بعد أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول، عادت القضية الفلسطينية إلى الواجهة لتثير انتباه العالم. حيث بادرت مجموعة من الدول إلى الاعتراف بدولة فلسطين، كالنرويج وإسبانيا وأيرلندا.. كما أكدت أخرى اعترافها، مثل البرازيل ونيكاراغوا وتشيلي. وعبرت دول عديدة عن نيتها الاعتراف بحقّ الفلسطينيين في الوجود، والدفاع عن عضويتها كاملة بهيئة الأمم المتحدة، ومختلف الآليات الدولية المرتبطة بها.

دينامية الاعتراف هذه، ودعمها على مختلف الواجهات: الاقتصادية، والسياسية، والدبلوماسية شملت محور دول الميركوسور بأميركا اللاتينية، الذي يضم البرازيل، وباراغواي، أوروغواي، والأرجنتين، وأخيرًا بوليفيا التي ما زال التحاقها بالمحور مرتبطًا باستكمال بعض المساطر التقنية الشكلية، بعد حسمها المبدئي في الموضوع. حيث حضر رئيسها لويس آرسي في القمة الرابعة والستين الأخيرة التي انعقدت بمدينة أسونسيون في باراغواي بتاريخ 8 يوليوز/تموز 2024. إلى جانب دول شريكة هي: تشيلي، البيرو، الإكوادور وكولومبيا.

سوق مشتركة بأفق سياسي

الميركوسور تأسّست يوم 26 مارس/آذار 1991 بموجب معاهدة أسونسيون التي دخلت حيّز التنفيذ بعد توقيع الدول الأعضاء على ما يسمى برتوكول “أورو بريتو” الذي وضع الإطار المؤسساتي لمالية المجموعة الاقتصادية. وتتشكل هيكلتها التنظيمية من مجلس السوق المشتركة الذي يعتبر المستوى الرئاسي للتكتل، والمتشكل من وزراء الخارجية والاقتصاد للدول الأعضاء المتناوبة على رئاسة هذا المجلس كل ستة أشهر.

ومجموعة السوق المشتركة، هي آليّة تنفيذية تتولى اتخاذ إجراءات ذات طابع تنفيذي لتنسيق السياسات الاقتصادية لتحرير المبادلات التجارية مع الرفع التدريجيّ للرسوم الجمركية.

كما تتشكّل عضوية هذه المجموعة من وزيري الخارجية والاقتصاد ومحافظ البنك المركزي. هذا إلى جانب، سكرتارية عامة تتولى مهمة الاتصال بهياكل السوق المشتركة والتواصل مع الشركاء وباقي الدول. والمنتدى الاقتصادي والاجتماعي، ومحكمة إدارية، ومحكمة دائمة بمدينة أسونسيون في باراغواي تعمل على تقييم ومراجعة سياسات الميركوسور.

فالميركوسور هي سوق مشتركة لدول أميركا الجنوبية، إنها حقا صرخة في وجه حضور الولايات المتحدة الأميركية بالمنطقة للحفاظ على مصالحها المتقاطعة مع مصالح جزء من النخبة السياسية والفكرية بدول أميركا اللاتينية، ضد طموحات شعوب المنطقة التواقة إلى الحرية وتعزيز مسار التحول الديمقراطي.

كما أنها تعبير عن رفض الرؤية الأميركية المتماهية مع الأجندة الصهيونية بالمنطقة. في هذا السياق وقعت مجموعة الميركوسور اتفاقية التعاون الاقتصادي والتجاري مع منظمة التحرير الفلسطينية باسم السلطة الوطنية الفلسطينية بمدينة مونتيفيديو في أوروغواي، بتاريخ 20 ديسمبر/كانون الأوّل 2011.

وهو اتفاق يستبطن الاعتراف بدولة فلسطين، ويوظف واجهة الاقتصاد والتبادل التجاري لخدمة حق الشعب الفلسطيني في العدالة والحرية من جهة، ويستنفر باقي المحاور الإقليمية والجهوية لتحذو نفس الحذو، مثل دول مجموعة البريكس على سبيل المثال لا الحصر، من جهة ثانية.

فحجم المعاملات التجارية بين دول الميركوسور ودولة فلسطين يبلغ 32 مليون دولار في السنة، وهو الأمر الذي من شأنه إعادة تعديل توجهات دينامية العلاقات الدولية بمختلف أصعدتها، انتصارًا لقيم العدالة ورفع الظلم عن المظلوم مهما كانت جنسيته أو دينه أو لون بشرته أو عرقه.

خصوصًا أن دول محور الميركوسور تربطها علاقات مع محاور إقليمية أخرى مثل الاتحاد الأوروبي، الذي وقع معها اتفاقًا مبدئيًا بتاريخ 28 يونيو/حزيران 2019. كما أن هناك دولًا قوية مؤسسة للميركوسور، كالبرازيل مثلًا، تستطيع أن تقوم بأدوار طلائعية ومؤثرة دعمًا لموضوع الاعتراف بدولة فلسطين من داخل مجموعة الدول المشكلة للبريكس أو خارجها، مثل دول مجموعة العشرين الكبرى، والتي تعتبر البرازيل دولة عضوًا فيهما معًا.

وفي هذا السياق، من المهم الوقوف عند واقعة اتفاق الدول الأربع المؤسسة للميركوسور على رفض استقبال السفن التي تحمل علم المالفيناس، وهي عبارة عن أرخبيل أرجنتيني تستعمره بريطانيا في أقصى جنوب الأرجنتين، في إشارة مهمة لرفض مجمل الإستراتيجيات الاستعمارية بشقيها البريطاني والفرنسي داخل دول أميركا الجنوبية والوسطى ومنطقة الكاريبي.

وهو ما اتضح جليًا من خلال تأكيد رئيس أوروغواي وقتها، “خوسيه موخيكا”، على ضرورة دعوة دولتَي فنزويلا، والإكوادور للالتحاق بالسوق المشتركة “الميركوسور” من خلال خلق لجنة خاصة يعينها رؤساء دول المؤسسة للنظر في الموضوع. وهو ما لم يتحقق لأسباب كثيرة، يهيمن عليها الطابع السياسي، أكثر من شيء آخر.

البرازيل أول بلد يصادق على الاتفاقية

حسب مقتضيات القانون الدولي، خصوصًا اتفاقية جنيف لسنة 1969، التي تعتبر بمثابة الصكّ الدولي للاتفاقيات الدولية والعلاقات بين الدول، فإن التوقيع على الاتفاقية الدولية لا يعني دخولها حيّز التنفيذ، بل إن الأمر يتطلب بعد ذلك المرور عبر مسطرة المصادقة التي تختلف في تفاصيلها من دولة لأخرى.

البرازيل وبذكاء استثمرت اللحظة والسياق الدولي المساعد، وأعلنت المصادقة على اتفاقية التبادل التجاري الحر مع دولة فلسطين بمناسبة انعقاد القمة الرابعة والستين لدول مجموعة الميركوسور بعد أزيد من عقد على توقيع الاتفاقية. في إشارة إلى دعم الشعب الفلسطيني في معركته التحررية ضد الكيان العنصري الصهيوني، وفي تحدٍّ لإسرائيل التي سبق أن تم سحب سفير البرازيل من عاصمتها تل أبيب شهر مايو/أيار من هذه السنة من طرف الرئيس لويس إناسيو لولا دا سيلفا، متهمًا هذا الكيان بالإبادة الجماعية في حق شعب أعزل.

وهو ما كان سببًا مباشرًا كذلك في دعم البرازيل لجنوب أفريقيا في معركتها القضائية ضد إسرائيل بمحكمة العدل الدولية إلى جانب دول عديدة أخرى، خصوصًا أن الأخيرة هي الأخرى موقعة ومصادقة على الاتفاقية الأممية لمنع ومعاقبة الإبادة الجماعية المعتمدة من طرف الأمم المتحدة بتاريخ 9 ديسمبر/كانون الأول 1948.

البرازيل، من خلال رئيسها لويس إناسيو لولا دا سيلفا، ذهبت أبعد من الاعتراف بدولة فلسطين، بل شبهت جرائم الاحتلال الإسرائيلي الإحلالي بجرائم الهولوكوست نفسه. وهي دعوة لحشد مزيد من الدعم والاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني من طرف دول أميركا اللاتينية ومنطقة الكاريبي، بعد اعتراف كل من باهاماس، وترينيداد، وتوباغو، وجامايكا، وباربادوس بالدولة الفلسطينية في سياق الوضع الجيوستراتيجي الجديد الذي أفرزته وقائع ما بعد طوفان الأقصى.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version