من داخل غزة تتكاتف جهود فريق صحفي مكون من 12 صحفيا ومصورا فلسطينيا، يعملون على نقل ما يصيب السكان الأبرياء من قتل وحشي على أيدي القوات الغازية، فينقلون مشهدا صادما وموجعا للمدينة المنكوبة، ويدعمون ذلك بشهادات حية للأطباء والمسعفين.

بالإضافة إلى ملازمتهم لصحفيين نقلوا تقارير صادمة، عن عمليات القتل والإبادة التي يتعرض لها أبناء المدينة المحاصرة منذ السابع من شهر أكتوبر 2023، وقد راح ضحية ذلك آلاف من أبناء الشعب الفلسطيني، أكثرهم من الأطفال والنساء.

Kill Zone: Inside Gaza: Channel 4 Dispatches

تلك هي مادة الوثائقي البريطاني “منطقة القتل.. من داخل غزة” (Kill Zone: Inside Gaza)، الذي أخرجته “فينيسا بولز” (2024)، بمعونة صحفيين ومصورين فلسطينيين شجعان، خاضوا تجربة توثيق عمليات القتل الرهيبة من قرب، إيمانا منهم بأهمية أن يعرف العالم ويرى بأم أعينه الجرائم التي تقترفها إسرائيل بحق النساء والأطفال العزل.

صحفيون شجعان ينقلون للعالم ما يجري في غزة

جُمعت مشاهد هذا الوثائقي الآني ولقطاته الحية من مناطق متفرقة من غزة، خلال 200 يوم تقريبا، وهو يعطي صورة شبه كاملة عن المخطط الذي وضعه الإسرائيليون، بهدف إبادة سكان غزة وتهجير من بقي منهم إلى خارجها، وقد عبر عنه تصريح وزير دفاعها بعد ساعات قليلة من هجوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول، فقد دعا فيه إلى قتلهم من دون رحمة لأنهم ليسوا بشرا!

أطفال غزة.. ضحايا حرب همجية تريد إبادتهم

بما أن حوالي 70% من الضحايا هم من النساء والأطفال، فإننا نراهم في أكثر مشاهد الوثائقي، وبعفوية الأطفال وصدق مشاعرهم يعبرون عن حقيقة ما يعتريهم من خوف ورعب، بسبب القصف الوحشي لبيوتهم، وفقدان أهاليهم وأقربائهم، وانقطاع سبل التواصل معهم، ناهيك عن إحساسهم الدائم باقتراب الموت منهم في كل لحظة يسمعون فيها دوي قصف الطائرات الحربية والمدافع.

طفلة تخاطب طائرة درون بأن توقف أزيزها حتى تستطيع النوم

فوق كل هذا يحرمهم من النوم أزيز الأصوات الصادرة من الطائرات المسيّرة (الزنانة) الإسرائيلية، فهي لا تغادر سماء غزة لحظة واحدة. ويتجسد ذلك في لقطة تظهر فيها طفلة تخاطب طائرة مسيرة تحوم فوق رأسها، وتطلب منها ترك المكان، لأنها عاجزة عن النوم بسبب الصوت!

يلتقط المصورون قدر ما يستطيعون، وهم يعملون في ظروف خطيرة، مما يؤشر على حالة الأطفال النفسية والجسدية، ومحاولة أهاليهم تخفيفها عنهم، من خلال بث الطمأنينة في قلوبهم، وإبعاد شبح الخوف من رؤوسهم.

عائلة بدوان.. أحلام السلام تتحدى رعب الحرب

كان الأب الغزاوي زياد بدوان ذا متجر صغير يتكسب به، لكنه الآن يعاني ضيق الحال والخوف على أولاده، بسبب القصف والتدمير الممنهج لحيّهم، ومع ذلك يحاول إخفاء خوفه عنهم بالكلمات المشجعة التي يوجهها إليهم.

حتى المسعفين وسياراتهم لم يسلموا من القصف الإسرائيلي

وأما ابنتاه لمى وسما، فهما تعبّران -مع الخوف والرعب الذي يملأ قلوبهما- عن أمنيتهما في أن يعود السلام إلى غزة كما كان من قبل، وتتذكران اللحظات الحلوة التي كانتا فيها تلعبان مع بنات الجيران، والسعادة الكبيرة عند ذهابهما مع العائلة إلى البحر. وكل هذا لم يعد ممكنا بعد العدوان الهمجي على مدينتهم، فكل شيء دُمر، وحل محله الخراب.

وها هم اليوم مع بقية سكان غزة يعانون من نقص الغذاء والماء، وكل معارفهم وأصدقائهم قد قتلوا أو فقدوا تحت ركام بيوتهم، فقد قصفها الطيران الإسرائيلي بوحشية لم يشهدوا مثلها من قبل.

هدم البيوت فوق ساكنيها.. نهج همجي ثابت

تنقل الصحفية الفلسطينية هند الخضري وزملاؤها بالصورة الصادقة الحية، ما يقترفه الجيش الإسرائيلي من نسف لبيوت الفلسطينيين على رؤوس ساكنيها، في عملية مخططة يسبقها تحذير شكلي، إنما هو بمثابة تهديد سافر في حقيقته لسكان البنايات، إذ يُطلب منهم برسائل هاتفية موجزة الخروج من منازلهم، لأن قواتهم ستهدمها فورا.

ويوثق الصحفيون الفلسطينيون الشجعان أيضا كل الخراب الذي يحل بالمناطق المأهولة بالسكان، وينقلون للعالم مشاهد دموية، خلفتها عمليات قصف مخيفة لا تميز بين طفل وكبير.

هدم البيوت فوق ساكنيها سياسية عدوانية ثابتة

يثبت الوثائقي بالأرقام أنه في نهاية شهر أكتوبر/ تشرين أول 2023، قُتل أكثر من 8500 فلسطيني، ثلثهم من النساء والأطفال، وأن الجيش الإسرائيلي قد أسقط حوالي 12 ألف قنبلة ثقيلة فوق المناطق المزدحمة، كل ذلك وأجهزته الدعائية تدعي كذبا أن جيشهم لا يقتل السكان المدنيين.

لكن التوثيق الحي يكذّب الادعاء، ومشاهد نقل الجرحى إلى المستشفيات تجلي وحشية لا يمكن للكلمات الجوفاء والأكاذيب التغطية عليها.

بكاء على أجساد الأطفال الممزقة.. لحظات الضعف الصحفي

ينقل الفريق الصحفي شهادة سائقي الإسعاف والمسعفين الفلسطينيين الذين ينقلون الجرحى إلى المشافي، وما يرون من مشاهد مرعبة، ولا سيما مشاهد تساقط ركام البيوت فوق أجساد ساكنيها، وعمليات البحث المضنية لإخراج من بقي منهم على قيد الحياة، ويطال القصف المسعفين أيضا وهم في طريقهم إلى المشافي.

أجساد الأطفال المقطعة

أما المشافي فهي مكتظة بالجرحى والمصابين، ولم تعد إمكانياتها تستوعب أعدادهم، ولا الفرق الطبية قادرة على تقديم العلاج اللازم لهم.

تذهب الصحفية هند الخضري إلى مستشفى الشفاء، لتوثق مشهد الموت الذي يتعرض له الفلسطينيون ولا سيما الأطفال، فمشهد الأجساد الممزقة يدفعها للبكاء، ويوجعها مشهد الأطفال الذين أضحوا بلا أهل، بسبب استشهاد أهاليهم في القصف.

“الطفل الجريح الذي لا أهل له” .. ظاهرة جديدة تفرزها الحرب

أفرزت الحرب على غزة ظاهرة جديدة، يسميها الطبيب الجراح الفلسطيني غسان أبو ستة بـ”الطفل الجريح الذي لا أهل له”، وهو توصيف يطلقه على الأطفال الجرحى الناجين من الموت، ممن لم يكتب لأهلهم البقاء على قيد الحياة.

من تحت الأنقاض ينتشل الناس الأطفال

كان الطبيب غسان قد جاء من بريطانيا إلى غزة بعد اندلاع الحرب مباشرة، ويقول إنه هو وبقية الأطباء يعالجون المصابين على مدار الساعة، وإن ما يشهده من فظائع ترتكبها إسرائيل لم يشاهدها من قبل في عمله جراحا ميدانيا، حين عمل في مناطق شهدت صراعات مسلحة، منها العراق وأفغانستان واليمن وسوريا وغيرها.

ويصف حرب غزة بأنها أقسى حرب عرفها لأن أكثر ضحاياها من الأطفال والنساء والمسنين، وأن حروق وجروح المصابين غالبا ما تكون عميقة وخطيرة جراء الأسلحة المستخدمة.

قصف المشافي.. أهداف عسكرية تضربها آلة الاحتلال

الأمر الفظيع الواقع في غزة -وربما لم يحصل في بقية الحروب- إنما يتعلق بالمشافي، فهي لم تعد مكانا آمنا، لا للمرضى ولا للنازحين إليها هربا من الموت، وسبب ذلك أن العدو الإسرائيلي قد تعامل معها على أنها أهداف عسكرية.

ينقل الوثائقي عمليات هدم وتدمير مشفى الشفاء ومشفى العودة وبقية مشافي المدينة، بحجة وجود قادة من حماس فيها، ويترافق ذلك مع أكاذيب أخرى، تدرج فيما يسميه الإسرائيليون “المناطق الآمنة”.

مهاجمة المشافي في غزة بذرائع وهمية وكاذبة

تلك “المناطق الآمنة” تكشف حقيقتها تقارير صحفية ميدانية، ومقابلات مع نازحين فلسطينيين أصابهم القصف أثناء توجههم إليها، وقد اكتشفوا فيما بعد أنها ليست إلا مناطق موت، وأن الهدف من دفعهم إليها هو إبادتهم، أو إجبارهم على النزوح منها إلى مناطق خارجها.

بحث الصحفي عن أمه تحت الركام.. حكايات شخصية

يأخذ الوثائقي عينات يقابلها في تغطيته للأحداث الدموية، ليُبيّن بها بعض تفاصيل المشهد العام لغزة، بعد تعرضها لواحدة من أبشع الحروب البربرية في عصرنا.

فيمضي وقتا مع طفلة أصيبت ساقها بكسور مركبة، ومع أن حالتها قد تحسنت بعد تلقيها علاجا في المشفى الأوروبي، فإن المُحزن في وضعها يتمثل في جهلها بمصير عائلتها.

طفولة خائفة في غزة

يثير كلامها البريء الغافل عما يجري حولها من تدمير وقتل حزنا عميقا، كما يثير مشهد الصحفي المصور علي جاد الله، وهو يبحث عن والدته وسط ركام المنزل الذي قصف للتو، فخسارته لأخويه وأخته تعزز مصداقية ما ينقله الوثائقي عن الدمار الحاصل في غزة، فالخاص لم يعد خاصا، ما دام جزءا من عامّ يتعرض للإبادة.

توثيق الإبادة والتجويع والتشريد.. فيلم يكشف المأساة

توثيق شهادات النازحين حول الجوع والتشريد، يزيد أهمية العمل الصحفي الكاشف عن الحقيقة، وضرورة أن يعرف العالم ما يجري في غزة، والأرقام التي يثبتها الوثائقي في نهاية مساره تجلي جانبا منها.

فحتى لحظة تسجيل آخر مشهد فيه، كان عدد ضحايا العدوان الإسرائيلي يبلغ أكثر من 35 ألف فلسطيني، منهم 14 ألف طفل، وما زال أكثر من 10 آلاف تحت الأنقاض، بحسب تقارير السلطات في غزة.

جثث الضحايا شاهد على مجازر جيش العدو الإسرائيلي

وفي نهاية شهر أبريل/ نيسان من هذا العام، عُثر على مجزرة جماعية، ضمت مئات الجثث بالقرب من مشفى الشفاء والنصر، وقد طالب الأمين العام للأمم المتحدة بتحقيق فوري حولها.

أما الصحفيان هند الخضري وعلي جاد الله، فما زالا مستمرين بعملهما الصحفي، وتغطيتهما للمجازر المرتكبة في غزة. وأما عدد الصحفيين الذي سقطوا أثناء تغطيتهم للحرب، فقد بلغ عددهم أكثر من 100 صحفي.

كل ذلك الخراب والقتل الهمجي وانتهاك حقوق الإنسان يوثقه بصدق فيلم “منطقة القتل.. من داخل غزة”، ولا يكتمل معناه الحقيقي إلا بمشاهدته.

شاركها.
Exit mobile version