عار كما هو الحال اليوم”.

بدأت هذه الشراكة تؤتي ثمارها سريعا. ففي عام 1953، نجح فريق معهد فايتسمان في إنتاج الآلية الأيونية اللازمة لتصنيع الماء الثقيل، وابتكر طريقة أكثر كفاءة لاستخراج اليورانيوم. وقد بيعت الاكتشافات لفرنسا، ومهدت الصفقة الطريق لتوقيع اتفاق رسمي للتعاون في الأبحاث النووية.

وفي يناير/كانون الثاني؛ هبت الرياح بما تشتهي سفن تل أبيب، حيث سقطت الحكومة الفرنسية، وتولى الاشتراكي غي مولي رئاسة الوزراء. كان الرجل أكثر تشددا اتجاه الثورة المشتعلة في الجزائر من سلفه، ومن ثم أكثر عداءً لخصم إسرائيل الأول، جمال عبد الناصر.

توطدت العلاقات الفرنسية الإسرائيلية بوتيرة متسارعة، عبر صفقات سلاح، واتفاقيات عسكرية، وتنسيق استخباري واسع. عند هذه النقطة، رأت تل أبيب أن اللحظة قد حانت لطلب المساعدة الحاسمة من باريس لبناء برنامجها النووي العسكري

فالإسرائيليون أدركوا أن إنشاء مصنع لإعادة المعالجة الكيميائية، وهو قلب مشروع القنبلة، لن يكون ممكنا من دون فرنسا. لكنّ أمامهم عقبتين ثقيلتين؛ الأولى مالية، إذ وصف وزير المالية ليفي أشكول كلفة المشروع بأنها “جنونية”، والثانية أمنية تتعلق بالإبقاء على الأمر طيّ الكتمان.

في البداية، فكرت إسرائيل في بناء المفاعل داخل معمل نبيذ قديم في ريشون لتسيون، لكن الفحوص أظهرت عدم ملاءمة الموقع. تقرر نقل المشروع إلى منطقة ديمونة في صحراء النقب قرب بئر السبع، على أن يُسوّق رسميا باعتباره مصنع نسيج.

أُرسلت الأموال من تل أبيب إلى باريس، وبدأ مهندسو شركة سانت جوبان الفرنسية العمل على المشروع وسط دهشة من طموحه الهائل.

فالمخططات نصّت على قدرة قصوى تبلغ 24 ميغاواتا حرارية، لكن تفاصيل التصميم، بدءا من قنوات التبريد إلى منشآت النفايات، أظهرت أن المفاعل سيعمل فعليا بثلاثة أضعاف هذه القدرة، بما يعني إنتاج أكثر من 22 كيلوغراما من البلوتونيوم سنويا، وهي كمية تكفي لصنع أربع قنابل نووية بطاقة تفجير تماثل قنبلتي هيروشيما وناغازاكي، بل تتجاوز إنتاج المفاعلات الفرنسية ذاتها في ذلك الحين!

عصب برنامج إسرائيل النووي.. تعرف على مفاعل ديمونة

الأميركيون.. مجرد أغيار!

بطبيعة الحال؛ لم تخبر إسرائيل الولايات المتحدة بحقيقة طموحاتها النووية، لكن الأقدار ساقت واشنطن لرصد مشروع إسرائيل مبكرا. ففي بدايات تصاعد التنافس الأميركي السوفياتي؛ ومع اشتعال سباق التسلح، انشغلت الولايات المتحدة بهوس دائم بمتابعة تطور البرنامج السوفياتي، في وقت كانت المعلومات شحيحة إلى حين ظهور فريق الاستطلاع المصوَّر التابع لوكالة الاستخبارات المركزية، باستخدام طائرة التجسس يو-2.

أتاحت الطلعات الأولى للطائرة أدلة مهمة عن التقدم النووي السوفياتي، لكنها لم تكتف بذلك. فعيون واشنطن اتجهت أيضا إلى الصحراء الفلسطينية، حيث كانت إدارة أيزنهاور غاضبة من إصرار إسرائيل على إخفاء قدراتها العسكرية، خاصة قبيل غزو السويس عام 1956.

فجأة، رصدت “يو-2” نشاطا مكثفا في ميدان تدريب تابع لسلاح الجو الإسرائيلي جنوبي بئر السبع. ورغم صعوبة تفسير كل التفاصيل، كانت التقارير تتدفق على البيت الأبيض، لتصبح أحد شواغل أيزنهاور حتى نهاية ولايته.

أحد الاكتشافات البصرية المحورية كان تطويق منطقة قاحلة مساحتها نحو 12 ميلا مربعا خارج ديمونة بسياج. في البداية، ظن المحللون الأميركيون أنها ساحة لاختبار الذخائر، لكن الصور اللاحقة كشفت عن آلات ثقيلة، وأعمال حفر عميق، وتدفق الإسمنت إلى منشآت تحت الأرض. عندها، أدركت واشنطن أن الأمر يتجاوز مصنع نسيج أو مستودعا عسكريا؛ إنه مشروع نووي.

أثار البناء في ديمونة قلق وكالة الاستخبارات المركزية، لكن الغريب أن البيت الأبيض لم يُبد الحماسة ذاتها. كانت الردود على تقارير “السي آي إيه” تنتهي بجمل مقتضبة: “شكرا لكم” و”هذا لن يُنشر، أليس كذلك؟”.

سرعان ما علمت إسرائيل بطلعات “يو-2″، فبدأت تستخدم شاحنات مغلقة لإخراج أنقاض الحفر والنفايات يوميا، في سرية تامة. ومع اكتمال المفاعل، تراجعت قيمة الصور الجوية، ومرت سنوات قبل أن يتمكن الأميركيون من التأكد مما إذا كانت إسرائيل قد انتقلت فعلا إلى مرحلة إنتاج السلاح.

حاول الأميركيون إيجاد ذرائع لدخول المنطقة، مثل شراء النبيذ، وأرسلت “السي آي إيه” محققين مزودين بكاميرات أوتوماتيكية ذات عدسات خاصة.

في السنوات الأولى، نجح قلة منهم في التقاط صور جيدة، حتى طلب منهم تصوير النباتات المحيطة بحثا عن آثار البلوتونيوم أو المعادن المنصهرة. ورد الإسرائيليون بزرع أشجار عالية تحجب الرؤية. بنهاية 1959، أصبح يقين واشنطن قويا بأن إسرائيل “تطبخ” مشروعها النووي، لكن أيزنهاور ومستشاريه اختاروا دفن رؤوسهم في الرمال.

تعددت التفسيرات لهذا الموقف المتساهل. من بينها التعاطف الأميركي العميق مع اليهود، خاصة أن إنقاذهم لم يكن أولوية للحلفاء في الحرب العالمية الثانية، إذ كان الهدف الأول إسقاط الرايخ، وليس تحرير معسكرات الإبادة.

أحد أبرز الأمثلة كان لويس شتراوس، المستشار الرئاسي لشؤون الطاقة الذرية، وهو رجل يهودي كان على اطلاع دائم بتقارير ديمونة، لكنه لم يبد يوما تعليقا أو اعتراضا، وكأنه متصالح تماما مع امتلاك إسرائيل للسلاح النووي. في عام 1991، صرحت زوجته، قبل وفاتها بوقت قصير، بأنه رغم تكتمه الشديد، كان اقتناعه راسخا بضرورة امتلاك إسرائيل قوة نووية تضمن بقاءها وسط محيط معادٍ.

ربما كان شتراوس، شأن كثير من اليهود الأميركيين، يعتبر أن قضية “الولاء المزدوج” يجب ألا تُثار علنا. كانوا يخشون أن يُنظر إلى تأييدهم لإسرائيل على أنه يعلو على ولائهم للولايات المتحدة، وفي الوقت نفسه كانوا يتوجسون من أن يدرك العرب حجم هذا التعاطف، فيتصاعد شعورهم بوجود “مؤامرة يهودية” ضدهم، مما يدفعهم بدورهم إلى السعي المحموم نحو قنبلتهم النووية.

أسطورة شمشون من المعبد إلى ديمونة

لنقفز إلى الأمام قبل أن نعود خطوات إلى الوراء. في لندن، عام 1986؛ تلقى الفيزيائي والصحفي في صنداي تايمز، بيتر هونام، رسالة غامضة من شخص يزعم أنه عمل على المشروع النووي الإسرائيلي. بعد تدقيق وحذر، تأكد هونام أن المرسل، مردخاي فعنونو، كان بالفعل فنيا في خلية إنتاج البلوتونيوم، ويحمل معلومات حساسة.

عبر لقاءات متكررة، أمدّ فعنونو الصحفي البريطاني بتفاصيل دقيقة، لم تقتصر على طبيعة المشروع، بل شملت أيضا رسما لمبنى شديد السرية ظل عصيا على التصوير حتى من الأرض.

وقبل نشر التحقيق، استدعى رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، شمعون بيريز، رؤساء تحرير الصحافة العبرية، محذرا من إعادة نشر أو حتى الإشارة إلى ما ستنشره الصحيفة البريطانية، بذريعة الأمن القومي.

صدرت القصة، وبدأت إسرائيل حملة مطاردة لفعنونو. كان يتنقل في أوروبا بين بريطانيا وإيطاليا برفقة سائحة أميركية. هونام شكّ في أن هذه المرأة ليست أميركية، بل عميلة للموساد، وحذر فعنونو، لكن الأخير طمأنه.

وكما كان متوقعا، اختفى فعنونو فجأة. لاحقت التحقيقات خيوطه حتى وصلت إلى “سيندي”، امرأة تحمل الجنسية الأميركية والإسرائيلية، وزوجة عميل للموساد. أغرته بعلاقة عاطفية، ثم دست له مخدرا في روما، ليختطفه الموساد إلى تل أبيب.

حُوكم فعنونو بتهمة الخيانة العظمى وإفشاء أسرار الدولة، وحُكم عليه بالسجن 18 عاما. لم يكن غضب إسرائيل منصبا فقط على كشف أسرار المشروع، بل على الإضرار بإستراتيجية الدولة في إدارته التي سميت “الردع عبر الغموض”.

فإسرائيل تحب أن يُكتب عن برنامجها النووي، عن شائعات قوته وأمراض غامضة أصابت بعض العاملين فيه، لكن من دون أي تفاصيل تقنية أو اعتراف رسمي. هذا “الغموض المقصود” كان يمثل شبه إجماع بين النخبة السياسية والجمهور الإسرائيلي.

لكن لنعد إلى ما قبل ذلك بكثير. رغم أن الحركة الصهيونية نشأت علمانية، وهرتزل نفسه كان ملحدا ساخطا على الدين، فإن توظيف الأساطير التوراتية والمصطلحات الدينية ظل ركيزة أساسية في سردية دولة الاحتلال. فالقوة التعبوية للأسطورة الدينية تتجاوز البراغماتية العلمانية، خاصة حين تُبنى دولة من أجل القتال بالسردية وبالسلاح معا.

وسط هذه السردية، نشأت فلسفة الخيار شمشون، وهي عقيدة نووية انتحارية يؤيدها أنصار السلاح النووي في إسرائيل. تعود القصة إلى شمشون التوراتي، الذي أسره الفلسطينيون وفقؤوا عينيه وعرضوه في معبد داجون بغزة. في النص المقدس، دعا شمشون “رب إسرائيل” ليمنحه قوة أخيرة، فصرخ: “عليّ وعلى أعدائي الفلسطينيين”، ودفع أعمدة المعبد حتى انهار عليه وعلى خصومه.

داخل إسرائيل، أثارت فكرة امتلاك السلاح النووي نقاشا أخلاقيا بين بعض المثقفين واليساريين. لكن الغالبية السياسية رأت أن الإبادة المتبادلة قد تكون ثمنا مقبولا لمنع تكرار ما جرى لليهود في الحرب العالمية الثانية. فإذا كان مصير إسرائيل الفناء، فالأجدى أن يسقط معها أعداؤها.

منذ نشأتها، حملت إسرائيل إلى العالم العربي مزيجا من الصدمة النفسية النازية والرؤية المعادية للعرب، مسلميهم ومسيحييهم.

حاول الوافدون الجدد ترويج صورة المهاجر الذي يعمّر أرضا مهجورة، كما في فلسفة “الكيبوتس” التي مزجت العمل الزراعي بالأمان بعد العذاب. لكن الواقع أن إسرائيل قامت على السلاح؛ فإراقة الدماء، والكثير منها، كانت القربان الذي يضمن بقاء “دولة الشعب المختار”.

لهذا كان امتلاك القنبلة النووية، بدعم فرنسي وتغاضٍ أميركي، هدفا إستراتيجيا مبكرا. ومع ذلك، لم تحتج إسرائيل حتى الآن إلى استدعاء أسطورة شمشون لتدمير نفسها مع أعدائها؛ فهي تمارس منذ 1948 إبادة الشعب الفلسطيني بوسائل تقليدية. واليوم، تُبَثّ مذبحة غزة وتجويعها على الشاشات بأعلى جودة، من دون أن يحرّك العالم ساكنا. ويبدو أن الشعار المفضل لدى إسرائيل الآن ليس “عليّ وعلى أعدائي”، بل ما رددته بعض الأوساط الصهيونية الأولى: “لن نكون أبدا ضحايا نازيين جدد… سنكون نحن من يلقي القنبلة على هيروشيما”.

شاركها.
Exit mobile version