صورة واحدة ليحيى السنوار رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في لحظة استشهاده؛ هدمت السردية الإسرائيلية التي بثّتها المؤسسة الإسرائيلية طوال عام كامل من الحرب، وهي السردية ذاتها التي ردّدتها أوساط متعددة، من غير الإسرائيليين، معادية للرجل وتنظيمه ومشروعه المقاوم.
قُتل الرّجل مع رفيقَين له في موقع تتقدّم فيه قوّات الاحتلال الإسرائيلي في منطقة تلّ السلطان برفح، وهو يحمل بندقيته وجَعبته، وقد ظهرت آثار رصاص الاحتلال في وجهه وركبته، كما أظهرت تسجيلات الطائرات المسيّرة أنّه قاتل طائرات الكواد كابتر بعصا بيده اليسرى بعدما أصيبت يده اليمنى (بدت وكأنّها قُطعت). لقد كان الرجل في حالة اشتباك.
لم يُقتل بين المدنيين، أو في أماكن إيواء النازحين، ولم يكن محتميًا بالأسرى الإسرائيليين، كان في تلّ السلطان برفح لا في دير البلح ولا في خان يونس، وبالرغم من أنّ الكمون في النفق لا يعيب، لأنّ النفق جُعِل للتعويض عن الطبوغرافيا القتالية المفقودة في قطاع غزّة، ولتفويت الفرصة على العدوّ، إذ إنّ واحدة من أهمّ الأهداف العسكرية قتل القادة وتدمير غرف القيادة والسيطرة، فإنّ الرجل كان فوق الأرض، بعتاده، في منطقة قتال.
ليست هذه الصورة التي أرادها الاحتلال لنهاية يحيى السنوار، أراده أسيرًا في مشهد إذلال وتشفٍّ، أو قتيلًا في نفق أو بين المدنيين أو في خيام النازحين ومراكز الإيواء. بيد أنّ الصورة التي نشرها جنود الاحتلال لغرض التفاخر والاستعراض، قطعت على مؤسسة الاحتلال القدرة على اصطناع صورة زائفة عن مقتل الرجل.
ومع ذلك فإنّ بنيامين نتنياهو، في خطابه الاحتفالي بمقتل يحيى السنوار، أعاد تكرار الدعاية إيّاها، عن “الرجل الذي ورّط شعبه واختبأ هاربًا”، يُعاند بها الصورة التي نشرها جنوده، ولكن الوقت فات، فكلّ ما يمكن قوله يتلاشى في جنب الصورة الكاشفة عن الموقف الذي استشهد فيه الرجل، في وضع كان فيه جنديًّا بين جنوده، ومقاتلًا بين مقاتليه، في حين يقضي يائير بن بنيامين نتنياهو أوقاته في ميامي في الولايات المتحدة، بينما يُقتل جنود والده في ميدان الحرب!
لكن ليست الصورة وحدها التي فوّتت الفرصة على دعاية ينسجها الاحتلال من الأكاذيب، ولكنّها المفاجأة، فالرجل لم يُقتل في عملية اغتيال تستند إلى معلومات استخباراتية، ولكنه قتل فقط لأنّه كان في موقع قتاليّ متقدم، حينما لاحظ جنود الاحتلال دخول ثلاثة مسلحين فلسطينيين منزلًا، فأطلقوا عليهم قذيفة دبابة، فلمّا حاول الجنود الدخول إلى المنزل ألقى عليهم السنوار قنبلتين يدويتين واشتبك معهم، فاحتمى الجنود من جديد بقذائف الدبابة وبالطائرات المسيرة، التي قاتلها السنوار بما خفّ من العِصي والحجارة بعدما أُصيبت يمناه.
دامت القصة، بحسب مصادر الاحتلال، من الساعة العاشرة صباح الأربعاء 16 أكتوبر/ تشرين الأول، وحتى الرابعة من عصر اليوم نفسه. فقط في اليوم التالي عاد الجنود لتمشيط المكان، ولأنّ الإسرائيلي يصعب عليه كبح نزعة التفاخر والاستعراض لديه، من أصغر جنديّ إلى رأس كيان الاحتلال، سارع جنوده بنشر صورة الرجل الذي اشتبهوا بكونه هو السنوار.
في هذه الحالة، وبقدر ما يمكن عدّ مقتل السنوار إنجازًا للاحتلال، فإنّه إخفاق من حيثية أخرى، ليس فقط لأنّ لحظة استشهاده هدمت السردية الإسرائيلية وعزّزت من كون السنوار في الوعي الفلسطيني والعربي بطلًا استشهد في موقع قتاليّ متقدّم، ولكن أيضًا لأنّ استخبارات الاحتلال عجزت عن الوصول إليه، أو تحديد موقعه طوال عام كامل.
فهذه الاستخبارات التي فشلت في مقابل الرجل في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، فشلت بعد ذلك في ملاحقته في جغرافيا صغيرة ومحصورة ومنبسطة ومنكشفة وتطبق عليها دبابات الاحتلال وطائراته وأجهزة رصده المعزّزة بالتقنيات كلّها التي يملكها الغرب وفي طليعته الولايات المتحدة الأميركية التي نشرت صحافتها مرّات كثيرة عن تكريسها جهودها الاستخباراتية والتكنولوجية لملاحقة يحيى السنوار.
لكن هل ثمّة مفاجأة في استشهاد رجل يقود معركة في جغرافيا صغيرة لا تزيد على أن تكون حارة إذا قيست إلى مساحات المدن الكبرى في العالم؟! أم أنّ استشهاده إنجاز له بالمعنى الأمني، وبالمعنى الرمزي، بعدما تمكّن من تضليل استخبارات الاحتلال والولايات المتحدة الأميركية عامًا كاملًا لينتهي به الأمر في موقع قتاليّ متقدّم دون أن يعلموا أنّهم يقاتلون يحيى السنوار؟!
سريعًا ما تذكّرت بعض وسائط الاحتلال الإعلامية عبدالقادر الحسيني، الزعيم الفلسطيني الذي استشهد في معركة القسطل في 8 أبريل/ نيسان 1948، دون أن يعلم قاتلوه أنّه الحسيني. تتخلّق بهذا رمزية جديدة للفلسطينيين، تتصل بتاريخهم الكفاحي منذ عبدالقادر الحسيني وحتى يحيى السنوار، وبهذا يسجّل السنوار نفسه الامتداد الطبيعي للمقاتلين الأوائل من شعبه، والردّ الطبيعي على النكبة الممتدة منذ 76 عامًا.
لقد كان استشهاد السنوار أمرًا متوقّعًا، أو هو المآل الراجح للرجل في حرب هذه طبائعها وسماتها، وفي مكان هذا هو حاله، وليس في ذلك ما يستدعي فخر الدولة المدجّجة بالنووي التي حشدت نفسها والعالم على حرب منطقة لا تزيد مساحتها على حارة، إلا أنّ المؤسسة الإسرائيلية حكومة وأمنًا سوف تضيف استشهاد السنوار إلى ملف إنجازاتها المقدّم للمجتمع الذي هزّ السنوار ثقته في قدرته على الاستمرار في فلسطين، وأذكى فيه القلق الوجودي.
وهو أمر لم يغب عن الخطاب الاحتفالي لبنيامين نتنياهو حينما عاد ووصف حربه على قطاع غزّة بأنها “حرب القيامة” أيّ حرب النهوض من جديد، وحرب الاستقلال الثاني، وحرب مع تنظيم صغير في جغرافيا متناهية الضيق؛ هذا وصفها، لا يمكن أن يتشافى من نتائجها الاحتلال كيانًا ومجتمعًا باستشهاد الزعيم الفلسطيني لتلك الحرب.
بالنسبة لـ “إسرائيل” المبتهجة، والتي تسابق ساستها لأخذ اللقطة الأولى، غالانت وزير الحرب، وهاليفي رئيس الأركان، ورونين بار رئيس الشاباك، ونتنياهو رئيس الحكومة، من المبكّر القول إنّ هذا الإنجاز من شأنه أن ينهي الحرب، حتى وإن حاول نتنياهو أن يوحي بأنّ ما تبقى من أهداف الحرب هو استعادة الأسرى، أو بكلمة أخرى كأنّ نتنياهو يقول: فكّكنا حماس وقتلنا قادتها، لتصير غزّة بلا حماس، فلم يبقَ لنا إلا استعادة الأسرى.
لكن سيجد نتنياهو أنّ استعادة الأسرى لن تكون إلا بالتفاوض مع حماس التي قال إنّه فكّكها وقتل قادتها.
ثمّة تحليل يذهب إلى أنّ استشهاد السنوار، قد يدفع نتنياهو للنزول عن الشجرة والسعي من جديد في صفقة تبادل أسرى، لكنّ هذه الصفقة سوف تتداخل مع ملفات أخرى كانسحاب قوات الاحتلال من غزة، لا سيّما أنّ الاحتلال سينظر إلى الموقف بوصفه موقف قوّة يتيح له فرض شروطه، ممّا يعني أنّ الأمر لن يكون سهلًا.
كذلك تتداخل الحرب على غزّة مع الحرب على لبنان، ومع التصعيد المتوقع مع إيران، وهو ما يعني أنّ اللحظة غامضة، وقابلة للانفتاح على أكثر من احتمال.
يبقى موقف حركة حماس التي يستشهد رئيسها في رفح بقطاع غزّة بعد أقلّ من ثلاثة شهور على اغتيال رئيسها السابق إسماعيل هنية في طهران، إذ المتوقع من الحركة أن تكون قد تجهزت لخطط وبدائل في حال غياب رئيسها، وأن تكون في هذه الحرب الطاحنة غير المسبوقة التي قدمت فيها كادرها الأساس وصفها الأوّل، قد تهيّأت للكيفية التي تتعامل فيها مع غياب رئيسها، دون أن يعني ذلك أنّ خسائرها هيّنة، وأنّ الأمر سهل، ليس فقط بغياب السنوار بثقله الرمزي والمعنوي والقيادي، ولكن بمجمل ما فقدته الحركة وقدمته في سياق حرب أتت على قطاع غزّة كله بالإبادة والدمار.
وهو ما يعني أنّ الحركة من اللحظة الأولى التي تكشفت فيها حرب الاحتلال عن طبيعتها التدميرية الشاملة كانت تعلم أنّ مسارات الحرب مختلفة عن أيّ حرب سابقة، وأن موقف الحركة مختلف عن أيّ موقف سابق في تاريخها.
لم يقضِ الاحتلال على حماس، ولن يقضي عليها، فاستشهاد قادتها سوف يعمّق من الحضور المعنوي والرمزي للحركة لدى جماهير الفلسطينيين والجماهير العربية، والحركة بدورها سوف تكون أمام التحديات الذاتية التي تتعلّق بتنظيمها وبنيتها مراجعةً وإعادة بناء.
لكنّ أسئلة الحرب الثقيلة وتداعياتها سوف تبقى قائمة بخصوص ما اقترفه الاحتلال من تدمير ممنهج في قطاع غزّة، وما أوقعه من إبادة على أهلها، وهو ما سعت حماس للاستعداد له بمحاولة إنجاز تفاهمات وطنية تقطع الطريق على ما يسميه الاحتلال والأميركان باليوم التالي، ليكون قرار اليوم التالي قرارًا فلسطينيًّا، الأمر الذي يعني أنّ الحركة ليست في طور التمسك بحكم غزّة، إلا أنّ الأمر برمّته مرهون بمسارات هذه الحرب وتداخلاتها الإقليمية، بما في ذلك أيّ صفقة قد تُطرح على الحركة، فالأمر مرهون بشروط هذه الصفقة وبمعطيات اللحظة التي تحدّد موقف الحركة بشأنها مرونة وتشددًا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.