جاء في بيان الاستقلال الأميركي، في الرابع من يوليو/تموز 1776، أن الملك جورج الثالث أضرّ باقتصاد البلاد حين “قطع تجارتها مع باقي العالم”. التجارة مع العالم، بالنسبة للعقل الأميركي المبكّر، مسألة وجودية من شأن التلاعب بها أن يتسبب في “ثورة”.

على مرّ الأزمنة كانت الكيانات السياسية، دول وغيرها، تسعى إلى أمرَين: الحصول على ما يكفي من الموارد، والتجارة مع باقي العالم. كان الأول حاسمًا في مسألة الاستقلال السياسي والعسكري، والثاني مهمًّا في سبيل النمو وتراكم الثروة.

شهدت التجارة العابرة للحدود تطورًا وتراجعًا عبر الزمن، وكانت الأسواق بين الدول تنتعش وتتلاشى، تتقارب وتتباعد، ولكنها بقيت حقيقة تاريخية. بين القرنين 15 و18 نمت التجارة العالمية على نحو بطيء لم يتجاوز الواحد بالمائة. برغم النمو البطيء لحجم التجارة العالمية خلال حقب زمنية واسعة فإن مفهومًا عامًا عن السوق العالمية استقرّ وتأكد.

تطلب نمو السوق العابرة للحدود وجود قوة “عالمية” نشطة خارج حدودها، قادرة على حماية تلك السوق، كما يتعيّن عليها من خلال عملتها وبضائعها أن تضمن الاستقرار. مطلع الـ 19 كانت بريطانيا هي القوة الاقتصادية العظمى في العالم، ونجحت عملتها في أن تكون مستقرّة وآمنة بالنسبة للذهب. مثّلت تلك القوة “العالمية” المهاد الملائم للسوق، وكان الإسترليني هو العملة الآمنة التي تضبط إيقاع التجارة والتبادلات. شهد القرن الـ 19 تحول أوروبا إلى عصر الصناعة.

تراكمت البضائع، ولم يعد بمقدور الأسواق المحلّية استيعاب كل ما تنتجه الآلة. تخلّقت الحاجة لسوق دولية تأتي منها المواد الخام وتذهب إليها منتجات المصانع. مع توقيع بريطانيا، وفرنسا على اتفاق التجارة الحرّة، 1860، كذا اتفاق الدول الإسكندنافية الكبرى الثلاث على اتحاد نقدي، فقد وضع العالم قدميه على عتبات الموجة الأولى من العولمة.

جرى الانتقال من السوق الدولية إلى العولمة بفعل التدفق المتسارع للبضائع، الأفكار، الأفراد، الأموال، والتقانة ليس بين الدول وحسب بل بين القارات. ازدحام العالم على ذلك النحو جعله أكثر ترابطًا ثقافيًا وفنّيًا، فنشأت فعاليات ومواسم دولية متنوّعة أسهمت في تعزيز الأواصر الدولية الجديدة.

بدا أن الشكل الجديد الذي بات عليه العالم، حيث تشابكت المصالح والثقافات وتداخلت الأموال، سيجعل الحروب جزءًا من الماضي. قيل آنذاك، كما سيقال بعد قرن من الزمن، إن البشرية قد وصلت إلى نهاية التاريخ، وإنه لا مكان للحروب، وإن الرؤية الرأسمالية للعالم هي حصنه الآمن. بيْد أن الحرب العالمية الأولى اندلعت من رحم تلك الموجة العولمية وأتت عليها من جذورها.

انكمش العالم مجددًا وأغلقت الحدود أمام البضائع، بل والأفكار أيضًا. إلى الخلف منها، وأمامها، تركت الحرب العالمية الأولى كل أسبابها قائمة، فانزلقت القوى الاستعمارية الكبرى مجدّدًا إلى حرب كونية ثانية. على الضفة الأخرى من الأطلسي كانت أميركا تتفتت تحت حوافر “الكساد الكبير”، إذ توقفت الآلة عن العمل، وذهب الناس إلى البيات على الأرصفة.

قال عزيز “إن 17 مليون عراقيّ لا يساورهم أدنى شك في قدرة بلادهم على الانتصار” فرد عليه بيكر بالقول إنه ليس بمقدور أحد في العالم تخيّل ما أعدته أميركا لتلك المعركة

جاءت الحرب العالمية الثانية لتنقذ أميركا من تلك الهاوية، فالحرب أيضًا سوق، وأميركا تعلم حاجتها الوجودية إلى السوق الدولية. حيال تلك الحرب انقسم الشعب الأميركي إلى قسمين: قسم ذهب إلى المعركة، وآخر إلى مصانع السلاح.

الكارثة التي أصابت كل القارات بلا استثناء ربحتها أميركا، وستعطي نفسها الحق في الادعاء بأنها باتت تملك العالم. قبل أن تضع الحرب أوزارها كانت أميركا قد أكدت نفسها بحسبانها القوة الاقتصادية الأسرع نمومًا والأكثر استقرارًا وفاعلية.

مع اتفاقية بريتون وودز، 1944، ربطت أميركا عملات كل الأمم بالدولار، وربطت الدولار بالذهب. على هذا النحو وضعت أميركا نهاية للنسخة البريطانية من العولمة، وأنهى الدولار زمن الجنيه الإسترليني وتربّع على عرشه.

قادت أميركا الموجة الثانية من العولمة وأوصلتها إلى حرب فيتنام، الحرب التي فرضت تداعيات داخلية وخارجية مزلزلة. في فيتنام تصادمت القوى الدولية، وبدت أميركا التي أسكرها الدولار والسلاح أقل جدارةً من أن تقود العالم إلى سلام من خلال التجارة.

في أتون تلك التعقيدات قرر الرئيس نيكسون الواقع تحت ضغوط داخلية متعددة المستويات، إلغاء ارتباط الدولار بالذهب، فيما عرف بصدمة نيكسون، 1971 منهيًا بذلك الموجة الثانية من العولمة.

تراجعت الأسواق إلى الخلف، إذ صارت فجأة بلا غطاء. تداعت المسائل الدولية الشائكة على نحو غير مسبوق، وأضافت صدمة النفط 1973 إلى معاناة التجارة العالمية التي تلقت بذلك رصاصة الرحمة، أو المسمار الأخير في النعش. توسعت الحرب الباردة في الفراغ الذي تركته العولمة، وتفككت الأواصر الدولية ثقافيًا واقتصاديًا وأخلاقيًا.

ذهب العالم إلى جزر ثلاث: الاتحاد السوفياتي، الغرب، وكتلة عدم الانحياز التي ستطلق على نفسها صفة العالم الثالث، أي ذلك الذي لا ينتمي إلى أيّ من العالمين المتصارعين، وهو تعبير استخدمه الزعيم الهندي نهرو، أواخر أربعينيات القرن الماضي.

مع انهيار جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي تغيّر شكل العالم مجددًا وتخلّق فضاء جديد للتجارة العالمية بقيادة أميركا التي ستعطي نفسها الحق، مرّة أخرى، في ادعاء امتلاك العالم. انطلقت الموجة الثالثة من العولمة معزّزة بالموجة الثالثة من الديمقراطية، حيث التحقت عشرات الدول بالعالم الديمقراطي.

على أنقاض الشيوعية تأسست أسواق جديدة وشبكات مصالح مالية عابرة للحدود. أمام إبهار الموجة الثالثة من العولمة نظّر فوكوياما، ومعه كثيرون، حول نهاية التاريخ، أي وضع مستدام تصبح فيه القيم الغربية هي قيم العالم، والرأسمالية هي لغته. ركنت أميركا إلى انتصارها النهائي ودخلت في حقبة ممتدة من اللهو على مسارح عديدة حول العالم، متشاغلة بتحديات خفيضة المستوى، ما أدى إلى ضمورها إستراتيجيًّا كما يلاحظ وزير دفاعاها السابق مراك إسبر.

الموجة الثالثة تتراجع

قبل أن تقرر أميركا إدخال العالم كلّه، مرّة أخرى، تحت سقف واحد، قامت باستعراض عسكري، تمكنت خلاله من إخراج العراق من عصر الصناعة، حد وصف روجيه غارودي. نال العراق النازلة التي همس بها جيمس بيكر، وزير خارجية أميركا آنذاك، في أذنَي طارق عزيز في مفاوضات الفرصة الأخيرة التي جرت في جنيف قبل الحرب بأيام قليلة.

فحين قال عزيز “إن 17 مليون عراقيّ لا يساورهم أدنى شك في قدرة بلادهم على الانتصار” فإن بيكر رد عليه بالقول إنه ليس بمقدور أحد في العالم تخيّل ما أعدته أميركا لتلك المعركة. هزمت أميركا العراق وروّعت سائر العالم.

كان ذلك هو الدخول الدرامي المهيب الذي دشنت به الموجة الثانية من العولمة – الأمركة بتعبير أدق. سبق أن استعرضت على المسرح الياباني بالطريقة ذاتها بُعيد الحرب العالمية الثانية ومع الدخول في عهد “بريتون وودز”. قبل أن تصل البضائع الأميركية لا بدّ للعالم أن يرى النيران.

تفرّد أميركا بالعالم مجدّدًا جعلها تسكر بالقوة المطلقة، فدخلت في سلسلة من الحروب المتوالدة إلى أن وصلت إلى غمار الحرب الروسية – الأوكرانية. كما أن مساندتها لإسرائيل في حروبها الخمسة على غزّة جعلها في مواجهة أخلاقية، واقتصادية، مع الشعوب الإسلامية. مضافًا إلى ذلك فقد نجح وباء كورونا في التشكيك بمنظومة العقائد التي نشأت حول استقرار السوق الدولية وثباتها. إذ بدا أن القرية العالمية الجديدة تقوم على خطوط اتصال وسلاسل إمداد عرضة للانقطاع والتلف.

بالموازاة فقد انتعشت ضروب شتّى من التيارات اليمينية على جانبَي الأطلسي وفي مراكز العولمة الاقتصادية، وهي ظاهرة نوستالجية في المقام الأول تريد العودة بفكرة الدولة إلى القرن التاسع عشر، حيث تعمل السلطات على التحكم بكل ما يتدفق عبر الحدود من الأفكار إلى البضائع.

الرواج الذي لاقته الشعبوية فتحت سوق المزايدات الداخلية، واندفع قطاع من الليبراليين ليلتحق بالموجة، وسُمع صوت بايدن وهو يخاطب ناخبيه قائلًا “لا بد أن تصبح كل بضاعة يحملها كل قطار يمرّ في بلادنا من إنتاج بلادنا”. تريد التيارات اليمينية إعادة عقارب الساعة إلى الوراء على وجه الخصوص، وهي تعاني التدفق اللامحدود للعمل والأفراد والبضائع من الخارج.

قبل أن تحوز التيارات اليمينية تلك المكانة كانت القوى الرأسمالية الليبرالية نفسها قد دفعت العالم في اتجاه “حارب باردة ثانية”. فالعولمة التي بلا سقف، العولمة التي هي حقيقة وجودية كالرياح والأمطار (وفقًا لكلمات بيل كلينتون 2000، وتوني بلير2019) لا بدّ أن تستمر من المركز إلى الأطراف. إن حدث غير ذلك فإن الظواهر اليمينية تجتاح الفضاء العام، والرأسمالية الليبرالية تتراجع إلى الوراء، وتنصب نقاط التفتيش على الحدود.

المظهر الأبرز للعولمة تمثّل في انتقال الآلة الصناعية من أوروبا إلى خارج حدودها deindustrialization. تنشط الرأسمالية في الأماكن التي توفر سوقًا جديدة وعمالة منخفضة الكلفة، وهو ما لم يعد يتحقق في الدول المتقدمة.

انحسار موجة التصنيع على ضفتَي الأطلسي، خصوصًا الصناعات الثقيلة الكثيفة، أحدث تحولات اجتماعية واقتصادية عميقة. لم يكن هذا التحول قدرًا حتميًّا، كما يردد أرباب المال، بل يعكس الكيفية التي يعمل بها الرأسمال، فهو يركض خلف الأسواق الناشئة والعمالة الرخيصة من بلاد إلى أخرى، ويترك خلفه خرابًا، كما حدث في أماكن عديدة في أوروبا وأميركا لا تزال فيها هياكل المصانع شاهدة على الطبيعة الأنانية المدمّرة للرأسمالية. على أطلال تلك المصانع تقف التيارات الشعبوية، وتنتج خطابها القومي المعادي لكل من هو آخر، وكل ما هو آخر.

في ستينيات القرن الماضي قال الرئيس الأميركي جون كينيدي إنه سيحمل شعلة الحرية إلى كل مكان في العالم. المعنى النهائي للحرية في الخطاب السياسي الأميركي يذهب إلى التدفق الحرّ للسلع والأفكار والأفراد بما لا يمس هيمنة أميركا على العالم.

الآن تعود تلك الشعلة إلى بلادها منطفئة، إذ تفرض أميركا رسومًا حمائية ضد قطاع واسع من المنتجات التي تصنّع خارج حدودها. لا بدّ أن تمضي الشعلة في اتجاه واحد فقط، من المركز إلى الأطراف. إلى الحمائية ذهبت أوروبا أيضًا لتفرض رسومًا باهظة على قائمة من البضائع الصينية عالية القدرة التنافسية كالسيارات الكهربائية وغيرها. أبعد من ذلك فثمة دلائل على أن أوروبا ماضية إلى الاشتباك اقتصاديًا مع أميركا، وأن الضفتين ستتبادلان اللكمات والعقوبات بما سيسرّع من تراجع الموجة الثالثة من العولمة كما شهدنا سابقًا.

الحمائية الأميركية، كما يتحمس لها الشعبويون الأميركيون والرأسماليون المهزومون، هي ردّة عن ديانة السوق، جوهر الفكرة الكوكبية. انخفض الحماس الأميركي للتبادل الحُر للسلع حين لاحظ رأسماليو تلك البلاد أن العولمة ليست طريقًا من اتجاه واحد كما تخيّلوها مطلع تسعينيات القرن الماضي. قرروا التراجع إلى الوراء وفرض تعريفات جمركية ضد المنتجات القادمة من وراء الحدود؛ بهدف حماية المنتج المحلّي. ما يعني، بتعبير البروفيسور ريتشارد وولف، منح قلادة النصر لمن خسروا السباق.

بحسب تقرير حديث لصحيفة فايننشال تايمز، فقد أعدت المفوضية الأوروبية إستراتيجية لمواجهة سياسات ترامب الرامية إلى فرض تعريفة جمركية بنسبة 10% على السلع الأجنبية. تقتضي الخطة الأوروبية فرض رسوم تصل إلى 50% على قائمة من الواردات الأوروبية في حال قرر ترامب المضي في سياساته. تتفكك العولمة التجارية في بلدان المنشأ، ومعها تتراجع الديمقراطية الليبرالية إلى الخلف مفسحة الطريق لديمقراطية غير ليبرالية، تمجد الهوية الإثنية وتحتقر التنوّع الثقافي، وتنادي بعودة الدولة القومية القائمة على العرق.

عداء الظواهر الشعبوية لما هو أجنبي يدفعها إلى معادة السوق الدولية، أي العولمة، كونها مسؤولة عن تبديد الهويّة من ناحية، ونقل الآلات إلى الخارج من جهة أخرى.

وللحديث بقية.. 

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version