بعد أحداث السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إن هذه الأحداث لم تظهر من فراغ. فكانت الحملة المسعورة ضده، والتي وصلت حد اتهامه بمعاداة السامية، حيث بدا للإسرائيليين، وكأن الرجل يبحث للفلسطينيين عن أسباب، ومن ثم عن مبررات وحتى عن أعذار.

لننطلق من ملاحظة السيد غوتيريش، ولماذا كان الرجل على حق عندما قال إنها لم تخرج من فراغ، علمًا بأن علينا توسيع مجال البحث لفهم عمق هذه الملاحظة.
إذن، قبل أحداث السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، حصلت معركة سيف القدس في 2021، وقبلها حروب: 2014 و2012 و2009 و2008 على غزة، وقبلها انتفاضتا 1987 و2000 في غزة، والضفة الغربية، وقبلها حروب: 2006 و1996 و1993 و1982 على لبنان، وقبلها حرب 1973 على مصر وسوريا، وقبلها حرب 1967 على مصر وسوريا والأردن، وقبلها حرب 1956 على مصر، وقبلها حروب: 1948 و1935-1936 على الفلسطينيين، وقبلها هجمات القسام على المستوطنات اليهودية سنة 1931، وقبلها انطلاق المقاومة الفلسطينية بقيادة عزالدين القسام سنة 1925.
بداهةً، السابع من أكتوبر/ تشرين الأول ليس بداية السلسلة ولا نهايتها، وإنما مجرد فصل أو منعطف في صراع يدوم منذ قرن.

أول استنتاج عندما تنظر للغابة، وليس لهذه الشجرة، هو إصرار الشعب الفلسطيني على الوجود، والفشل المريع للمشروع الصهيوني برمته. لنذكّر بأن هذا المشروع الذي انطلق بالمؤتمر الصهيوني في بازل سنة 1897، ودعّمه وعد بلفور سنة 1917، كان له هدف واحد: إيجاد وطن ليهود العالم في فلسطين يعيشون فيه بأمان من المذابح التي عرفوها في أوروبا الشرقية خاصة، وفي مأمن من الاضطهاد العنصري الذي يسمى معاداة السامية.

بالنظر لقائمة الحروب التي تشكل جلّ تاريخ المشروع الصهيوني في المنطقة من أول هجمات عزالدين القسام سنة 1931 وصولًا إلى هجمات القساميين في أكتوبر/تشرين الأول 2023، يمكن القول إن مشروع الوطن الآمن لم يتحقق، بل تحول إلى عكسه.
هل ثمة اليوم مكان أخطر على اليهود في العالم من إسرائيل؟ أي بلد فيه يهود يتعرضون لمثل ما يتعرض له اليهود في إسرائيل من قتل وجرح، كرد فعل على العنف الإسرائيلي، ناهيك عن العيش القلق الدائم في بلد السلام فيه دومًا مجرد هدنة بين حربين؟!
في علاقة بهذا الفشل الإستراتيجي الأول، ثمة هجرة معاكسة متزايدة لليهود من إسرائيل، حيث من المتوقع أن تنعكس الموجة لتكون أرض الميعاد هي الأرض التي يهرب منها اليهود، لا الأرض التي يهربون إليها.

أما بخصوص معاداة السامية، فإن مجازر إسرائيل – منذ دير ياسين سنة 1948 وصولًا إلى مجازر مستشفى المعمداني وجباليا ومخيم المغازي سنة 2024 – هي التي تغذّي اليوم مشاعر النفور من اليهود في العالمين: العربي والإسلامي، وكانا منها بريئَين. نفس الشيء يحدث في بقية العالم وإن بكيفية أقل، وهذا ما دفع باليهود العقلاء إلى التنصل من جرائم إسرائيل، إذ يدركون الضرر البالغ الذي تلحقه بيهود أبرياء قد يذهبون ضحية الخلط بين الصهيونية واليهودية.

الحصيلة إذن من الناحية الإستراتيجية، هي أن المشروع الصهيوني فشل حتى الآن في تحقيق أهدافه الرئيسية، وأن أزمته تتعمق يومًا بعد يوم. وكل المحاولات الترقيعية لإنقاذه تبوء بالفشل بعد الفشل. وأحسن دليل على ذلك، تواضع النتائج رغم ما بذل من مال ونفوذ ومكر وعنف وتحالفات.

  • كل فترات السلام المزعوم كانت مجرد هدن بين حربين.
  • لم تتوقف محاولات فرض الاستسلام على الفلسطينيين والعرب بالقوة، كما بشر بذلك نتنياهو في مذكراته، ومع ذلك تبين أن التطبيع، صفقة القرن، ومعاهدات أبراهام كانت فرقعات إعلامية لا أكثر.
  • تفاقم كره إسرائيل حتى في البلدان التي أقامت أنظمتها علاقات مع الدولة الصهيونية.
  • أهم من هذا كله، انتهت الحروب الخاطفة “الأنيقة” مثل حرب 1956 أو حرب 1967، إذ دشن طوفان الأقصى عصر الحرب الطويلة التي لا تستنزف فقط الآلة العسكرية، وإنما تستنزف اقتصاد إسرائيل وسمعتها وصورتها، ناهيك عن بداية ظاهرة اللاجئين الإسرائيليين، في حين تعودنا على أن كلمة لاجئين لا تقرن إلا بالفلسطينيين.

نهاية السلسلة

السؤال الآن: كيف ستتواصل السلسلة التي لا يعرف أحد كيف ستنتهي، والتي يمثل طوفان الأقصى نقطة تحول بالغة الخطورة فيها؟

حاليًا، السيناريو الوحيد أمام إسرائيل هو بين الحرب الأزلية والحرب الأبدية، ومن ثم الخيار المفروض على الفلسطينيين والعرب، هو المقاومة أو المقاومة، وذلك لثلاثة أسباب.

  • السبب الأول: هو إمعان غلاة الصهاينة الذين يحكمون إسرائيل في نفس النهج الانتحاري؛ أي الوجود بالقوة ولا شيء غير القوة، والسلام في أذهانهم يعني استسلام الشعب الفلسطيني والأمة العربية لإرادتهم.

لقد وضع التاريخ المنطقة في بداية التسعينيات أمام خيارين: حل الدولتين أو الحرب للثلاثين سنة المقبلة، فاختار ضيقو الأفق الخطيرون في إسرائيل المسار الثاني؛ باعتبار إمكانية فرض الاستيطان في الضفة الغربية، والأبارتايد داخل الخط الأخضر، والحصار في غزة، ممكنًا إلى ما لا نهاية أو بدون تكلفة كبيرة.

ثم هم تدبروا أمرهم بالاستيطان ليجعلوا حل الدولتين مستحيلًا، وهو ما لا يريد الاعتراف به من ما زالوا يتحدثون عن هذا الموضوع، يريدون إقناعك وإقناع أنفسهم بأن طبق أرز طبخ منذ ثلاثين سنة ما زال صالحًا للأكل.
ورغم أن كل الأحداث أثبتت حماقة هذا الاختيار، فإن وصول اليمين المتطرف للحكم في إسرائيل ودخوله في معركة تهويد المسجد الأقصى المبارك وحديثه اليوم عن عودة الاستيطان في غزة، دلالات واضحة على أن سيناريو الحرب الأزلية هو الذي انزلقت فيه إسرائيل، مع بعض الوهم حول صفقة قرن أخرى واستسلام للمقاومة وملل الأجيال المقبلة، إلى آخر الأوهام التي يغذي بها المشروع الصهيوني نفسه منذ قرن.

  • السبب الثاني: هو وصول موجة الكراهية المتبادلة إلى مستويات غير مسبوقة.
    إذا كان طوفان الأقصى قد شكّل صدمة نفسية للإسرائيليين ورفع بصفة رهيبة من مستوى خوفهم وكرههم وإرادة الانتقام من الفلسطينيين والعرب، فإن ما ارتكبته إسرائيل من جرائم يندى لها الجبين رفع أكثر وأكثر منسوب الكره والرفض وإرادة الانتقام من المنتقمين عند كل الأجيال العربية، وخاصة الأجيال الجديدة التي ستنشأ بين الركام الذي خلفه “الجيش الأكثر أخلاقًا في العالم”.
  • السبب الثالث: هو ما رصده المؤرخ البريطاني الكبير توينبي.
    فبالنسبة إليه، أهم عامل في ظهور الحضارة والدول والأنظمة هو التحدي، أي نزعة كل البشر لمواجهة الصعوبات والفوز في المحن والامتحانات التي تفرضها عليهم. إنها الآلية التي جعلت من يهود قيل عنهم لقرون إنهم لا يصلحون إلا للتجارة والربا، جنودًا يثيرون الرعب بقسوتهم.

هذه الآلية هي التي جعلت العرب بصفة عامة، والفلسطينيين بصفة خاصة، يرفعون تحديات القدرة الاستخباراتية والعسكرية الإسرائيلية، ويتغلبون عليها كما رأيناه واضحًا في حرب 1973، أو في طوفان الأقصى. بالطبع سنرى الإسرائيليين يرفعون تحدي تحديهم؛ لاسترجاع ما يسمونه الردع بالوسائل الوحشية التي شاهدها العالم أجمع مندهشًا وعاجزًا.

ولأن العرب سيرفعون التحديات التي واجهت تحدياتهم، فالمستقبل هو لحروب لا تتوقف؛ بحثًا عن الردع وردع الردع، ولسلطة الرعب ومزيد من التوحش في إدارة الصراع.
لم يكن من باب الصدفة أن يستشهد نتنياهو بما ورد في سفر صموئيل الأول 15: الآية 3:
“فَالآن اذهَب واضْربْ عَمَالِيقَ وَحَرِّمُوا كُلَّ مَا لَهُمْ وَلاَ تَعْفُ عَنْهُمْ، بَلِ اقْتُلْ رَجُلًا وَامْرَأَةً، طِفْلًا وَرَضِيعًا، بَقَرًا وَغَنَمًا، جَمَلًا وَحِمَارًا”.
إلى أين سيقود مثل هذا الجنون؟ إلى ما أسميه متلازمة شمشون؛ أي خراب الشرق الأوسط كله فوق رأس الجميع.
أنصح كل أصحاب القرار في الوطن العربي بقراءة متمعنة للتوراة؛ لفهم جذور أفكار هؤلاء الراديكاليين الخطيرين الذين يدفعون بشعبهم وبشعوب المنطقة إلى حافة الهاوية.
ففي التوراة ثمة ما هو أكثر إثارة للقلق من سفر صموئيل، إذ تقول الآية 28 في سفر القضاة 16:
“ثمّ دعا شمشون الربّ قائلًا: ”يا ربّ، يا رب، يا الله، أعطني القوّة هذه المرّة فقط لأنتقم لنفسي من الفلسطينيين لفقدان عينيّ”.
وتقول الآية 29: “ثم احتضن العمودين الأوسطين اللذين يقوم عليهما البناء ووضع يده اليمنى على أحدهما ويده اليسرى على الآخر”.
وتقول الآية 30: “فصرخ قائلًا: ”لَيْتَنِي هَلَكْتُ مَعَ الْفِلِسْطِينِيِّينَ!” ثم، وبجهد فائق، قذف المبنى على الأمراء وعلى جميع الناس المجتمعين معًا. وَبِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ قَتَلَ مِنَ الرِّجَالِ بِمَوْتِهِ أَكْثَرَ مِمَّا قَتَلَ فِي حَيَاتِهِ كُلِّهَا.
من يدري، قد يجد متطرفو الصهيونية في هذا المقطع من التوراة تبريرًا لسياسة “عليّ وعلى أعدائي يا رب” ليدمروا أنفسهم ومشروعهم، ويدمروا معهم كامل المنطقة.

هل ثمة إمكانية أخرى تقينا جميعًا من هذه النهاية المرعبة؟

نعم، إنه ما أسميه حلّ مانديلا، أي توقف الإسرائيليين عن التعلق بوهم التفوق العرقي – كما فعل البيض في جنوب أفريقيا – والكفّ عن نفي حق الآخر في أرض آبائهم وأجدادهم – كما فعل البيض في جنوب أفريقيا – والتخلي عن الاعتقاد بقدرة السيطرة بالقوة إلى الأبد على شعب آخر – كما فعل البيض في جنوب أفريقيا – والقبول بالعيش المشترك في دولة ديمقراطية تحترم حقوق كل مكوناتها العرقية والدينية، – كما فعل البيض في جنوب أفريقيا – وقبل بذلك السود والهنود والخلاسيون.
ليس من باب الصدفة أن جنوب أفريقيا هي التي ساقت إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية؛ لأنها تمثل أمام نفس المشكلة العويصة – أي صراع شعبين على نفس الأرض – الخيار النقيض، الخيار الناجح ضد الخيار الفاشل، الخيار الإنساني ضد الخيار الهمجي.

لنلخص: في كل الحالات، إسرائيل الدولة اللاهوتية العنصرية العسكرية ستنتهي إما سلمًا بحلّ مانديلا، أو حربًا بمتلازمة شمشون.

رحم الله الشهداء، وأعان شعوبنا وأمتنا على مواصلة النضال ضد البعبعَين: بعبع الاستعمار الذي تمثله إسرائيل، وبعبع الاستبداد الذي هو نتاجها وحليفها. ولا بدّ لليل أن ينجلي.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version