وكأنها نكتة سياسية أو مشهد من مسرحية ساخرة، ظهر الرئيس الأميركي دونالد ترامب وهو يوقع على قرار يسمح بإعادة تعريف “رأس الاستحمام”، وهو القطعة التي تركب أعلى “الدُّش”، متحدثا وهو يضحك عن أنه تضرر كثيرا على المستوى الشخصي من هذه القطع المتوفرة بالأسواق، والتي لا تسمح بتدفق أقوى للمياه، مما يضطره للوقوف مدة لا تقل عن 15 دقيقة حتى تصل المياه إلى شعره.

ورغم الأجواء الساخرة التي أسبغها ترامب على هذا المشهد، فإن خبراء تحدثوا للجزيرة نت، عن أن القضية أعمق من محاولة تمريرها عبر بوابة إعادة الرفاهية المفقودة للمواطن الأميركي، حيث تختبئ خلف هذا القرار معركة قديمة بين التوجهات البيئية والسياسات الشعبوية، وفلسفة الحكم التي تفضل “التوجهات المنفردة” على حساب القوانين الاتحادية.

تعود جذور هذه المعركة إلى عام 1992 مع صدور قانون الطاقة الفدرالي (بيكسابي)

معركة عمرها 33 عاما

وتعود جذور هذه المعركة إلى عام 1992 مع صدور قانون الطاقة الفدرالي، والذي كان يقضي في أحد بنوده، ألا تتجاوز كمية المياه التي تضخها تلك القطع أكثر من 2.5 غالون (9.5 لترات) في الدقيقة، في محاولة لترشيد استهلاك المياه والطاقة.

ولاحظت إدارة الرئيس باراك أوباما تحايل بعض المصنعين على القانون، بأن يحتوي رأس الاستحمام الواحد على عده فوهات، فكانت كل فوهة تعطي ما حدده القانون، لكن في المجمل كان يحدث هدر كبير للمياه بسبب تعدد الفوهات، فتم في عهد أوباما تشديد معايير تطبيق القانون، بحيث إذا احتوى رأس الاستحمام على عدة فوهات، فإن الحد الأقصى (2.5 غالون/دقيقة) يطبق على المجموع الكلي لكل الفوهات، وليس على كل فوهة على حدة.

وفي نهاية الفترة الرئاسية الأولى لترامب في عام 2020، انتقد هذه القيود التي وضعتها إدارة أوباما، والتي تمنعه من الحصول على ماء كافٍ لغسل شعره، وأمر بتعديل اللوائح للسماح لكل فوهة بضخ 2.5 غالون/دقيقة، ما يعني أن رأسا بـ3 فوهات مثلا يمكنه ضخ 7.5 غالونات في الدقيقة.

ومع تولي جو بايدن للرئاسة، تم إلغاء تعديل ترامب، والعودة إلى تعريف أوباما الأكثر صرامة، ووصفت إدارة بايدن حينها معايير ترامب بأنها إضعاف لحماية البيئة، وأكدت أن المواطنين لا يحتاجون لتلك الكمية الكبيرة من المياه.

وقبل أيام أحيا ترامب خلال فترة رئاسته الثانية القضية مجددا، وأعلن إلغاء تعريف إدارة أوباما لرؤوس الاستحمام والعودة للتعريف الأصلي في قانون 1992، والذي يسمح للمصنعين بتصنيع رؤوس تضم أكثر من فوهه، تحقق كل منها ما اشترطه القانون وهو “2.5 غالون في الدقيقة”، ووصف الإجراءات السابقة بأنها جزء من “أجندة خضراء متطرفة”، وأضاف ساخرا “أحتاج إلى 15 دقيقة فقط لأبلل شعري الجميل”.

ترمب يعتبر اتفاقية المناخ صفقة سيئة للأميركيين

رسائل متخفية

ولا يعد اهتمام ترامب بهذه القطع البلاستيكية أمرا معزولا عن توجه سياسي أوسع يصور اللوائح البيئية على أنها تجاوزات بيروقراطية، ومن خلال انتقاده لما وصفه بالقيود “المتطرفة” على هذه الأشياء، تواصَل مع الناخبين الذين سئموا من الرقابة الفدرالية.

ويقول الدكتور بيتر جليك، خبير سياسات المياه والمؤسس المشارك لمعهد المحيط الهادي، وهو مركز أبحاث أميركي مستقل يُعنى بدراسة قضايا المياه والبيئة والتنمية المستدامة، للجزيرة نت “على المدى القصير، قد تنجح إدارة ترامب في جذب الاهتمام الجماهيري لهذا التوجه الشعبوي الذي يضعف الحماية البيئية، لكن على المدى الطويل، أشعر بالثقة في أن هذه الحماية ستستمر في الحصول على دعم من عامة الناس”.

ويشارك خبراء البيئة بيتر جليك رأيه في أن التراجع في حماية البيئة قد يكون محدود النطاق بسبب القرار الأخير، لكنهم اتفقوا على أنه يُرسل رسالة خاطئة.

ويقول بيل ماكيبين، الناشط المناخي البارز والمؤسس المشارك لمنظمة “350 دوت أورج”، وهي حركة دولية معنية بمكافحة التغير المناخي تأسست عام 2008، للجزيرة نت: “يُعتبر الإجراء الأخير لترامب صغيرا نسبيا في قائمة الأشياء غير الضرورية التي يقوم بها الرئيس لرفع درجة حرارة الكوكب، لكن مهما كان صغيرا، فإنه يُسبب ضررا”.

ويخشى ماكيبين من أن “توجيه الوعي نحو هذه القضايا الصغيرة، قد يسلب الاهتمام من القضايا الوجودية الخطيرة مثل الاحتباس الحراري، تماما كما لو أن شخصا مريضا بالسرطان، ولكن أكثر ما يشغله هو رائحة فمه”.

ووفقا لكاثرين هايهو، كبيرة العلماء في منظمة الحفاظ على الطبيعة (منظمة بيئية عالمية غير ربحية) فإن تغير المناخ يُفاقم بالفعل ندرة المياه، وتقول للجزيرة نت إنه “مع ازدياد فترات الجفاف وشدتها، وزيادة التبخر، أصبح من المهم أكثر من أي وقت مضى الحفاظ على المياه أينما أمكننا”.

وتشير الدراسات والتقارير الحديثة إلى أن تغير المناخ يفاقم بشكل كبير من مشكلة ندرة المياه في الولايات المتحدة، خاصة في المناطق الغربية، فقد حذر برنامج الأمم المتحدة للبيئة من أن بحيرتي “ميد” و”باول”، وهما من أكبر خزانات المياه في البلاد، وصلتا إلى مستويات منخفضة خطيرة بسبب الجفاف المستمر وتغير المناخ، مما يهدد إمدادات المياه والكهرباء لملايين السكان في 6 ولايات غربية والمكسيك .​

كما أظهرت دراسة نُشرت في دورية “نيتشر كلايمت تشينج” أن الجفاف الحالي في الجنوب الغربي الأميركي هو الأشد منذ 1200 عام، وأن تغير المناخ ساهم في زيادة شدته بنسبة 42% بين عامي 2000 و2021 ، وهذا الجفاف أدى إلى انخفاض مستويات المياه في نهر كولورادو، الذي يُعد مصدرا حيويا للمياه لأكثر من 40 مليون شخص، مما اضطر السلطات إلى فرض تخفيضات إلزامية على كميات المياه المخصصة لبعض الولايات.​

ويُحذر الدكتور جليك من أن إلغاء معايير رؤوس الاستحمام قد يزيد من تكاليف الاستهلاك ويُفاقم نقص المياه في المناطق القاحلة من أميركا، كل ذلك مقابل مكاسب هامشية قصيرة الأجل.

ويضيف أن “معايير كفاءة الطاقة والمياه الحالية في الولايات المتحدة فعالة للغاية في خفض التكاليف على المستهلكين وتقليل الطلب على كل من الطاقة والمياه، والتراجع عن هذه المعايير سيكون خطأ فادحا”.

لا يعتقد خبراء قانونيون أن هذا القرار سيصمد طويلا (الأوروبية)

هل تجاوز ترامب صلاحياته؟

ولا يعتقد خبراء قانونيون أن هذا القرار سيصمد طويلا، إذ يُرجح أن الرئيس ترامب قد تجاوز حدود صلاحياته.

ويوضح مايكل جيرارد، مدير مركز سابين لقانون تغير المناخ، في حديثه للجزيرة نت، أن “إعلان الرئيس ترامب بشأن رؤوس الاستحمام يتجاهل المبادئ الراسخة منذ زمن طويل في القانون الإداري بالولايات المتحدة، حيث يلزم قانون الإجراءات الإدارية لعام 1946 الوكالات الفدرالية باتباع إجراءات موسعة تشمل الإعلان عن التعديلات وإتاحة الفرصة للتعليق العام، قبل أن تتمكن من تبني أو إلغاء أو تعديل أي لوائح تنظيمية”.

ويستطرد “لكن الرئيس ترامب يقول الآن إنه يستطيع القيام بكل هذا بمفرده، دون الحاجة إلى المرور بأي من هذه الإجراءات، وهذا الادعاء بامتلاك هذه السلطة، سواء في سياق رؤوس الاستحمام أو أي موضوع آخر، سيُواجَه بالتأكيد بالطعن أمام المحاكم”.

ويضيف “لا أعتقد أنه سينجح، لكني لست متأكدا تماما، وإذا نجح، فإن ذلك سيمكن ترامب من إلغاء مجموعة واسعة من البرامج واللوائح التنظيمية، ونظرا لأن ترامب يُعد أكثر رئيس معاد للبيئة في تاريخ الولايات المتحدة، فإن هذا قد يكون ضارا للغاية”.

أما فيما يخص قوانين الولايات وتأثير القرار عليها، فيقول “إن هذا الإعلان لا يؤثر كثيرا على القوانين المحلية أو قوانين الولايات، لكن ترامب أصدر أمرا تنفيذيا آخر هاجم فيه العديد من هذه القوانين، ومع ذلك، فهو لا يملك السلطة لإلغائها من طرف واحد، وإذا كان يملكها، فسيكون ذلك أشد خطورة حتى من إلغاء اللوائح الفدرالية بمفرده، ولا أعتقد أن المحاكم ستسمح له بذلك”.

مياه أكثر.. فواتير أعلى

وحتى لو صمد الأمر التنفيذي أمام التدقيق القانوني الذي أشار إليه جيرارد، فمن غير المرجح أن يستمر طويلا، ويقول جليك “أشك في أن المُصنعين سيسارعون إلى تصنيع تجهيزات غير فعالة، وحتى لو فعلوا ذلك، سيستغرق تبني المستهلكين لها سنوات”.

وقبل المستهلكين، فإن خبراء في تكنولوجيا الأجهزة المنزلية، يرون أن معظم المُصنعين لن يعودوا إلى التصاميم القديمة.

وقال أحد مصادر الصناعة، طلب من الجزيرة نت عدم نشر اسمه “دورات التصميم طويلة، والسوق يُقدر الكفاءة بشكل متزايد، وإذا زاد تدفق المياه، فستكون التكلفة حقيقية، ماليا وبيئيا”.

ويحذر جليك قائلا “قد يشهد المستهلكون ارتفاعا في فواتير المياه والطاقة، خاصة في المناطق التي تعاني بالفعل من شح المياه”.

إذن، فالأميركيون لن يشعروا فجأة بأن مياه الاستحمام تتدفق كالشلالات، كما يريد ترامب، وإن حدث ذلك مستقبلا، يثق الخبراء أنه “مع تفاقم الجفاف، وارتفاع الفواتير، وارتفاع درجة حرارة المناخ، قد يتساءل الأميركيون عما إذا كان سعي رجل واحد للحصول على شعر أفضل يستحق التكلفة البيئية”.

شاركها.
Exit mobile version