ظهرت في الآونة الأخيرة تصريحات لجنود احتياط في الجيش الإسرائيلي تتمحور حول حالة الإرهاق، والاستنزاف الجسدي والنفسي في صفوف الجنود؛ بسبب إطالة الحرب في قطاع غزة.

تستحضرُ هذه التصريحات من جديد مسألة منظومة الاحتياط في الجيش الإسرائيلي، بما تحمل من أبعاد اجتماعية، واقتصادية، ونفسية بالإضافة للأبعاد العسكرية.

يعتبر الجيش الإسرائيلي من الجيوش القليلة، إن لم تكن الوحيدة، الذي يملك منظومة احتياط واسعة يعتمد عليها في بنيته وخططه العسكرية.

منظومة مهملة

وعلى الرغم من أن الجيش يعتبر منظومة الاحتياط ركيزة في بنيته العسكرية، فإنه أهمل هذه المنظومة لسنوات طويلة من حيث التدريب، والجهوزية، والتمويل والحرص على فرض أوامر الاستدعاء للاحتياط من أجل التدريب.

يتكون الجيش الإسرائيلي من ثلاث منظومات عسكرية بشرية: الجيش النظامي، والملتحقين بالتجنيد الإلزامي وجنود الاحتياط، بعد انتهاء الخدمة الإلزامية. ينخرط جنود الاحتياط في ثلاثة مسارات من الخدمة العسكرية:

  • الأول: وحدات عسكرية مكونة كلها من جنود الاحتياط، مثل فرق الاحتياط البرية، أو وحدات في الدفاع المدني.
  • الثاني: وحدات مختلطة بين الجنود النظاميين والاحتياط، مثل سلاح المدرعات، الذي يعمل فيه جنود الاحتياط كحلقة لإكمال عمل الوحدات النظامية.
  • الثالث: وحدات نظامية والتي تُعتبر فيها قوات الاحتياط هي الأساس في عمل هذه الوحدات، وهي وحدات منتظمة مثل سلاح الجو، وبعض الوحدات الخاصة والتكنولوجية.

في العقود الأخيرة تآكلت منظومة الاحتياط في الجيش الإسرائيلي، ويعود ذلك لأسباب عديدة، من أهمها، انتهاء الحروب التقليدية في العام 1973 وصعود الحروب الجديدة غير المتناظرة مع منظمات مسلحة، والتي لا تتطلب تجنيد قوات الاحتياط بشكل كبير، كما في الحروب التقليدية، كان آخر أكبر استدعاء للاحتياط في تاريخ الجيش حتى العدوان الأخير على غزة، في العام 1973.

وكانت عملية استدعاء الاحتياط سريعة، فضلًا عن أن الجهوزية كانت عالية. وكان تراجع الشعور بالخطر الوجودي عاملًا في تراجع استعداد الأفراد للالتحاق بالاحتياط، وبداية مرحلة البحث عن الحراك الاقتصادي الشخصي، ويضاف لذلك الشعور بأنّ شرائح اجتماعية لا تخدم في الجيش، وفي نفس الوقت تحصل على امتيازات اقتصادية من الدولة (خاصة المتدينين الحريديم) أسهم في تراجع الدافعية لخدمة الاحتياط، لصالح التطور والتقدم الشخصي في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والمهنية.

بلور الجيش رؤيته لبنيته العسكرية بناءً على خارطة التهديدات الجديدة المتمثّلة في الخطر النووي الإيراني، وتهديد منظمات عسكرية ليست بجيش نظامي، فركز على الوحدات العسكرية التي تخدم رؤيته لخارطة التهديدات الجديدة، وخاصة سلاح الطيران، ومنظومات الدفاعات الجوية والهجوميّة، والوحدات الخاصة، وأهمل باقي القطاعات العسكرية – وخاصةً سلاح المشاة – التي تعتمد على منظومة الاحتياط.

شعور بالإحباط

شكلت أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول عاملًا في رفع الدافعية لجنود الاحتياط للتجنيد في الجيش، وخاصة أنه تم تأطير الحرب في الخطاب الإسرائيلي على أنها حرب وجودية، ولكن إطالة الحرب كانت غير متوقعة، حيث شعر فيها جنود الاحتياط بالتعب والإرهاق النفسي والاقتصادي والاجتماعي.

تشير معطيات مؤسسة التأمين الوطني، إلى أن 1000 مصلحة تجارية تابعة لجنود الاحتياط، أغلقت في الستة أشهر الأولى للحرب، أي 6% من مجمل المصالح التجارية التي أغلقت، وهو معدل أعلى من معدل المصالح التجارية التابعة لجنود احتياط في السوق.

وتتوقع مؤسسة التأمين الوطني أن يزداد هذا العدد خلال العام 2024، وتضيف المعطيات أنّ حوالي 50% من المصالح التجاريّة لجنود الاحتياط التي أغلقت موجودة في مركز البلاد وتل أبيب، وحوالي 25% في الشمال وحيفا، و13% في الجنوب.

تؤكد هذه المعطيات حقيقة هامّة، أشارت إليها الكثير من البيانات حول جنود الاحتياط، فتواجد أغلب المصالح التجارية في المركز، يدلّ على أن الشرائح التي تخدم في الاحتياط هي شرائح اجتماعية قوية اقتصاديًا، وهي التي تتحمل العبء الأساسي في الخدمة العسكرية، وما يرافقها من دفع أثمان اقتصادية عالية. والأهم الخسائر البشرية في صفوف الاحتياط، ففي مئة اليوم الأولى من الحرب قتل 200 جندي احتياط في الحرب، وهو عدد كبير يُهدد دافعية جنود الاحتياط للخدمة، وأغلبهم لديهم عائلات ومصالح تجارية.

لا تنحصر التداعيات الاقتصادية على جنود الاحتياط في إغلاق مصالحهم التجارية، بل يُضاف لها احتمال إقالتهم من العمل؛ بسبب تغيبهم الطويل، وتعطيل مسيرتهم المهنية والتعليمية، حيث إن 30% من جنود الاحتياط في الحرب على غزة كانوا طلابًا جامعيين، فتحولت الدافعية للقتال في بداية الحرب إلى تعب وإرهاق بعد أشهر من اندلاعها.

هشاشة وعدم جهوزية

ترافق الغضب لدى جنود الاحتياط في قرارين اتخذتهما الحكومة الإسرائيلية خلال الحرب أديا إلى مزيد من تراكم غضب جنود الاحتياط، وتراجع دافعيتهم للخدمة العسكرية؛ الأول هو محاولة الحكومة تشريع قانون يعفي المتدينين من الخدمة العسكرية دون المساس بالامتيازات الاقتصادية التي يحصلون عليها، والقرار الثاني الذي ينص على رفع سنّ خدمة الاحتياط إلى 41 عامًا.

تشير المعطيات إلى أن 3% فقط من الإسرائيليين يخدمون في الاحتياط، والقانون الجديد لا يوسع خدمة الاحتياط فحسب، بل يزيد العبء على هذه الشريحة القليلة جدًا من الإسرائيليين، حيث إن خدمة الاحتياط سوف تزداد بنسبة 133% عما كان في السابق.

يدرك جنود الاحتياط حسب أوراق تحليلية إسرائيلية أن تجنيد الحريديم سوف يقلل من أيام الاحتياط لهم، فوَفق دراسة إسرائيلية فإن إضافة 9000 جندي نظامي للجيش، والذين يُمكن تجنيدهم من صفوف الحريديم، من شأنه أن يوفر أيام احتياط في الجيش تصل إلى 3 ملايين يوم في السنة.

ويمكن إضافة تحول الحرب إلى أداة سياسية يستعملها نتنياهو لإطالة حكمه وبقائه السياسي وليس من أجل تحقيق أهداف تتعلق بالأمن القومي، فضلًا عن تعطيل صفقة لتحرير الأسرى الإسرائيليين في قطاع غزة كعوامل ساهمت في تآكل الحالة النفسية والدافعية الداخلية لجنود الاحتياط.

يخشى جنود الاحتياط أن فتح جبهة عسكرية في الشمال سوف يؤدي إلى استدعائهم مرة أخرى للاحتياط، أو إطالة أمد خدمتهم الاحتياطية، ويزيد من الأعباء الاقتصادية والاجتماعية عليهم، في ظل إعفاء الحريديم من الخدمة العسكرية.

تشير تحولات منظومة الاحتياط إلى أنّ وصف الجيش الإسرائيلي بأنه جيش الشعب هو وهْم كبير، فهنالك شرائح لا تخدم في الجيش مثل الحريديم، وحتى نسبة الذين يخدمون في منظومة الاحتياط من الشرائح التي تخدم هي قليلة، ولم يعطِ الجيش أهمية لتآكل فكرة “جيش الشعب”، فانحصر تركيزه في السنوات الأخيرة على بناء جيش صغير تكنولوجي فتّاك ينسجم مع تحول الحروب والقتال في البيئة الإقليمية، وخارطة التهديدات الجديدة لإسرائيل.

بيدَ أن الحرب على قطاع غزة كشفت هشاشة الجيش وجهوزيته، فعلى الرغم أن من الحرب على قطاع غزة تدخل في تعريف الحروب الجديدة، أي بين جيش نظامي ومنظمات مسلحة، فإنها تطلّبت استدعاء جيش الاحتياط بشكل يتناقض من رؤية الجيش التي اعتمد عليها في السنوات الأخيرة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version