في أسرع أزمة دبلوماسيّة دامت ساعات معدودات مساء الأحد الماضي، تداولت وسائل الإعلام العالمية بشكل واسع تطورات الحرب الكلامية على شبكات التواصل الاجتماعي، بين رئيس كولومبيا غوستافو بيترو ونظيره الأميركي ترامب، على خلفية ظروف عمليات الترحيل القسري للمهاجرين غير النظاميين.
وقد مثّلت مواقف الرئيس الكولومبي بيترو وردوده سابقة في التعامل مع الرئيس ترامب، اعتبرها البعض مجرّد تصريحات شعبوية وبطولات وهميّة، انتهت بالانصياع لأوامر ساكن البيت الأبيض، واعتبرها قليلون، مواقف جريئة وغاية في الشجاعة، قد تكلّف كولومبيا وتيارها اليساري خسارة تاريخية!
تأتي المعركة بين الرئيس الكولومبي ونظيره الأميركي بعد سلسلة من التصريحات المستفزة والمُهينة للرئيس ترامب لأغلب قادة منطقة القارة الأميركية، وبعد أسبوع واحد من تولّي هذا الأخير منصبه كرئيس للولايات المتحدة، في فترة ثانية، بدا منذ انطلاقها أكثر تجبّرًا تُجاه بلدان كثيرة، من بينها منطقة أميركا اللاتينية، صاحبة أكبر عدد من المهاجرين غير النظاميين في الولايات المتحدة.
لم يكن انطلاق حملات الترحيل القسري للمهاجرين غير النظاميين من الولايات المتحدة نحو بلدان أميركا اللاتينية هو السبب المباشر في انفجار المعركة بين الرئيس بيترو والرئيس ترامب، كما تُروّج لذلك أغلب وسائل الإعلام العالمية، نقلًا عن الرواية الأميركية.
فقد كانت التفاصيل المُهينة التي تمّ بها الترحيل هي السبب الحقيقي للمعركة، حيث صوّرت التلفزيونات البرازيلية صفوف المُرحّلين مقيدين بأصفاد حديدية في أرجلهم، كما لو كانوا مجرمين خطيرين، وهم يغادرون الطائرات العسكرية الأميركية التي حطّت بهم في مطار برازيلي، وكشفت التصريحات بعد ذلك أن ظروف الرحلة الطويلة كانت مُضنية، تمّ فيها احتجاز الركاب ثلاث ساعات داخل الطائرتين في بنما، ولم تُفعّل خلالها أجهزة التهوية، رغم وجود أطفال على متنها.
وفُهمت هذه المعاملة على أنها رسالة مقصودة من البيت الأبيض لسكان نصف القارة الجنوبي ورؤسائهم. ومع انطلاق طائرتين عسكريتين أميركيتين نحو العاصمة الكولومبية، في مشهد يُنذر بتكرار السيناريو البرازيلي، أمر الرئيس بيترو بمنعهما من النزول، ومغادرتهما التراب والفضاء الكولومبي على الفور، وكانت تلك شرارة الحرب مع الرئيس ترامب الذي كان يقضي أول عطلة نهاية أسبوع له كرئيس في قصره بميامي.
وكما كان مُتوقعًا، هدّد الرئيس الأميركي مباشرة نظيره الكولومبي بجملة من العقوبات على بلده، عبر رفع الرسوم الجمركية على كل الواردات الكولومبية، وحرمانه شخصيًا وحرمان أعضاء حكومته وكل المتعاطفين معهم، من التأشيرة الأميركية.
في المقابل، جاءت ردود الرئيس الكولومبي على نفس القدر من القوة والحسم، في معركة الند للند مع أكثر رؤساء العالم غطرسة. ولم يكتفِ الرئيس بيترو باتخاذ نفس قرارات خصمه في الاتجاه المعاكس، وإنما أمطره بتغريدات مُطوّلة، وُصفت بـ”مُحاضرات” في تعليم مبادئ السيادة والكرامة الإنسانية، مؤكدًا على ضرورة احترام الكولومبيين ورفض إهانتهم بالشكل الذي أهين فيه أشقاؤهم البرازيليون.
وعلى خلفية تداعيات المعركة الكلامية بين الرئيسين، سارعت إدارة كلا البلدين للتدخل وتدارك الموقف والتراجع عن رفع الرسوم الجمركية من الجانبين، في انتظار مراجعة باقي النقاط، مع استمرار رحلات ترحيل المهاجرين غير النظاميين.
وفي الوقت الذي تدافعت فيه وسائل إعلام اليمين الأميركي، لإغراق التغطية الإعلامية للحدث بصورة انصياع الرئيس الكولومبي لأوامر ترامب وتصوير أن ما قام به هو اندفاع غير مدروس من يساري حالم، انطلقت وسائل الإعلام اليميني الكولومبي في ماراثون نقد لاذع لأداء الرئيس بيترو واستهزاء بـ”تطاوله” على “سيّد القارة”، الرئيس الأميركي.
وقد وصلت درجة الغضب على الرجل، بصحفية في محطة “كاراكول” اليمينية ذائعة الصيت، أن ناشدت الجيش الكولومبي للتحرك ضد الرئيس ووضع حدّ لولايته. في الوقت الذي اتهمه البعض الآخر من الغاضبين بلعب دور البطولة في معارك خاطئة، على غرار مواقفه من الحرب على غزة.
وهي في الحقيقة مواقف لقيت رواجًا، بفضل العناوين الرنانة المُنذرة بالأضرار الفادحة التي ستلحق بالاقتصاد الكولومبي وغلق الأبواب الأميركية أمام الكولومبيين، في إطار العقاب الجماعي الذي لوّح به الرئيس الأميركي.
غير أن كل هذه الانتقادات لم تأبه بالرسالة الأساسية التي من أجلها انتفض الرئيس الكولومبي ودخل بسببها حربًا مجهولة النتائج مع خصم شرس، ألا وهي “احترام المواطن، ولو كان مهاجرًا غير نظامي”، في الوقت الذي أكد فيه المتحدث الرسمي للأمين العام للأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك، بعد مرور أقل من يوم على الحادثة، على “ضرورة احترام كرامة الشخص وحقوقه” في عمليات الترحيل، في إشارة لا تخطئها العين إلى الخروقات الأخيرة التي تقوم بها الولايات المتحدة .
ولعلّ المؤلم في الأمر، أن جانبًا كبيرًا من الطبقات الفقيرة الكولومبية تردد رواية الإعلام اليميني دون تدبّر، وتحتل مساحة واسعة في النقاش على شبكات التواصل الاجتماعي، متبنية الهجوم على الرئيس بيترو ومتهمة إياه بالاندفاع في مواجهة ترامب، وكأنها تحثه على عدم نُصرة المستضعفين، الذين يشبهونهم.
ولعلّ الأمر الأشد إيلامًا ربما، هو أن الرئيس بيترو واعٍ تمام الوعي بأن الولايات المتحدة وإسرائيل، هما دولتان فوق النقد في ثقافة المجتمع الكولومبي، كما صرحت بذلك الخبيرة الكولومبية في العلاقات الدولية ساندرا بوردا، لمحطة البي بي سي، وبالتالي فقد ارتكب “خطيئتين”، من المؤكد أنه سيدفع ثمنهما غاليًا!
قد تعتبر الأغلبية أن الخطوة التي أقدم عليها الرئيس بيترو، في مواجهة رئيس بحجم ترامب، في كل الأحوال تندرج ضمن باب الاندفاع غير المسؤول، وبالتالي فإنه منهزم عاجلًا أم آجلًا. لكن ماذا كسب الرئيس البرازيلي سيلفا دا لولا بدبلوماسيته وتعقّله إزاء الإهانة التي ارتكبتها إدارة ترامب تُجاه المهاجرين البرازيليين؟
وماذا جنت رئيسة المكسيك كلوديا شينباوم من “الأعصاب الباردة” التي رفعتها كعنوان مرحلة في معركتها اليومية مع تهديدات ترامب؟
حتى رئيسة هندوراس، شيومارا كاسترو، لم تفلح تهديداتها لترامب بطرد القاعدة العسكرية الأميركية من تراب بلدها، في كبح رسائل التقزيم لها ولحكومتها!
على الأرجح، لم يقصد أن ينهج الرئيس بيترو أسلوب الشعبوية في مواجهة ملك الشعبوية ترامب، لكن يبدو أن التعقل والدبلوماسية لا يجديان معه نفعًا، ووحدها الشعبوية تصلح أسلوب تعامل معه!
فمن كان يتصور أن يفرض ترامب رسومًا جمركية تصل 50% على واردات السلع الكولومبية، ثم يتراجع أمام تهديد خصمه المتواضع بتفعيل مبدأ المعاملة بالمثل؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.