في خطوة صاخبة تحمل رسائل حادة، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب حربًا اقتصادية شاملة، مستخدمًا الرسومَ الجمركية كسلاح إستراتيجي. استهدفت هذه الحرب التنين الصيني بشكل مباشر، كما لم تخلُ من تهديدات للحليف الأوروبي.

لم يتوقف الأمر في حدود دائرة الاقتصاد؛ إذ أطلق ترامب ثورة سياسية مضادة، هزّت أركان الثقافة الليبرالية، وخربت قواعد سياسة الهجرة التي شكلت لزمن طويل أحد تقاليد الولايات المتحدة الراسخة.

إنها مواجهة مفتوحة، عنوانها التمرد على التقاليد، وإعادة رسم ملامح أميركا وفق رؤية ترامب الخاصة.

طالما اتسمت السياسات الأميركية تجاه الصين بالتدرج والحذر، بدءًا من سياسة الاحتواء خلال الحرب الباردة، وصولًا إلى الانفتاح الاقتصادي في عهد نيكسون، ثم الشراكة المشروطة التي ميزت العقود الأخيرة.

كانت الولايات المتحدة في هذا السياق، تنسج علاقاتها مع الصين ضمن شبكة من الضوابط التي تحكمها المصالح الإستراتيجية والتوازنات العالمية، مع حرص دائم على التنسيق مع الحلفاء الأوروبيين الذين شكّلوا حلقة داعمة في رسم واستقرار هذه السياسة.

لكن ومع وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، شهد هذا المسار تحولًا جذريًا. إذ أطلق عنان سياسة خارجية غير مقيدة، خرجت عن النص التقليدي الذي حكم السلوك الأميركي لعقود، وتجاوزت الأعراف التي كانت تضبط تحرك “السيارات الأميركية” في مضمار السياسة العالمية.

فبدلًا من الحوار والدبلوماسية الاقتصادية، تبنّى نهج المواجهة والمجابهة، مفجّرًا حربًا تجارية بوجه الصين، وموجّهًا رسائل صادمة حتى إلى أقرب الحلفاء الأوروبيين.

يتغير العالم بسرعة غير مسبوقة تكاد تكون غير طبيعية، كما لو أن النقاط المرجعية التي كانت تنظم التوازنات الدولية تنهار دون أن تترك أي مجال لمرحلة انتقالية.

إننا نشهد تحولًا مفاجئًا بعيدًا عن النظام ثنائي القطبية، ثم أحادي القطب، نحو نظام بلا قطبية واضحة، حيث تتحول كل منطقة نفوذ إلى بؤرة توتر محتملة.

إن هذا الاضطراب هو، في جزء منه، نتيجة لقرارات إستراتيجية اتخذتها القوى الكبرى نفسها. كما شهد عهد ترامب قطيعة عميقة في دور الولايات المتحدة كحارس للنظام العالمي. كما أنه ساعد، من خلال رفضه المؤسسات متعددة الأطراف، وازدرائه التحالفات التاريخية وانسحابه السيادي المتفاقم، في نزع الشرعية عن بنية ما بعد الحرب العالمية الثانية. وقد أتاح هذا الفراغ النسبي المجال لقوى أخرى – الصين، وروسيا، وتركيا، وإيران – لتأكيد طموحاتها الخاصة.

في هذا المناخ من عدم اليقين، انتهزت روسيا “فلاديمير بوتين” الفرصة لإعادة تعريف قواعد اللعبة. ويشكل غزو أوكرانيا سابقة ذات عواقب بعيدة المدى: محاولة متعمدة لتغيير النظام الدولي بالقوة. وذلك أنه إذا مرّ هذا العمل دون عقاب أو تم احتواؤه بشكل سيئ، فقد يصبح نموذجًا للقوى التحريفية الأخرى. فهو يُبرهن أنه في عالم بلا نقاط/ أسس مرجعية صلبة، فإن استخدام القوة يمكن أن يصبح مرة أخرى أداة مشروعة للسياسة الخارجية.

لا تقتصر إعادة التشكيل هذه، على أوروبا الشرقية، فهي تتجلى أيضًا في الجرائم التي لم يكن من الممكن تصورها أن تقترف في غزة. إن صمت المجتمع الدولي في مواجهة المذبحة التي يتعرض لها المدنيون الفلسطينيون -نساء وأطفالًا وعائلات بأكملها- لا يشكك في الاتساق الأخلاقي للغرب فحسب، بل يشكك أيضًا في شرعيته في الدفاع عن حقوق الإنسان في أماكن أخرى.

إن الدعم الأعمى، بل وغير المشروط، لآلة الحرب الإسرائيلية، باسم “الحق في الدفاع”، يكشف عن حياد انتقائي وتلاعب بالمبادئ الإنسانية الكونية التي تقوم عليها المنظومة الغربية.

إن هذه الازدواجية في المعايير تغذي الاستياء العميق في أجزاء واسعة من العالم، لا سيما في جنوب الكرة الأرضية.

وهو يغذي التصور بأن حقوق الإنسان ليست قيمًا كونية، بل أدوات جيوسياسية تُستخدم في هندسة متغيرة وفقًا لمصالح اللحظة. وتساهم هذه السخرية في فقدان مصداقية المؤسسات الدولية، وصعود الراديكالية وتزايد تشظي الخطاب العالمي.

ونتيجة لذلك، فإننا وببساطة لسنا في مرحلة انتقالية جيوسياسية فقط، بل نحن في حالة اضطراب أخلاقي. إن غياب القطبية لا يؤدي إلى عالم سلمي متعدد الأقطاب، بل إلى فضاء مجزأ ومتوحش، حيث تحل القوة محل القانون في كثير من الأحيان، والانتهازية محل الأخلاق.

في هذا العصر غير المستقر، لم يعد الصراع هو الاستثناء، بل القاعدة، وأصبحت التحالفات متقلبة، وتذوب الحقائق في ضجيج الروايات المتنافسة.

مازال هذا العالم لم يجد شكله بعد، وإلى أن يعيد اختراع شكل من أشكال التوازن العادل والقائم على التضامن والعالمي حقًا، سيبقى ميدانًا للمواجهات، المرئية وغير المرئية، حيث يدفع الناس ثمن طموحات الأقوياء.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version