استفحلت في الآونة الأخيرة ظاهرة العصابات على مستوى الدول، إذ أصبحت وحداتٍ أشبه بالعصابات تتحكم في الاقتصاد، وتتمتع بنفوذ في الشأن العام، وتؤثر على مستوى العلاقات العالمية (التي يصعب تسميتها بالعلاقات الدولية، لأنها تتجاوز الدول وتتناقض مع قواعد القانون الدولي ومبدأ السيادة).

أضحت العصابات ضالعة في أنشطة اقتصادية، أو ما يمكن تسميته “النزوع العصاباتي”، وهو ترجمة لمصطلح gangsterism، حيث يتداخل فيها ما هو جائز، مثل الاستثمار في العقار، ولكن بأساليب غير واضحة وغير شفافة، مع نزوع للتحايل من طبيعة قانونية وغير قانونية، وما هو مُجرَّم كالمخدرات أو الاتجار بالبشر.

تغلغلت العصابات في البنى السياسية (الأحزاب) والمالية (بما يشمل تواطؤًا بنكيًا)، ونفذت إلى بنية الدولة من أمن وقضاء، وتُذكّر إلى حد ما بالمافيا، ولكنها تتجاوزها، إذ لها وجه ظاهر لم يكن للمافيا. تستمد قوتها من وسائلها الضخمة، وشبكاتها العريضة، وطنيًا ودوليًا، إضافة إلى توظيفها للتقنيات الحديثة، منها السيبرانية والذكاء الاصطناعي، وكذلك الطبيعة المرنة لأساليبها وتطورها وفق كل سياق. تستظل بشبكات دولية مستترة في معظمها، وتوظف ظاهريًا أنشطة لا تثير الشبهات، وتنشط في بعض الأعمال الاجتماعية ذرًا للرماد في العيون.

الأدهى أن ظاهرة العصابات لا تقع غالبًا تحت طائلة القانون، إذ تستعمل هذه العصابات واجهات مشروعة وتستخدم مؤسسات، مما يتيح لها الالتفاف حول القوانين. لسنا بصدد الجريمة المنظمة أو الدولية، بل نتحدث عن وضع غامض بين ما هو جائز وما هو محرّم، بين المؤسسي وغير المؤسسي، بين النشاط الاقتصادي وتبييض الأموال، وبين الأمن والجنوح الأمني.

لا يتم اكتشاف الجوانب المخالفة للقانون في أنشطة العصابات إلا بعد فوات الأوان، ما يجعل الأدوات القانونية متخلفة عن مجابهة هذه الأوضاع المنافية للقانون، وعن ضرورة تحقيق الشفافية والوضوح في المعاملات الاقتصادية والمالية. تهدد العصابات المؤسسات، إذ تنخرها من الداخل من خلال التغلغل أو الرشوة، كما تهدد استقرار المجتمعات باستخدام العنف، وتؤثر على صحتها، كما هو الحال مع العصابات التي تنشط في تجارة المخدّرات.

تتجاوز ظاهرة العصابات الجريمةَ المنظمة، رغم صعوبة الفصل بينهما. يكفي أن نشير إلى أن عدد ضحايا الجرائم العابرة للقارات في عام 2017 قارب 90 ألف شخص، وهو رقم يتجاوز ضحايا أي بؤرة توتر في العالم قبل الحرب الروسية الأوكرانية. هذا يعني أن الجريمة الدولية تظل أكبر تهديد للأمن العالمي، أكبر حتى من الحروب، وتأتي العصابات ضمن هذا التهديد، حيث تهدد اقتصاديات الدول، وتماسك المجتمعات، وأمنها الداخلي.

يشكل “النزوع العصاباتي”، إن صح هذا التعبير ترجمةً لمصطلح gangsterism، حالة خاصة قائمة بذاتها، إذ يقع بين القانون واللاقانون، وبين المؤسسي واللامؤسسي. هذه الظاهرة آيلة إلى الانتشار، ولم يحد منها لا جائحة كوفيد، ولا الحرب الروسية الأوكرانية، ولا حتى التضخم. لا يمكن التصدي لها إلا بتعاون دولي، وتحديث الأدوات القانونية، وتعزيز التعاون الأمني.

وهي لا تقلّ خطرًا عن الشبكات الإرهابية، بل تتداخل معها أحيانًا، وتستغل الأوضاع الداخلية الهشة (كما تفعل الجماعات الإرهابية الراديكالية)، بالإضافة إلى الحروب، والحاجة للأسلحة، والالتفاف على العقوبات المفروضة على بعض الدول، واستخدام الذكاء الاصطناعي، والوسائل السيبرانية المتطورة.

تقوم العصابات على المستوى الداخلي بالتغلغل في النسيج الاقتصادي، مستخدمة مظاهر قانونية مباحة لتبييض أموال غير مشروعة، كما تنفذ إلى المجالين: السياسي والإعلامي، مستغلة القوانين لصالحها، في تحالف مع الأوليغارشيات، حيث تسعى لتحقيق مصالحها الخاصة، وليس مصالح دولها.

ولا تتردد العصابات في اللجوء إلى العنف، بما في ذلك القتل، الاختطاف، والتعذيب، عندما تتعارض مصالحها مع مصالح الدول أو الأطراف المنافسة. هدفها هو السيطرة على الثروات والتهرب من الرقابة، سواء الضريبية (التهرب الضريبي) أو الأمنية، من خلال التغلغل في الأجهزة الأمنية أو شراء عناصر منها، مثل: الجمارك، الأمن، القضاء، وحتى الصحافة. كما تسعى العصابات للسيطرة على الموانئ (كما في حالة غينيا بيساو)، أو تغيير طرق التهريب حسب مستوى الرقابة، سواء كانت بحرية، جوية، برية، أو حتى عبر الصحراء.

تُعتبر العصابات أحد الأوجه الخلفية للعولمة، إذ إنها استفادت من دفق الخصخصة، وتنقل الأموال والبضائع، وتخفيف المراقبة، مما أتاح لها إمكانية تكوين شبكات معقدة. تستمد العصابات قوتها من تفوق عناصرها على الترسانة القانونية القائمة، سواء على الصعيد الوطني أو الدولي، ومن قدرتها على المبادرة والاستباق، متجاوزة بذلك قدرة الدول على الاستباق أو المراقبة.

تستظل العصابات بشبكات دولية وتستخدم أدوات متطورة للعمل والرصد، لا تقل عن تلك المستخدمة من قبل الأجهزة المالية، بما في ذلك توظيف الذكاء الاصطناعي، مما يزيد من خطورتها.

تنشط العصابات في مجالات تنقل الأشخاص (الهجرة السرية) والبضائع، بما في ذلك تهريب الأسلحة، العملات المزورة، الأدوية، المخدرات، واللوحات الفنية، مع التغلغل في شبكات نقل الحاويات. كما تعمل في بعض المناجم ذات المردودية المرتفعة، مثل: مناجم الذهب والأحجار الكريمة، بالإضافة إلى قطاع العقارات، من خلال الالتفاف على القوانين، والحصول على التراخيص، والمضاربة.

توظف العصابات وسائل متطورة للتواصل، بما في ذلك الوسائل السيبرانية. وعلى خلاف التيارات الراديكالية، لا تمتلك العصابات أجندة سياسية أو مرجعية أيديولوجية، بل تسعى فقط لبسط السيطرة على الثروات والتهرب من المراقبة، بما في ذلك التهرب الضريبي.

تظل العصابات التي تنشط في الاتجار بالمخدرات الأهم من حيث قدراتها المالية، حيث يتراوح حجم المبادلات الناتجة عن تجارة المخدرات بين 250 و320 مليار دولار، مما يجعلها قوة اقتصادية ضاربة.

تتوزع هذه العصابات بين تنظيمات تنشط في شراء المنتج من شبكات المنتجين المحليين (حيث يظل المزارع الحلقة الأضعف، رغم أن إنتاج المخدرات الطبيعية هو أهم مصدر للربح في كل الزراعات)، بالإضافة إلى مراحل التعليب، التصنيع، التصدير، والتوزيع.

كما توجد كارتيلات تعمل عبر جميع الحلقات، مع وجود حواجز صارمة بين كل مرحلة: (الإنتاج، التسويق، التوزيع)، ولا تتردد هذه العصابات في استخدام العنف، بما في ذلك الأسلحة، القتل، الاختطاف، التعذيب في الحالات القصوى، وطلب الفدية. كما تلجأ إلى محترفي العنف، المعروفين في أميركا اللاتينية بـ “سِكاريُوس” (sicarios).

تتوزع المخدرات بين الأنواع الطبيعية، مثل: القنب الهندي (المغرب، الهند) ومشتقاته كالماريجوانا والحشيش، والكوكايين (أميركا اللاتينية)، والهيروين (بورما، أفغانستان)، والمخدرات المركبة أو المصنعة. لا حاجة للتذكير بالمضاعفات الاجتماعية للمخدرات، من انتشار العنف والجريمة، وانحراف الشباب والدعارة، فضلًا عن الآثار السلبية على صحة المتعاطين سواء في المراحل المبكرة أو لدى المدمنين بشكل كامل.

من الأخطار الجديدة لشبكة المخدرات التغلغل في البنية السياسية والإدارية للدولة. تصبح الدولة مخترَقة أو معطوبة السيادة، وتعمل العصابات على تعطيل عمل المؤسسات الأمنية والقضائية.

حالة تاجر المخدرات المعروف باسم “إسكوبار الصحراء” في المغرب، وهو تاجر مخدرات من مالي، تُعد مثالًا مدرسيًا على هذا الخطر، حيث تمكن من التسلل إلى الجسم الفني، الرياضي، السياسي، وحتى إلى عناصر من القضاء في المغرب (القضية ما تزال منظورة أمام القضاء للنظر فيها بتفصيل).

تعطل ظاهرة العصابات قدرة الدولة على الاستباق والمراقبة، باستثناء الحالات التي يتم فيها التنسيق الدولي. (توقيف “إسكوبار الصحراء” لم يكن ممكنًا دون التنسيق الأمني الدولي).

استفحال دور العصابات يستدعي التصدي الحازم لها. يتوجب أولًا تجريم الأفعال التي تحيط بها شبهات، أو التحري الدقيق في أدوات المراقبة لمنح التراخيص على مستوى الدول، حيث إن العديد من الدول تتغاضى عن أنشطة العصابات، بل إن بعضها تتحالف معها، فيما تعتبر أخرى أن أنشطتها تُدر دخلًا يسهم في الاقتصاد الوطني.

ثانيًا، التنسيق بين الدول، إذ بدون هذا التنسيق ستظل العصابات كسمكة تسبح في الماء. وثالثًا، تجريم العصابات على مستوى الأمم المتحدة، بحيث لا يقتصر الأمر على إدانة الرشوة أو المطالبة بالشفافية.

وكما تمكن التعاون الدولي من الحد من انتشار الإرهاب، فإن هناك حاجة ماسّة لتعاون دولي يحد من فاعلية العصابات التي تهدّد أمن الدول واستقرارها وتثلم سيادتها.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version