عندما سُئل الرئيس الأميركي دونالد ترامب بعد تهديداته وإنذاراته لحماس بشأن الأسرى الإسرائيليين، قال: “انتهت المرحلة الأولى، وبدأت المرحلة الثانية. وينبغي لنتنياهو أن يتخذ القرار”. وأضاف أن استمرار الصفقة بيد إسرائيل، وأردف: “أنا خيبتي كبيرة حين أرى القتلى يعودون اليوم. حماس مجرمة تعتقد أنها تصنع لنا جميلًا بإعادة الجثث”.
من الناحية الظاهرية، يظهر كلام ترامب وكأن لإسرائيل كامل الاستقلالية في اتخاذ القرار الذي يناسبها. وهذا يعكس احترامًا لا يبديه تجاه استقلالية دول أخرى، سواء كانت حليفة أو معادية.
ولكن السؤال الأهم هو: هل يؤمن نتنياهو حقًا باستقلالية القرار الإسرائيلي؟ وهل يمارس هذا الإيمان على الدوام؟ أم أن الأمر مرتبط بمزاج وأهواء ترامب المتقلبة؟ في إسرائيل، بدأ البعض يشكك في حقيقة استقلالية القرار الإسرائيلي، لا سيما منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول وحتى الآن.
وهذا يعني أنه، رغم مماحكات نتنياهو مع جو بايدن، فقدت إسرائيل استقلاليتها في كل ما يتعلق بعلاقتها مع الولايات المتحدة.
الجسر الجوي والبحري الأميركي، الذي وفر لإسرائيل العتاد والذخائر، مكّنها من اجتياز أطول حرب في تاريخها بنجاح، لكنه كان على حساب تناقص استقلالية القرار الإسرائيلي.
وبلغ الأمر ذروته في الاحتضان الأميركي الشامل، الذي قاد تحالفًا دوليًا وإقليميًا لحماية إسرائيل من الصواريخ الإيرانية أكثر من مرة.
وحتى عندما تعثرت مفاوضات وقف إطلاق النار وتدخل ترامب إلى جانب إدارة بايدن، اندفعت إسرائيل مرغمة لقبول خطة بايدن التي كانت قد اقترحتها عليها ثم رفضتها.
ويرى كثيرون أنه لولا خشية نتنياهو من غضب ترامب، لما أقدم على قبول الاتفاق الذي يحاول حاليًا تفجيره جزئيًا. ومع ذلك، يواصل المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف الحديث عن المرحلة الثانية، وكأنها قدر محتوم، رغم اعتبار نتنياهو لها تهديدًا لحكومته.
صحيح أن نتنياهو وإدارة ترامب يتفقان على ضرورة عدم بقاء حماس كقوة عسكرية أو تنظيمية في غزة بعد الحرب، لكن هناك خلافات في جوانب أخرى. فقد تضطر الولايات المتحدة إلى مراعاة مواقف حلفائها العرب أكثر من إسرائيل في تحديد مستقبل غزة.
لكن هذا ليس البعد الوحيد الذي تتناوله هذه المقالة بشأن تراجع استقلالية إسرائيل بسبب حرب 7 أكتوبر/ تشرين الأول. فبين الدروس المستخلصة من الحرب، ضرورة عودة إسرائيل إلى إنتاج ذخائرها، وأكبر قدر ممكن من سلاحها.
وربما تكون هذه المهمة الأولى لرئيس الأركان الجديد، وهي أيضًا مطلب وزارة الدفاع، التي تأثرت بقيود محدودة فرضتها إدارة بايدن على نوع معين من القنابل الثقيلة خلال الحرب. ورغم محدودية هذه القيود، استخدمتها حكومة نتنياهو كذريعة لفشلها في حسم الحرب بالسرعة المطلوبة.
كتب قنصل إسرائيل السابق في نيويورك، ألون بنكاس، في صحيفة “هآرتس”، أنه منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، أرسلت الولايات المتحدة قوات كبيرة إلى الشرق الأوسط ثلاث مرات لمساعدة إسرائيل ضد إيران ووكلائها، بالإضافة إلى تقديمها مساعدات عسكرية ضخمة.
واعتبر ذلك مفارقة في العلاقات: في ظل حكم نتنياهو، كلما شعرت إسرائيل بالقوة، زاد اعتمادها على أميركا. وأشار إلى أن العلاقة غير المتكافئة بين البلدين تجعل إسرائيل أكثر اعتمادًا على الولايات المتحدة كلما ازدادت قوتها.
لطالما تظاهر نتنياهو أمام جمهوره بأنه الأكثر قدرة بين قادة إسرائيل على التعامل مع هذه المفارقة، وأنه الأجرأ في تحدي رؤساء أميركا من باراك أوباما إلى جو بايدن.
وربما تعود هذه الجرأة إلى فهمه العميق للخلاف الحزبي بين الديمقراطيين والجمهوريين، وإدراكه أن الجمهوريين باتوا يرون في إسرائيل شأنًا داخليًا أميركيًا.
لكن هذا التظاهر يغفل حقيقة أن إسرائيل، التي كانت موضع إجماع الحزبين لعقود، أصبحت اليوم محل خلاف بينهما. فقد أظهر آخر استطلاع لمعهد “غالوب” تراجع مكانة إسرائيل في المجتمع الأميركي.
كشف الاستطلاع عن أدنى مستوى في 25 عامًا للدعم الشعبي الأميركي لإسرائيل، وأعلى مستوى على الإطلاق في التعاطف مع الفلسطينيين.
وذكرت “معاريف” أن هذه البيانات قاتمة للغاية في ظل الحرب على غزة: إذ يحمل 54% فقط من الأميركيين رأيًا إيجابيًا عن إسرائيل، وهو أدنى رقم منذ عام 2000.
أما بين الديمقراطيين، فالوضع أسوأ، حيث أبدى 60% منهم رأيًا سلبيًا تجاه إسرائيل، في حين تعاطف معها واحد فقط من كل ثلاثة. في المقابل، لدى الجمهوريين تأييد ساحق لإسرائيل بنسبة 83%.
وحسب دانيال أديلسون، في تقرير نشرته صحيفة “معاريف” من نيويورك: “يعكس الاستطلاع الانقسام العميق بين إسرائيل والحزب الديمقراطي وأنصاره، ويظهر أنه للمرة الأولى في التاريخ، تحمل أغلبية الناخبين في أحد الحزبين الرئيسيين في الولايات المتحدة رأيًا سلبيًا تجاه إسرائيل؛ حيث أعرب 60٪ من الديمقراطيين عن موقف غير متعاطف معها.
وبالمقارنة، فإن الديمقراطيين أبدوا تعاطفًا أكبر مع غزة والسلطة الفلسطينية (45٪ لديهم موقف إيجابي تجاههما)، ومع مصر (61٪)، وكوبا (55٪)، مقارنة بتعاطفهم مع إسرائيل”.
وواضح أن هذه الصورة كانت بين أهم دوافع نتنياهو للتجاوب مع كل مطالب الرئيس ترامب حتى قبل توليه الحكم رسميًا. فهو يعرف أكثر من غيره أن ترامب، متقلب الأفكار، يمكن أن يتعامل بحدة مبالغ فيها ليس فقط مع نتنياهو، وإنما أيضًا مع إسرائيل ذاتها.
ولذلك، تعرف العالم على الموقف الأميركي النافذ في كل قضية وقف إطلاق النار والتبادل من خلال الاستماع إلى مبعوث ترامب، ستيف ويتكوف، وليس إلى المواقف الإسرائيلية.
ولا يمكن هنا المرور دون الإشارة إلى ما جرى مؤخرًا من تصويت إسرائيل إلى جانب أميركا ضد أوكرانيا في الجمعية العامة للأمم المتحدة.
وقد أثار هذا التصويت حنقًا شديدًا في أوكرانيا وأغلب الدول الأوروبية، خصوصًا أن مصالح إسرائيل مرتبطة جدًا بأوكرانيا، وبالدول الأوروبية، ولم تكن مضطرة للحاق بالموقف الأميركي. لكن هذا تقدير خاطئ، لأن إسرائيل باتت أقل استقلالية من أي وقت مضى تجاه الموقف الأميركي.
وقد كتب نير كيبنيس في موقع “والا” تحت عنوان “الرقص حول البيجر الذهبي: الحرب التي فقدت فيها إسرائيل استقلالها”، أنه نظرًا لانشغال نتنياهو الشديد بتسويق نفسه باعتباره الشخص الوحيد القادر على الصمود في وجه الضغوط الدولية، فإننا لم نلاحظ كيف فقدنا استقلالنا”.
وتساءل: “ماذا يظهر من هذه الصورة الكبيرة؟ إننا تحولنا من بلد مستقل ذي سيادة يتخذ قرارات الحرب والسلام بمفرده (على الأقل هذا ما اعتقدناه) إلى بلد تتخذ القرارات الأكثر أهمية لمستقبله من قبل الأجانب، حتى لو اعتبرناهم أصدقاء مقربين”.
وبعد أن يعدد ذرائع نتنياهو بشأن تغيير موقفه، يكتب: “دعونا نقبل رواية نتنياهو للحظة ونحاول تلخيصها إلى الحد الأدنى اللفظي: بايدن قال لإسرائيل لا، وترامب يقول لها نعم. ومن هنا، فإن الاستنتاج الوحيد هو أن من يقرر كيف ستتصرف إسرائيل في القضايا الأكثر أهمية لوجودها لا يجلس في القصر الحكومي في القدس، بل في البيت الأبيض”.
ومضى كيبنيس قائلًا: “سوف يزعم البعض أن هذا كشف عن أمر واضح، وأن من السذاجة الاعتقاد بغير ذلك، ولكن سيكون هناك أيضًا من يتذكر أيامًا أخرى، على سبيل المثال، عشية إعلان قيام دولة إسرائيل، عندما حاول الأميركيون تأجيل نهاية الانتداب البريطاني؛ خوفًا من أن ينفذ العرب مذابح في المستوطنات اليهودية.
وهناك أيضًا من سيتذكرون ويستحضرون حقيقة أن الفكرة الصهيونية في جوهرها، وخاصة في ذروة مجدها، دعت إلى إنشاء دولة ذات سيادة للشعب اليهودي في أرض إسرائيل، وكانت تهدف إلى قطع اعتماد اليهود على غير اليهود”.
وفي نظر كثيرين في إسرائيل، ورغم إيمانهم بأنه لولا الدعم الدولي الكثيف لما كان بوسع إسرائيل أن تنشأ، إلا أن هذا الإيمان لم يمنعهم من الاقتناع بأنهم ليسوا أقل استقلالية من أي دولة أخرى، لأنهم أصحاب الكلمة الأخيرة في كل ما يتصل بمستقبلهم.
كان هذا عند إعلان الدولة، وفي حربي 1956 و1967، وكذلك في قراراتهم بشأن اقتناء السلاح النووي، وتحالفاتهم، وأنواع صناعاتهم. لكن الحرب الأخيرة مثلت الاستثناء الأبرز، حيث إن رئيس الحكومة، الذي تباهى بأنه الأقدر على الصمود في وجه الضغوط الأميركية، كان الأكثر خضوعًا لها مقارنة بأسلافه.
وكان تشاك فريليتش، من مركز بيلفر للعلوم والشؤون الدولية في كلية كينيدي بجامعة هارفارد، دقيقًا حين وصف قبل سنوات واقع اعتماد إسرائيل على أميركا بأنه “اعتماد وجودي”.
وكتب حينها: “ربما تستطيع إسرائيل أن تبقى على قيد الحياة من دون الولايات المتحدة، وأن تخفض مستويات معيشتها بشكل كبير، وأن تنغلق على نفسها. ولكن من الواضح تمامًا أن إسرائيل سوف تعيش حياة أقل أمنًا وأكثر فقرًا، وسوف تعاني من عزلة شديدة ونمط حياة مختلف تمامًا عن ذلك الذي اعتاد عليه أغلب الإسرائيليين”. والمسألة ليست – فقط- نمطَ حياةٍ مختلفًا، بل هي مسألة حياة أو موت.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.