لا يوجد ما هو أسوأ من نظرية المؤامرة، حين تنتشر بين الشعوب، حيث إنها تعطل العقل والمنطق، وهي نظرية مناقضة لنظرية الفعل، فهي الأفيون المعطل للعقل، والمرض النفسي المزمن الذي لا تستقيم معه إرادة التغيير. وإذ يقال في قانون الإشاعة إنَّ مقدار الإشاعة يتناسب طرديًا مع مقدار الغموض، فإن مستوى الإيمان والانتشار لنظرية المؤامرة يتناسب طرديًا مع مستويات الهزيمة الداخلية والعجز، إضافة لمستويات الجهل بالقضية.

نظرية المؤامرة (Conspiracy Theory)‏ هو مصطلح يشير إلى شرح لحدث أو موقف اعتمادًا على مؤامرة لا مبررَ لها، وعمومًا تؤخذ المؤامرة في مضمونها على أفعال غير قانونيّة أو مؤذية تنفذها حكومة أو منظمة أو أفراد. تُنتج نظريات المؤامرة في أغلب الحالات افتراضات تتناقض مع الفهم التاريخيّ السائد للحقائق البسيطة.

لا يوجد في علوم العَلاقات الدولية مفهوم اسمه المؤامرة، بالعكس تمامًا فإنّ الباحث كلما أصبح أكثر تخصصًا في العلاقات الدولية ابتعد تمامًا عن براديغم المؤامرة في تحليل الصراعات، وتفسير الأحداث، وأصبح أكثر قدرة على استخدام أدوات تحليل علميّة تفسر علاقات المصالح والقوة والصراعات. يعني ذلك ألا منطقَ علميًّا لأصحاب هذه المدرسة.

إنَّ تفسيرَ كل حدث عظيم على أنّه مؤامرة، هو جهل حتّى في مبادئ علم التّخطيط وبناء الإستراتيجيّات والبدائل

تحوَلت نظرية المؤامرة مع مرور الوقت إلى أيديولوجيا في الذهنية العربية، ومنهج التفسير الأساسي للأحداث والوقائع. يعود ذلك لأسباب عديدة منها السياق الزمني الطويل للهزيمة والانكسار الذاتي والجمعي والذي أوجد بيئة خصبة للتعايش مع نظرية المؤامرة لعقود طويلة من الانتكاسات؛ فتحوَّلت من أداة تحليل غير علميَّة إلى عقيدة وأيديولوجيا لدى فئات ليست قليلة من الناس في المجتمعات المهزومة، ومنها مجتمعات منطقتنا، مع عدم التقليل من انتشارها أيضًا في كل المجتمعات، ولكنها في مجتمعاتنا أكثر.

أصبحت نظرية المؤامرة أيضًا مصدرًا للتكسّب في مجال التأليف والنشر، ولأنها لا تستند إلى قواعد علمية، كثُر المتكسبون من مثيري الغرائز والغرائب الذين يستغلون جهل الناس لتأليف الكتب التي تؤسس أو تحلل الظواهر والأحداث الكبيرة بناءً على نظرية المؤامرة؛ حتى إن ظواهر طبيعية مثل زلزال القرن في تركيا أشاعت فئات ليست قليلة من الناس أنها مؤامرة أميركيّة عبر زلازل اصطناعية، فصدقوها وآمنوا بها!

يعتبر التأليف في براديغم المؤامرة من أسهل طرائق التأليف؛ لأنه لا يحتاج إلى أدلة ومنطق علمي، فهي مجرد شطحات وليّ للأحداث لربطها بطرق سخيفة. يقف خلف تأطير ونشر فكر ونظرية المؤامرة أربع فئات:

  • الأولى: هم الباحثون عن الشهرة والتكسّب لعلمهم بوجود بيئة خصبة وجمهور عريض.
  • الثانية: الأنظمة التسلطية وأذرعها في المنطقة من أجل تبرير عجزها وعدم رغبتها بالفعل، ولأن العقد الاجتماعي بينها وبين مجتمعاتها ليسَ عقدًا طبيعيًا، بالتالي فهو مبنيّ على زراعة الشك لا بناء الثقة لضمان استمراريتها.
  • الثالثة: هم القدريون من الناس ممن يفسرون الأحداث بغيبيات وخرافات ليست من الدين الصحيح بشيء، بعيدًا عن فهم سياقات المصالح وعلاقات القوة والاستغلال وهيمنة الرأسمالية الجشعة وأدواتها.
  • الرابعة: هم المهزومون داخليًا ممن فقدوا الثقة في كل شيء حولهم.

كتبت وزيرة الخارجية الأميركيّة السابقة هيلاري كلينتون في مذكراتها أنها سئمت كثيرًا من مستوى تفسير كثير من النخب العربية للأحداث بنظرية المؤامرة من قبل أميركا خلال حواراتها معهم في ليبيا ومصر بعد الربيع العربي.

من المؤكد أن كلينتون وغيرها ليست المثال الجيد للاستشهاد، ولكن الشاهد هنا متى يمكن الانعتاق من هذا الفكر المعطل للعقل إلى فكر العمل والمبادرة والفعل المؤثر المنبثق من الإيمان بالجماهير والشعوب وصيرورة التغيير.

إنَّ تفسيرَ كل حدث عظيم على أنّه مؤامرة، هو جهل حتّى في مبادئ علم التّخطيط وبناء الإستراتيجيّات والبدائل؛ فمثلًا احتلال فلسطين ليس مؤامرة، بل هو فعل استعماري علني ومنظم تحالفت فيه علنًا قوى استعمارية عظمى مع قوى تابعة لها في الإقليم.

يكفي القول إنَّ الحركة الصهيونية في مؤتمر بازل عام 1897 وحين قررت إقامة دولة إسرائيل على أنقاض فلسطين حددت خمسين عامًا لذلك، وحددت (57) مسارًا بديلًا، منها بدائل في حال لم ينجح كل مشروع الدولة في فلسطين.

كذلك فإن قدرة الولايات المتحدة الأميركية على تغيير إستراتيجياتها واستحضار البدائل عند الأزمات وفق منظومة مصالحها بما يجعلها تظهر وكأنها صانعة الحدث، ينجم ذلك عن قدرة على بناء البدائل مقابل العشوائية والعمل وفق ردات الفعل التي تحركنا، وتجعلنا نتصور أنها تقف خلف كل أمر عظيم.

تكفي هذه المقدمة لتأطير سياقات نظرية وفكر المؤامرة، ولنذهب الآن إلى مجتمع جديد بات مسكونًا بنظرية المؤامرة، وأصابته عدوى المنطقة بعد أن كان متعاليًا عليها ومصنفًا من قبل الآخرين على أنه مجتمع مختلف، وهو المجتمع الإسرائيلي ما بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول.

لقد غيَر السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، في المجتمع الإسرائيلي أشياء كثيرة ليس هذا المقال مجالًا لحصرها، ولكنّ المتابعين للشأن الإسرائيلي يعرفون تمامًا أنه بات مجتمعًا مختلفًا سرت فيه كل الأمراض الاجتماعية التي كانت وصمة للمجتمعات المحيطة به.

لقد انتهت الهالة الفوقية التي تحظى بها إسرائيل والتي صنفتها فوق الاعتبارات الأخلاقية والفكرية والجمعية للإرادة الكلية، وذلك ما صنع لها الفارق في ظلّ فترات السكون الإقليمي.

باتت نظرية المؤامرة أداة تفسير أساسية لفئات ليست قليلة في المجتمع الإسرائيلي بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، وأصبحت جزءًا من نمط تفكير وإدارة علاقات، وأصبح الإسرائيليون ليسوا، فقط، غارقين في توزيع المؤامرات فيما بينهم، بل حتى إنهم استحضروا غيبيات من تلمودهم عن معارك آخر الزمان.

لا يحتاج ذلك إلى تفسير كبير، فالعقد الاجتماعي الذي بنيت عليه العلاقة بين المجتمع والدولة في إسرائيل وهو الثقة في الجيش والأمن قد تم كسره، كما أنها المرة الأولى منذ عام 1948 التي يستشعر فيها هذا المجتمع حقيقة الهزيمة ويشعر بمرارة الانكسار، وهذه هي البيئة الحاضنة لانتشار نظرية وفكر المؤامرة في أي مجتمع.

مؤخرًا طلب رئيس جهاز المخابرات الإسرائيلي “الشاباك” رونين بار من المراقب العام للدولة في إسرائيل ومن الحكومة تشكيل لجنة تحقيق رسمية في أحداث 7 أكتوبر/ تشرين الأول، وذلك ردًا على اتهامات النائبة في الكنيست تالي غوتليب، من حزب الليكود والتي قالت: “إن نظرية مؤامرة كانت وراء أحداث 7 أكتوبر/ تشرين الأول، واتّهمت الجيش الإسرائيلي والشاباك بالتواطؤ مع حماس في هجمات السابع من أكتوبر/ تشرين الأول”.

وأضاف الشاباك في بيانه الذي طلب فيه لجنة التحقيق: “الجمهور يتوق إلى ذلك، والشاباك يتوق إليه. هكذا ستكون هناك نهاية لكل الأكاذيب ونظريات المؤامرة “.

لا يعكس ما سبق سوى مثال بسيط لحالة الهوس التي لم تستطع حتى الآن استيعاب أن تتعرض إسرائيل لهكذا انتكاسة في ظروف فعل طبيعية ضمن حالة الشوفينية والاستكبار التي تربى عليها هذا المجتمع، فأعاد إنتاج فكر المؤامرة الخاص به، فهو ليس فريدًا ومختلفًا عن المجتمعات التي يعشعش فيها هذا السلوك، حيث التشكيك في كل شيء، الاتهامات وانعدام الثقة بين المجتمع والقيادة، استشعار روح المؤامرة في كل شيء، انعكس ذلك إلى حالة هستيرية لا يمكن تصديقها في التعامل مع فلسطينيي الداخل، وحتى بين اليهود أنفسهم.

أشارت صحيفة تلغراف البريطانية في تقرير لها إلى أنّ الإسرائيليين هذه الأيام يخشون “هرمجدون”، ويتوقعون نهاية العالم بعد هجمات 7 أكتوبر/ تشرين الأول، والحرب على غزة ومؤشرات الحرب في الشمال مع لبنان.

ولمن لا يعرف ماذا تعني “هرمجدون”، فهي في الفكر التوراتي والعهد القديم لدى اليهود والإنجيليين تعني معركة نهاية العالم والتي ستقع في منطقة مجدو في جنين شمال الضفة الغربية، وستسيل فيها دماء كثيرة ويُباد فيها غالبية اليهود، ويظهر المسيح المخلص؛ هذه هي إسرائيل اليوم، إنها ليست ما قبل 7 أكتوبر/ تشرين الأول.

لا يمكن حصر مستوى انتشار فكر المؤامرة في إسرائيل بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، فقد أصبح جزءًا من براديغم التحليل السياسي والاجتماعي للأحداث، ثمة نوعان من نظريات المؤامرة في إسرائيل اليوم: النوع الأول، كيف دخل مسلحو حماس إلى جنوب إسرائيل؟؛ والنوع الثاني، لماذا دخلوا؟

تقول إحدى نظريات المؤامرة الشائعة في إسرائيل، بحسب تقرير لـ”هآرتس” العبرية عن انتشار نظرية المؤامرة: إن عملية “طوفان الأقصى” اخترقت الحصون الإسرائيلية بسبب “الخيانة”.

فيما يرى إسرائيليون أنها خدعة سياسية قام بها بنيامين نتنياهو ليبقى في منصبه رئيسًا للوزراء، وليبدو في صورة مخلص إسرائيل من الهلاك.

والمثير للسخرية أن كل فريق في إسرائيل يصمم نظرية المؤامرة وفق أهوائه، فمثلًا أنصار نتنياهو يتهمون الجيش الإسرائيلي بأنه تواطأ وتآمر مع حماس من أجل الإطاحة بنتنياهو؛ لأن الجيش موالٍ للمعارضة في إسرائيل وللتظاهرات التي نظمتها للإطاحة بنتنياهو عقب احتجاجات الإصلاحات القضائية.

بينما يقول أنصار المعارضة في إسرائيل؛ إن نتنياهو أمر الجيش بتأخير تدخله ليقضي على التظاهرات المناوئة له!

إنَّ المهم فيما سبق ليس ما يقوله أي طرف ضد الآخر في تصميم نموذج نظرية مؤامرة خاصة به، لكن الأهم هو أن الجيش الإسرائيلي والمنظومة الأمنية هي محور نظرية المؤامرة ما يعني فقدان الثقة بها في كل الحالات، وهذا هو أساس قيام دولة إسرائيل. إن فقدان المجتمع للثقة بالجيش يعني بداية انهيار مجتمع تم تصميمه بناءً على علاقة الثقة بين الجيش والمجتمع.

يمكن القول إنَ المجتمع الإسرائيلي بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، أصبحَ شبيهًا في تفكيره مع شريحة ليست هينة في المجتمعات والنخب العربية المسكونة حتى الثمالة بفكر المؤامرة؛ نتيجة عظم الهزائم والانتكاسات التي تعايشها.

فمناوِئو المقاومة في فلسطين والمنطقة العربية ليسوا بأفضل حالًا حين نسبوا “طوفان الأقصى” لمخطط عالمي لإنجاز قناة بن غوريون المائية أو لتأسيس مدينة عالمية مكان غزة بعد تهجير سكانها أو غير ذلك من الخزعبلات التي لا أساسَ علميًا لها إلا في فضاء السوشيال ميديا، وتبرير العجز وتخوين وشيطنة الآخر لتبرير عدم الفعل.

شاركها.
Exit mobile version