بالتزامن مع توسيع إسرائيل عمليتها العسكرية في قطاع غزة، والاستعداد لمرحلة توصف بأنها “الأكثر وحشية”، خرج أكثر من مليون متظاهر في شوارعها رفضا لاستمرار الحرب ومطالبين باستعادة الأسرى.

مشهد داخلي غير مسبوق، يضع حكومة بنيامين نتنياهو أمام ضغط داخلي متعاظم في وقت تحاول فيه فرض معادلة عسكرية وسياسية قائمة على استمرار السيطرة الأمنية والتمسك بأجندة اليمين المتطرف.

وفي قراءة أولية، لا تبدو دوافع الحراك الإسرائيلي ذات بعد إنساني أو تعاطف مع غزة، بل تنبع من قناعة بأن الحرب فقدت جدواها ولم تعد تحقق مكاسب إستراتيجية أو سياسية.

وهنا يلفت الأكاديمي المتخصص بالشأن الإسرائيلي مهند مصطفى إلى أن اتساع المظاهرات ليشمل قطاعات من الطبقة الوسطى ودوائر أكاديمية وخدمية، يمثل تحولا كبيرا.

إذ رفع المحتجون للمرة الأولى شعار “وقف الحرب” بشكل صريح، مما أزعج الحكومة الإسرائيلية، لكنها تعاملت مع الاحتجاجات بوصفها تهديدا للأمن القومي.

فقد اعتبر نتنياهو أن الدعوات لإنهاء الحرب تشجع حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وتبعد استعادة الأسرى، في حين ذهب وزير المالية بتسلئيل سموتريتش إلى حد وصف المظاهرات بأنها “حملة شريرة” تدفع إسرائيل نحو الاستسلام.

خشية حقيقية

وبرأي مصطفى، فإن هذه اللغة المتوترة تعكس خشية فعلية من أن يؤدي اتساع الحراك إلى شلل اقتصادي إذا ما انضمت إليه نقابات تجارية كبرى مثل “الهستدروت”، مما قد يجعل استمرار الحرب خيارا مكلفا إلى حد يفوق قدرة الحكومة على تحمله.

وفي السياق، يرى الباحث في الشؤون الدولية حسام شاكر أن ما يجري لا يمكن قراءته بمعزل عن الغطاء الأميركي، الذي يمنح إسرائيل هامشا واسعا لمواصلة “حملة إبادة جماعية وتطهير عرقي”، على حد وصفه.

ويشير شاكر إلى أن الإدارة الأميركية تنشغل بالحديث عن المساعدات الإنسانية لتغطية واقع المذابح والتجويع، في وقت تتواصل فيه العمليات العسكرية بأدوات أميركية وبمعرفة واشنطن المسبقة بتفاصيلها.

ومن هذا المنظور، تبدو المفاوضات بالنسبة إلى تل أبيب مجرد ستار لتخفيف الضغط الدولي، في حين تُستخدم العمليات العسكرية وسيلة ضغط لفرض تهجير الفلسطينيين وخلق واقع ديمغرافي جديد في القطاع.

أما من زاوية الموقف الأميركي الرسمي، فيوضح المسؤول السابق بالخارجية الأميركية توماس ووريك أن إدارة الرئيس دونالد ترامب لا تعطي الحرب في غزة أولوية مقارنة بالملف الأوكراني، لكنها في الوقت نفسه ترى أن الخيار العسكري هو السبيل الوحيد لإطلاق سراح الأسرى.

ورغم انتقادات المنظمات الدولية لسقوط عشرات الآلاف من الضحايا المدنيين، فإن ووريك يعتقد أن واشنطن لن تفرض قيودا على العمليات الإسرائيلية، بل ستركز على زيادة المساعدات الإنسانية.

وهذا الموقف، كما يعلق شاكر، يمثل وصفة مثالية لإطالة أمد المأساة وتحميل الضحية مسؤولية استمرارها.

عدو وجودي

المفارقة أن العقلية الإسرائيلية التي تدير الحرب اليوم، كما يوضح مصطفى، لم تعد عقلية إستراتيجية تبحث عن تسوية سياسية كما كان الحال في الماضي، بل عقلية أيديولوجية متطرفة تعتبر الفلسطيني “عدوا وجوديا” يجب إلغاؤه بالكامل.

فالشروط التي تضعها حكومة نتنياهو، من نزع سلاح غزة وفرض السيطرة الأمنية الدائمة ورفض أي حكم فلسطيني، ليست سوى وصفة لفشل أي مفاوضات مستقبلية.

ويذهب مصطفى إلى أن مثل هذه المقاربة غير مسبوقة في إدارة الصراعات، إذ تجعل نجاح المفاوضات مرادفا لإلغاء الطرف الآخر، وفشلها مرادفا لإصراره على البقاء.

أمام هذه الصورة، تبدو إسرائيل -حسب محللين- عالقة بين ضغط داخلي متعاظم وخطاب أمني متشدد ودعم أميركي مشروط بالاعتبارات الإنسانية.

وإذا كان نتنياهو يحاول استثمار المظاهرات لتصويرها بوصفها خدمة لـ”حماس”، فإن اتساعها إلى قطاعات اقتصادية واجتماعية أوسع قد يجبره على مراجعة حساباته، فكلما ارتفعت كلفة الحرب بشريا واقتصاديا، ازدادت صعوبة الاستمرار فيها دون مواجهة انفجار داخلي يصعب احتواؤه.

ورغم أن الحراك الشعبي الإسرائيلي لم يصل بعد إلى مستوى قادر على فرض تغيير جذري في مسار الحرب، فإن مجرد ظهوره بهذا الحجم وفي خضم العمليات العسكرية يمثل سابقة تاريخية، قد تفتح الباب لاحتمال أن يكون الداخل الإسرائيلي هذه المرة عاملا ضاغطا لا يمكن لنتنياهو تجاهله.

شاركها.
Exit mobile version