كانت “إسرائيل” في مقدمة الأطراف المستفيدة ظرفيًا من سقوط نظام الأسد، مستغلة الفراغ الحاصل في دمشق لفرض أمر واقع باحتلال مناطق إضافية، وقصف أسلحة ومقدرات إستراتيجية؛ لخدمة عدة أهداف تجعلها العدو الأكبر المتربص بأي نظام في دمشق، ليس فقط من الناحية النظرية – الإستراتيجية، ولكن كذلك من زاوية عملية حاليًا.

استغلال الفرصة

منذ اتفاقية “فض الاشتباك” في 1974، بقيت جبهة الجولان هادئة بشكل شبه دائم بين النظام السوري ودولة الاحتلال. ومع انطلاق الثورة السورية في 2011، وضع النظام الأحداث في إطار “مؤامرة كونية” عليه، واتهم المعارضين/ الثوار بالتبعية للولايات المتحدة و”إسرائيل”، بينما رأت المعارضة أن بقاء النظام مصلحة جوهرية للاحتلال، وأن ذلك ما حافظ له على كرسيه طوال سنوات الثورة.

مع بدء عملية “ردع العدوان”، قال وزير خارجية الاحتلال جدعون ساعر: إن “إسرائيل” تنظر بسلبية لكل من النظام والمعارضة، وإن حليفها الطبيعي الوحيد في سوريا هم الأقليات، في إشارة للدروز في الجنوب، والأكراد في الشمال.

قبل ذلك، وخلال المواجهات البرية مع حزب الله في شمال لبنان، أزالت قوات الاحتلال السلك الشائك في الجولان، وتوغلت في الأراضي السورية، ومع فرار الأسد، أعلن نتنياهو “انهيار اتفاق فض الاشتباك”، لتتوغل قوات الاحتلال في المنطقة العازلة التي أنشئت كمنطقة منزوعة السلاح بين الجزء المحتل من هضبة الجولان، وباقي الأراضي السورية.

وخلال أيام قليلة نفذت المقاتلات “الإسرائيلية” مئات الغارات الجوية، معلنة عن تدمير غالبية الأسلحة والمرافق الإستراتيجية السورية من طائرات ودبابات وسفن ومصانع ومعامل دفاعية في “أكبر عملية جوية في تاريخ إسرائيل”.

بينما ذكر مصدر أمني وصول قوات الاحتلال إلى 25 كيلومترًا من العاصمة دمشق. وفي الـ 17 من الشهر الجاري، زار نتنياهو رفقة كل من وزير الدفاع كاتس، ورئيس الأركان هاليفي، ورئيس جهاز الشاباك بار، وقائد المنطقة الشمالية غوردين، مواقع جيش الاحتلال في قمة جبل الشيخ، حيث أكد كاتس على ضرورة “ترسيخ الوجود” في المنطقة؛ بهدف البقاء لفترة طويلة، مؤكدًا على أهمية السيطرة على المرتفعات.

بنتيجة التوغل والقصف المستمر، حقق الاحتلال عدة أهداف في آن معًا، حيث فرض أمرًا واقعًا جديدًا، بحيث يزيد من قدراته التجسسية والعسكرية المباشرة وغير المباشرة في سوريا (ولبنان بالتبعية)، ويقوّي أوراقه التفاوضية مع أي قيادة مستقبلية لسوريا، فضلًا عن تدميره مقدرات تسليحية مهمة ساهمت في إضعاف سوريا الدولة لمدة غير محددة مستقبلًا، وإخراجها من كونها تهديدًا له ولو نظريًا ونسبيًا، إضافة إلى ضغطه باتجاه سعي العهد الجديد في سوريا لشراء السلاح من أطراف غربية، آملًا في تأثير ذلك على توجهات الدولة مستقبلًا.

منطق الدولة

على مدى سنوات الثورة السورية، ولا سيما بعد تدخل إيران والمليشيات المرتبطة بها، وفي مقدمتها حزب الله إلى جانب النظام، انتشرت مقولة لدى المعارضة السورية بأن إيران هي العدو الأول مرحليًا للسوريين؛ بفعل المواجهة العسكرية، والتأثير الأيديولوجي، والتغيير الديمغرافي، بينما تبقى “إسرائيل” عدوًا إستراتيجيًا لكن “مؤجلًا”.

ورغم أن سقوط النظام أدى لخروج إيران من سوريا بشكل شبه كامل، ومع انكفاء حزب الله في لبنان، وتصريحات محايدة بخصوص الوضع الجديد في سوريا، ورغم حالة شبه الإجماع الإقليمي والدولي على “تقليم أظفار إيران” في المنطقة، فإن بعض التصريحات ما زالت تصر على استمرار الخطر الإيراني وأولويته بالنسبة لدمشق ونظامها المستقبلي.

لا تكتفي هذه النظرة بتجاهل الخطوات الخطيرة التي قام بها الاحتلال مؤخرًا والتي سبق الإشارة لها، ولكنها في الأساس تخلط بين منطق الثورة ومنطق الدولة. إذ من المتفهم أن تُعلن إيران عدوًا يُواجه في سنوات الثورة حين قاتلت المعارضة مع النظام، أما وقد سقط الأخير، وبدأ يتشكل نظام جديد، فينبغي للسياسة الخارجية أن تُبنى على مصالح البلاد الإستراتيجية وليس بالضرورة وبشكل كامل على استقطابات الثورة، ولا حتى بناء على من وقف مع الثورة/ المعارضة وضدها.

المخاطر

لا شك أن التحول الكبير الذي حصل في دمشق بسقوط النظام وسيطرة المعارضة – وعلى رأسها هيئة تحرير الشام – شكل معضلة وهاجسًا في الآن معًا لعدد من الأطراف الخارجية، ولكننا لا نبالغ حين نقول إن “إسرائيل” هي العدو الأكبر والأكثر تربصًا بسوريا الجديدة.

يتمثل ذلك أولًا بجوهر مشروع الحركة الصهيونية منذ بداياتها الأولى كأداة لخدمة مصالح الدول الاستعمارية في المنطقة، وكتهديد لكافة دولها وشعوبها، كما في مبادئ السياسة الخارجية لـ “إسرائيل” بعد إعلان الدولة، والتي استلهم الكثير منها من تنظيرات ملهم نتنياهو زئيف جابوتنسكي صاحب نظرية “الجدار الحديدي”، والذي دعا لإقامة “كومنولث عبري” تكون “إسرائيل” فيه القوة الإقليمية العظمى والمسيطرة، وتقود دويلاتٍ عربية ضعيفة ومقسمة على أسس إثنية ودينية وطائفية ومذهبية.

كما حدد أرييل شارون أمام الكنيست في 1982 “المجال الحيوي لإسرائيل” على أنه “المنطقة التي تضم مصالحنا الإستراتيجية، وتضم مناطق العالم العربي المتاخمة لإسرائيل كافة، إضافة لإيران وتركيا وباكستان وشمال أفريقيا وحتى زيمبابوي وجنوب أفريقيا”، وهي الرؤية التي وُسِّعت لاحقًا.

وإذا كان ذلك قبل عقود شملت تطورات كبيرة على صعيد علاقة “إسرائيل” بالمنطقة، فإن خطاب نتنياهو أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/ أيلول 2023 قسّم المنطقة إلى مناطق “نعمة” وأخرى “لعنة” تشمل سوريا بطبيعة الحال، فضلًا عن أنه يتحدث في الحرب الحالية عن سعيه لرسم خرائط المنطقة، وإعادة تشكيلها من جديد.

وإذا كان كل ما سبق نظريات وتصريحات، فإن الفعل أتى مصدّقًا له ومؤكدًا لصحته، بدءًا من استمرار احتلال الجولان، مرورًا بالتوغل الأخير إلى مشارف دمشق، وتدمير السلاح السوري، وصولًا للحديث عن ضرورة البقاء طويلًا في المنطقة العازلة؛ لتأمين التفوّق العسكري والأمني و”منع 7 أكتوبر/تشرين الأول جديدة”، وليس انتهاءً بالتصريحات التي تتحدث عن القيادة الجديدة، وتحديدًا أحمد الشرع، وهيئة تحرير الشام كإسلاميين متشددين، وكلاعب جديد غير معروف التوجهات والسياسات تجاه “إسرائيل” في المستقبل.

في المآلات، فإن الإجراءات “الإسرائيلية” الأخيرة إما أن تؤدي لاحتلال مستدام أو طويل الأمد بالحد الأدنى، أو تدفع نحو مسار الحديث السياسي والتفاوض من أجل الانسحاب (من موقف أقوى هذه المرة)، ومحاولة فرض تطبيع العلاقات ضمن حزمة التفاهمات المفترضة، أو تساهم في تقسيم سوريا من خلال دعم فكرة دويلات الأقليات، وبكل الأحوال إبقاء أي حكومة مستقبلية لسوريا تحت الضغط العسكري والأمني المباشر؛ بغية التأثير على سياساتها الإقليمية، وتحديدًا ما يتعلق بدولة الاحتلال نفسها.

يوضح ما سبق أن “إسرائيل” لن تترك سوريا وشأنها ولن تراهن على انشغالها بملفاتها الداخلية وأولوياتها الكثيرة، وأنها لن تقتنع بتصريحات الطمأنة بأن سوريا لا تقوى على مواجهات عسكرية، وأنها ستبقى تنظر لسوريا الدولة والشعب كتهديد إستراتيجي.

ويتطلب ذلك بالتالي الاهتمام بأولوية بناء عقيدة الدولة، الإستراتيجية والعسكرية والأمنية، التي هي أولى وآكد من أولويات الخدمات اليومية للمواطنين، على أهمية الأخيرة. فمن جهة، صحيح أن العهد الجديد ورث دولة متداعية وأن خبرته في إدارة الدول متواضعة، إلا أن مجرد وقف حالة الفساد السابقة والعمل بجد في المرحلة المقبلة سيكونان كفيلين بتحسن ملحوظ في الأوضاع الاقتصادية والحياتية في وقت قياسي.

ومن جهة ثانية، فالدولة تبنى وفق رؤية إستراتيجية – عسكرية – أمنية، تبدأ بتعريف الذات والدور والمكانة، وتشمل العلاقات الخارجية ومنظومات التحالف والشراكة والتعاون والصداقة والخصومة والعداء، بما في ذلك مصادر التسليح والاتفاقات الأمنية والعسكرية، وليس على السياسات الاقتصادية التي تأتي تابعة لها.

ومن البديهي أن ذلك لا يعني المواجهة ولا افتعال الحروب بالضرورة، وإنما رسم سياسات العهد الجديد بما يبقي سوريا كما يريد شعبها، وفي إطار دورها ومكانتها، ووفق مصالحها الحيوية، وليس معادلات المرحلة السابقة بالضرورة، فضلًا عن أنه يبقيها قوية وقادرة على صد العدوان إن حصل، فكيف به وقد بدأ ويبدو أنه سيستمر ويتعمق.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version