باريس- في حدود الساعة السادسة و40 دقيقة من صباح الثلاثاء الماضي، استيقظ الشاب يانيس عرب على صوت والدته وهي تصرخ “زاهر (اسم والده) يريدون قتلنا” عند سماع دوي انفجار كبير في الباب ورؤية عشرات الرجال الملثمين والمسلحين يقتحمون المنزل.

خرج طالب الدكتوراه في التاريخ والمحاضر والمؤلف لعدة كتب عن فلسطين من غرفته وطلب منه رجال الأمن المسلحين الاستلقاء على الأرض وقيدوه وأخاه (16 عاما) وابن عمه وسط دهشة والدته التي تصور ما يجري، قائلة “لأن ابني يدافع عن القضية الفلسطينية، أصبح اليوم إرهابيا”.

ووفق تصريحات عرب الخاصة للجزيرة نت، توجهت الفرق الخاصة إلى غرفته لمصادرة هاتفه وجهاز الكمبيوتر الخاص به، كما التقطت صورا لعدة كتب، من بينها الكتب الأكاديمية وكتاب القرآن الكريم.

باب منزل يانيس الذي كسره رجال الأمن الفرنسيين (الجزيرة)

اعتقال وتفتيش

اعتقلت الشرطة الفرنسية يانيس (31 عاما) في بيته الواقع ببلدة ميران التي تبعد 20 كيلومترا عن مدينة غرونوبل في عملية تفتيش مشددة بتهمة “الاعتذار عن الإرهاب” قبل إطلاق سراحه بعد ساعات، لكن أغراضه الشخصية لا تزال في الحجز كجزء من التحقيق المستمر.

وفي تقرير التحقيق المكون من 8 صفحات، ذكر عرب عدة مراجع ونصوص في القانون الدولي التي تضمن حق المقاومة لإثبات موقفه الذي يؤمن به منذ أن كان في سن الـ20 وثمرة بحث طويل وتفكير ناضح، على حد قوله.

وأوضح أن المدعي العام في غرونوبل عرض إجراء تحقيق بشأن التغاضي عن الإرهاب وطرح أسئلة متعلقة بمنشورات له على فيسبوك كتبها في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وخاصة حول ما كان يفكر فيه آنذاك، وأكد يانيس له أن أعمال المقاومة العنيفة جاءت في سياق استعماري تعيشه فلسطين و”أنا لا أستطيع إدانة العنف الفلسطيني دون عكس ترتيب الأسباب والنتائج”.

بسبب مواقفه وكتاباته.. تفتيش واعتقال الشرطة الفرنسية للمؤرخ والمناصر لفلسطين يانيس عرب "
اقتحام منزل يانيس واعتقاله من الشرطة الفرنسية (مواقع التواصل)

ولتفسير موقفه بشكل تاريخي وموثق، أشار يانيس إلى الجنرال الفرنسي شارل ديغول الذي أكد في 23 نوفمبر/تشرين الثاني 1967 أن “إسرائيل تنتهج احتلالا على الأراضي التي استولت عليها والتي لا يمكن أن تمر دون قمع، وهو ما يفسر وجود المقاومة الفلسطينية اليوم التي تصفها إسرائيل بدورها بالإرهاب”.

كما أشار -في التحقيق- إلى المناهض لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا نيلسون مانديلا، لأن له مكانة بارزة في غرونوبل، وفي دعم المقاومة الفلسطينية، وأكد سابقا أن “إسرائيل ظالمة والمظلوم الفلسطيني هو من يحدد شكل النضال”. وأخبر يانيس المدعي العام أن استخدام الظالم للعنف “لن يتيح أمام المظلوم أي خيار سوى استخدام العنف في المقابل”، قائلا “إذا حاكمتني بتهمة الدعوة إلى الإرهاب، فعليك أولا إحياء ديغول ومانديلا الذي دافع عن هذا الحق في المقاومة المسلحة”.

وأضاف أن المحقق كان محايدا والتزم بأخذ أقواله فقط، ولولا وصول المحامي رفيق شيخات من مارسيليا المكلف بقضيته في حوالي الساعة الخامسة مساء، كان من الممكن أن يقضي الليلة في الزنزانة بمفرده.

تقييد الحرية

ولا تعتبر هذه المرة الأولى التي يأتي فيها رجال الأمن إلى منزل يانيس عرب، ففي ديسمبر/كانون الأول الماضي، وصل بعض العناصر “بشكل هادئ” إلى مكان إقامته لإخباره أنه تم منعه من حضور مؤتمر في غرونوبل، وهو أمر يعتقد أنه جاء تحت ضغط من المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا (كريف).

وعلق على ذلك بالقول “لقد طرقوا الباب ولم يكن هناك أي عنف أو بحث في أغراضي، طلبوا مني فقط التوقيع على ورقة قبل المغادرة”.

وشدد عرب -وهو من أصول جزائرية- على ضرورة تسليط الضوء على مسألة إعاقة حريته الأكاديمية، لأن رجال الأمن أخذوا هاتفه وجهاز الكمبيوتر الخاص به الذي يحتوي على أرشيف بحوثه وأطروحته. وقال “أخبرني الدرك أنهم سينقلون هذه الأغراض إلى غرونوبل ليقوم أحد الخبراء بنسخ البيانات وتحليلها بموافقة مسبقة من المدعي العام، لكن ذلك سيستغرق وقتا طويلا نظرا لأن حالتي ليست أولوية، وفق تعبيرهم”.

ويستخدم يانيس هاتف والده في الوقت الحالي ويوضح أنه يشعر بالعزلة عن العالم ولا يمكنه الوصول إلى صندوق البريد الإلكتروني الخاص به، ومجرد تماما من قدرته على العمل لأنه لا بد له من كتابة مقال للدراسات الفلسطينية ويجب إرساله في منتصف هذا الشهر.

ومن بين الأمور الأكاديمية التي تشغل باله هي ما إذا كان سيستطيع تلبية دعوة المعهد الفرنسي للشرق الأدنى والمعهد الفرنسي في رام الله لتقديم موضوع بحثه مطلع الشهر المقبل حول “الهجرة الجزائرية إلى فلسطين خلال الحقبة الاستعمارية”.

وعن تأثير كل هذه الأحداث على نفسيته، قال يانيس إنه يعاني من صداع نصفي سيئ للغاية ويتناول علاجا مضادا للاكتئاب، “لا أخفي عليكم أنني استيقظت هذا الصباح وأنا في حالة مزرية وأعلم أنني بحاجة إلى المضي قدما في حياتي والاستمرار في إنجاز أعمالي التي أُجبرت على تجميدها خارج إرادتي”.

سياسة التخويف

ووسط استنكار عدد من النشطاء والجمعيات المتضامنة مع فلسطين، يضاف هذا الملف إلى ملفات أخرى لأشخاص عوملوا بالطريقة نفسها في سياق قمع متزايد للأصوات المدافعة عن القضية الفلسطينية في فرنسا.

ويقول يانيس “عندما أتذكر التناقض الصارخ بين فظاعة العنف الذي تعرضت إليه والتفتيش وحقيقة إطلاق سراحي بعد 6 ساعات من التحقيق، سيبدو الأمر وكأنني أشكل تهديدا ملموسا للأمن الداخلي أو أخطط لهجوم إرهابي”.

وأكد أنه لم يسبق له أن هدد الدولة الفرنسية وليس هذا سبب ما حدث على الإطلاق، لأن “ما هو على المحك اليوم هو انتقاد أفعال إسرائيل والإدانة المشروعة للإبادة الجماعية”، مترجما ذلك “بالتاريخ الطويل من القمع الاستعماري والعنف ضد مظاهرات السترات الصفراء”.

وبرأيه، فإن ما تعرض له يأتي في سياق الرغبة المتزايدة في التخويف وتكميم الأصوات وتطبيق إجراءات غير عادلة ضد المتضامنين مع فلسطين الذين يطالبون بحق الشعب الفلسطيني في المقاومة الذي يكفله القانون الدولي. وأشار إلى عدم إجراء أي تحقيق ضد فرنسيين إسرائيليين بسبب الجرائم في غزة، مما يدل على “وجود انحياز ورغبة في التخويف لإعاقة الطرق المناصرة للفلسطينيين العادلة والإنسانية التي تدعو إلى احترام كرامة الإنسان والعدالة”.

ولم تنته هذه القضية بعد وأخبرته الشرطة أنه بمجرد أخذ البيانات من الأجهزة الخاصة به سيتم استدعاؤه مرة أخرى، “فإما سأحاكم بتهمة الإرهاب أو سأُفصل من العمل، في الحقيقة لا علم لي بما سيحدث فعلا. وقد يستمر الأمر لعدة أشهر لكنني حر في الوقت الحالي ويمكنني السفر”.

والأهم والأخطر بالنسبة لعرب، هو الصدمة التي تعرض لها وعائلته لأن ذلك يشكل عائقا أمام الحرية الأكاديمية، خاصة أن هناك عددا من الباحثين والأساتذة الذين يرغبون في التوقيع على عريضة لدعمه، كما يؤكد.

شاركها.
Exit mobile version