تحتفل الهند يوم الجمعة المقبل بيوم الجمهورية ومرور 74 عاما على اعتماد دستورها الذي تمت صياغته عقب التقسيم الدموي الذي أدى إلى إنشاء الهند لتكون دولة مستقلة إلى جانب دولة باكستان في حادث تاريخي نادر.
ورغم أن الدستور الهندي نص في مقدمة تعديله لعام 1976 على أن “الهند دولة علمانية ديمقراطية”، وهو ما يعني الفصل بين الدولة والشؤون الدينية، فإن المشاهد المتعاقبة الواردة من الهند تشي بأن رئيس الوزراء ناريندرا مودي يحرص على أن يبدو زعيما هندوسيا أكثر منه سياسيا.
كانت حسابات حركة الكواكب التي أجراها الكهنة الهندوس هي التي حددت موعد وضع حجر الأساس لمعبد رام الهندوسي المقام على أنقاض مسجد بابري التاريخي في بلدة أيوديا بشمال ولاية أوتار براديش شمالي الهند في الخامس من أغسطس/آب 2020، لكن حسابات سياسية هي التي حددت موعد افتتاحه المعبد أمس الاثنين.
وفي المناسبتين، تصدر رئيس الوزراء ناريندرا مودي المشهد، فهو الذي وضع حجر الأساس للمعبد الهندوسي الذي أقيم على أنقاض المسجد البابري الذي شُيد في القرن الـ16 شمال الهند والذي هدمه متشددون وغوغاء هندوس قبل 32 عاما بزعم أنه المكان الذي ولد فيه “الإله الهندوسي رام”، حسب معتقدهم.
وقبل 4 أعوام، تجاهل مودي منتقديه الذين اعتبروا مشاركته في بناء معبد هندوسي أمرا مخالفا لدستور الهند باعتبارها دولة علمانية، بل حرص على وضع حجر أساس معبد رام بنفسه في حفل هندوسي حاشد أقيم لهذا الغرض في ذروة انتشار جائحة كورونا.
وخلال وضعه حجر الأساس، اعتبر مودي المعبد “رمزا للهند الحديثة” واليوم الذي وضع فيه حجر الأساس “يوما تاريخيا”، إذ تزامن مع الذكرى الأولى لإلغاء الحكم الذاتي لولاية كشمير ذات الغالبية المسلمة، التي لطالما كانت محل نزاع مع جارتها وتوأمها اللدود باكستان.
ولدى تدشينه المعبد أمس الاثنين، وضع مودي زهرة لوتس أمام الصنم الحجري الأسود للمعبود الهندوسي رام، الذي كان مزينا بزخارف ذهبية، حاملا قوسا وسهما ذهبيين، ثم سجد للصنم.
ووسط تصفيق حاد، قال مودي في كلمة ألقاها بعد الحفل أمام آلاف الحاضرين: “لقد وصل الإله رام بعد قرون من الانتظار”، مشددا على أن المعبد تم بناؤه بعد “تضحيات لا حصر لها” معتبرا ذلك شهادة على نهضة الهند “التي كسرت أغلال عقلية العبيد”. كما اعتبر أن يوم افتتاح المعبد “ليس مجرد تاريخ، ولكنه يمثل فجر حقبة جديدة”.
استبق مودي تصدره لحدث الافتتاح بالاستغراق في طقوس دينية هندوسية لمدة 11 يوما متوالية طاف خلالها على عدد من المعابد الهندوسية وقال في رسالة مسجلة على قناته على موقع يوتيوب: “لقد جعلني الرب أداة لتمثيل كل شعب الهند في أثناء التدشين”.
احتفال تاريخي
شاهد ملايين الهنود الحفل على شاشة التلفزيون، وقامت القنوات الإخبارية بتغطية مباشرة للحدث من دون توقف، إذ تم تصويره على أنه مشهد ديني.
وقال عنوان إخباري تلفزيوني “حكم رام راجيا يبدأ”، وعبارة “رام راجيا” سنسكريتية وتعني في الهندوسية الحكم العادل والأخلاقي، ولكن استعارها وتداولها القوميون الهندوس للدلالة على الهيمنة الهندوسية في الهند العلمانية رسميا.
وحضر حفل التدشين ما يقرب من 7500 شخص، ومن بينهم نخبة رجال المال والأعمال والصناعة والسياسيين ونجوم السينما، ومن بينهم القائد السابق لفريق الكريكت الوطني فيرات كوهلي، ونجم بوليوود أميتاب باتشان، وبثت الطقوس على شاشة عملاقة خارج المعبد بينما ألقت مروحية عسكرية بتلات الزهور.
وتدفق المصلون المبتهجون من جميع أنحاء البلاد للاحتفال بالافتتاح، حيث رقصت مجموعات منهم على أنغام الأغاني الدينية التي تنطلق من مكبرات الصوت على الطرق المزينة بالزهور. وتم وضع مجسمات ضخمة للورد رام واللوحات الإعلانية لمودي في كل مكان في جميع أنحاء أيوديا، وتم إغلاق الحدود لمنع مزيد من الناس من الدخول في ظل نشر نحو 20 ألف رجل أمن وأكثر من 10 آلاف كاميرا أمنية.
خططت حكومة مودي لعروض حية في جميع أنحاء البلاد، وحتى دور السينما عرضت الحدث وقدمت وجبات الفشار مجانا. وتنقل نشطاء حزب بهاراتيا جاناتا الحاكم من بيت إلى بيت لتوزيع الأعلام الدينية، في حين شجع مودي الهندوس في مختلف الولايات على الاحتفال بإضاءة المصابيح في المنازل والأضرحة المحلية. في حين أغلقت المكاتب الحكومية أبوابها لمدة نصف يوم، وأعلنت عديد من الولايات اليوم عطلة رسمية، كما أغلقت أسواق الأسهم والمال بهذه المناسبة.
وأفادت تقارير إعلامية هندية بأن كثيرا من النساء الحوامل اللاتي اقترب موعد ولادتهن طلبن من الأطباء التعجيل بمساعدتهن على وضع مواليدهن في هذا اليوم.
وامتدت الاحتفالات لتشمل الجاليات الهندوسية في الخارج، ففي المملكة المتحدة -حيث يوجد أكثر من مليون هندوسي و189 معبدا مسجلا رسميا لهم- أقام المجتمع الغوجاراتي (نسبة إلى ولاية غوجارات الهندية موطن مودي) احتفالا ضخما في معبد فيشوا الهندوسي في ساوثهول، وتدفق آلاف الهندوس على المعبد للاحتفال لمدة أيام وتضمن ذلك القراءة المستمرة للملحمة الهندوسية رامايان.
وقال الأمين العام للمعبد، وهو أيضا المتحدث باسم المجلس الهندوسي في المملكة المتحدة، إن الهندوس كانوا ينتظرون هذه اللحظة لفترة طويلة. وقال إن آلاف المصلين وبعض النواب المحليين أضاؤوا آلاف المصابيح احتفالا بالافتتاح. ونظم بعض أعضاء الجالية الهندية من الهندوس مسيرة ضمت 325 سيارة في العاصمة لندن بهذه المناسبة.
فاتيكان هندوسي
قبل يوم من حفل الافتتاح، قال رابيندرا نارين سينغ، رئيس جماعة فيشوا هندو باريشاد (VHP) وهي جماعة هندوسية يمينية، إن “ضريح رام في أيوديا سيتم تطويره على غرار مدينة الفاتيكان ومكة، وسيظهر كرمز لهندوتفا”، داعيا الهندوس إلى “الوقوف متحدين أمام التحولات الدينية القسرية، ومبشري الديانات الأخرى”.
أما المتحدث باسم الجماعة نفسها شاراد شارما، وهو عضو في الصندوق الهندوسي لبناء المعبد، فقال “بعد 500 عام من القمع الهندوسي، يُعاد الإله رام أخيرا إلى أيوديا”. وشبّه المجمع بـ”مدينة الفاتيكان”، مؤكدا مكانته باعتباره “أقدس موقع للهندوس في جميع أنحاء العالم”.
ويمتد المعبد على مساحة 7.4 أفدنة، ويقع فوق أنقاض مسجد بابري الذي يعود تاريخه إلى القرن السادس عشر، ولم تمول الحكومة الهندية بناء المعبد، الذي تقدر تكلفة الجزء الذي تم بناؤه بـ217 مليون دولار جمعت من تبرعات الهندوس، ويقول المسؤولون إن المعبد، وهو عبارة عن مبنى مكون من 3 طوابق، مصنوع من الحجر الرملي الوردي.
وتذكر تقارير غربية، نقلا عن مصادر هندوسية، أن التبرعات للمعبد -الذي سيصبح ثالث أكبر معبد في العالم- بلغت 4 تريليونات روبية (38 مليار جنيه إسترليني). ومن مصادر مختلفة تدفقت الهدايا، التي كان بينها عود بخور طوله 33 مترا مصنوع من روث البقر والسمن والأعشاب، ويتوقع أن يزوره 100 ألف من المصلين يوميا.
حسابات انتخابية
يحفظ التاريخ للآباء المؤسسين للهند محاولتهم الحفاظ على تماسك أمة شديدة التدين والتنوع واتفقوا على أن الحكومة وممثليها سيتعاملون مع جميع الأديان على قدم المساواة، لكن هذا الحل الوسط لم يحظ برضى القوميين الهندوس الذين ينظرون إلى المسلمين بشيء من الحسد إزاء إنشاء باكستان دولة للمسلمين، وكانوا غاضبين من حرمانهم من دولة هندوسية خاصة بهم.
وبعد عقود، وجد هؤلاء ضالتهم في مودي الذي كان عضوا في منظمة “راشتريا سوايامسيفاك سانغ”، وتعني منظمة التطوع الوطنية، وهي منظمة يمينية قومية هندوسية شبه عسكرية لها جذور في بعض الحركات الفاشية في الهند في عشرينيات القرن الماضي. وتدعو إلى إنشاء دولة يؤدي فيها الحكم المركزي القوي لحزب هندوسي عنصري وزعيمه إلى ولادة حضارة هندوسية ذهبية من جديد.
هذه المنظمة هي التي أنجبت لاحقا معظم رموز حزب “بهاراتيا جاناتا”، ونتيجة للعار الذي لحق بالحركة جراء إقدام أحد منتسبيها على اغتيال المهاتما غاندي يوم 30 يناير/كانون الثاني 1948، ورغبة منها في دخول البرلمان، غيرت اسمها إلى “جانا سانغ” ودخلت انتخابات 1957.
صعد مودي إلى السلطة عام 2014 متعهدا بإصلاح اقتصاد البلاد والدخول في حقبة جديدة من التنمية، ولكن طوال حياته السياسية كان أيضا يدفع بقوة لأجندة هندوتفا، وهي أيديولوجية تعتقد أن الهند يجب أن تصبح أرضا للهندوس.
وخلال السنوات العشر التي قضاها في السلطة، سعى إلى تحويل البلاد من ديمقراطية علمانية إلى دولة هندوسية مميزة، ويقول المحللون إن العرض المليء بالأبهة الذي قادته الحكومة يظهر مدى تآكل الخط الفاصل بين الدين والدولة في عهد مودي.
وعندما أصدرت المحكمة العليا الهندية عام 2019 حكمها لبناء معبد رام محل مسجد بابري، قال مودي إن القرار “جلب فجرا جديدا” للأمة وسيؤدي إلى “خلق الهند الجديدة”. ومن ثم يُعدّ بناء المعبد انتصارا سياسيا وثقافيا لمودي ولحزب بهاراتيا جاناتا القومي الهندوسي الحاكم، وحياة مودي السياسية نفسها تزامنت مع قيام هذا المشروع السياسي الهندوسي، ولذلك يبدو تكريس المعبد أشبه بتكريس مودي نفسه كزعيم سياسي و”ديني” من الهند.
ويرى المحللون في احتفال أمس بداية الحملة الانتخابية لمودي، ودفعة قوية لتطلعات حزب بهاراتيا جاناتا في الانتخابات العامة التي ستجرى على مدى عدة أسابيع في أبريل/نيسان ومايو/أيار المقبلين، إذ يأمل أن يقوده ذلك إلى فترة ولاية ثالثة قياسية على التوالي في تلك الانتخابات.
ومن شأن الأغلبية الساحقة لحزب بهاراتيا جاناتا أن تمكن مودي -في حال نجاحه في الانتخابات- من تعديل الدستور خلال فترة ولايته الثالثة لمدة 5 سنوات. وتتطلب التعديلات الرئيسية موافقة ثلثي الأعضاء الحاضرين في كل مجلس من مجلسي البرلمان، يليها في بعض الحالات موافقة ما لا يقل عن نصف المجالس التشريعية للولايات البالغ عددها 28 ولاية.
وتضمنت التغييرات الدستورية التي ناقشها حزب بهاراتيا جاناتا وأسلافه في الماضي إعادة تسمية الهند باسمها السنسكريتي “بهارت”، وفرض إجراء انتخابات متزامنة لكل من البرلمان والمجالس التشريعية في الولايات، وتأميم الحظر على ذبح الأبقار الذي أصبح ساري المفعول الآن في بعض الولايات.
إن استخدام منصب سياسي منتخب لرئاسة الاحتفالات الهندوسية أمر غير مسبوق إلى حد كبير في تاريخ الهند كجمهورية علمانية، كما أن توجيهات مودي للساسة، التي تطلب منهم زيارة المعابد الهندوسية، من شأنها أن تخلف التأثير نفسه في حرمان الساسة غير الهندوس من حقوقهم.
وفي العقد الذي قضاه في رئاسة وزراء الهند، سعى مودي منذ ذلك الحين إلى عكس عديد من هذه الاتفاقيات وتوفير رعاية الدولة للهوية الدينية الهندوسية. وكانت هذه الحملة مبنية في الأصل على الاعتقاد أن العلمانية في الهند انحرفت بشكل غير عادل لصالح الأقليات الدينية.
وعام 2018، ألغى مودي الدعم الذي كانت تقدمه الدولة للحجاج المسلمين، كما نجح حزب بهاراتيا جاناتا الذي يتزعمه مودي في التقليل بشكل مطرد من تمثيل المسلمين في السياسة الوطنية، ومنذ عام 2022، لم يكن لديه أي عضو مسلم في البرلمان– في بلد ينتمي فيه نحو 200 مليون شخص إلى دين الإسلام.
وقد قاطع الحدث بعض كبار زعماء “حزب المؤتمر”، المعارض الرئيسي في الهند، إذ اتهم عديد من المشرعين المعارضين مودي باستغلال المعبد لتحقيق نقاط سياسية. وردا على هذه المقاطعة، قال سودهانشو تريفيدي، المتحدث باسم حزب بهاراتيا جاناتا، إن السبب وراء ذلك هو “الغيرة والحقد وعقدة النقص تجاه رئيس الوزراء ناريندرا مودي”، معتبرا أن حزب المؤتمر يعارض “البلد” و”الإله”، على حد قوله.
مخاوف المسلمين
ويشكل افتتاح مودي للمعبد -أمس الاثنين- سابقة لرؤساء الوزراء الهنود في أداء وظائف دينية، وبالتالي جعل غير الهندوس غير قابلين للانتخاب لهذا المنصب، وإذا كان افتتاح المعبد يشكل انتصارا لمودي وأنصاره، فإنه في المقابل بمثابة ضربة لعديد من المسلمين الذين لا يزال تدمير مسجد بابري مصدرا للتوتر والشعور بالخسارة العميقة بالنسبة لهم.
ويشكل المسلمون نحو 200 مليون من سكان الهند البالغ عددهم 1.4 مليار نسمة. وأصبحوا في عهد مودي مواطنين من الدرجة الثانية ويتعرضون بانتظام لانتهاكات حقوق الإنسان -حسب مؤسسة فريدوم هاوس- التي تقول إن الهند التي كانت تعتبر أكبر ديمقراطية في العالم “يتزايد اضطهاد المسلمين فيها”.
وهناك دلائل تشير إلى أن معبد أيوديا قد يمثل حقبة جديدة من حرب التفوق الهندوسي على المساجد. وبالنسبة للأقلية المسلمة في البلاد، يعد تذكيرا مؤلما بالانقسامات الدينية التي يخشون أن تصبح أكثر وضوحا في ظل استمرار حكومة حزب بهاراتيا جاناتا بقيادة مودي.
وتتزايد مخاوف المسلمين خصوصا أن هناك عديدا من القضايا المرفوعة أمام المحاكم الهندية تسعى إلى هدم مزيد من المساجد من أجل بناء المعابد الهندوسية في فاراناسي وماثورا ومدن أخرى. وقد تؤدي عمليات الهدم هذه إلى إطلاق العنان لمزيد من العنف ضد الأقلية المسلمة المحاصرة في الهند، وترسيخ الشعور بأن البلاد للهندوس، وللهندوس وحدهم.