توجهت أنظار إسرائيل كلها نحو منصة “إكس”، ليس لمتابعة منشورات هاغاري، أو تعقيب الهيئة العسكرية والجيش على الضربة العسكرية لإيران، ولا حتى لرؤية تعقيب نتنياهو، الذي ما زال معتكفًا في صومعة صمته، بل لمتابعة ما سيكتبه بن غفير، ليروا ما إذا كان سيعقب ساخرًا – كالمعتاد – أم سيرمي قنبلة!

على مدار خمسة وعشرين يومًا، مارست إسرائيل حقها في الرد وفق الزمان والمكان، وحاولت خلال ذلك أن تسوق لنفسها الحق في هذا التصرف. كما أدارت حملات دبلوماسية للترويج لحجم الضربة التي تريد توجيهها للجمهورية الإيرانية، بينما كان هناك على الجانب الآخر محفل دبلوماسي إيراني في الشرق الأوسط، يثبت قوة الردع الإيرانية في المنطقة.

ومن هنا، يمكن القول إنه على مدار خمسة وعشرين يومًا، كانت هناك حالة من الرد المتبادل بين إسرائيل وإيران داخل الإقليم، وكأن الإقليم ملعب للطرفين، يتردد صدى هذا الملعب إلى كل من الولايات المتحدة، وروسيا، والصين، باعتبارهم حلفاء لكلا الجانبين.

لقد صار من الواضح جدًا أن الجبهة الإيرانية هي الأكثر عمقًا، ولديها البعد الجيوسياسي الأكبر من بين الجبهات السبع التي تواجهها إسرائيل. فهي تختلفُ عن الجبهة اللبنانية التي تعتبر ذات بُعد إستراتيجي؛ لإعادة الهيبة الإسرائيلية ككل، والجبهة الغزية التي تعتبر جبهة انتقامية، وذات هيمنة شعبية وميدانية، والتي يُطعم بها نتنياهو أفواه ائتلافه، ويكبح من خلالها سطوة ذلك الائتلاف.

إذن، سوّقت إسرائيل أن الهجمة على إيران ستكون بمثابة ردّ رادع، وستكون الرد الأكبر والأكثر فاعلية؛ نتيجة لتدريبات وتجهيزات تُجرى منذ سنوات للطيارين، وفق ما صرّح غالانت. كما أن هذا الرد مؤيد من قبل الولايات المتحدة، التي جلبت مدمراتٍ ومنظومة “ثاد” الدفاعية، رغم وجود “حيتس واحد وثلاثة” لدى إسرائيل، وسربًا من سلاح الجو؛ ليكون جاهزًا للرد على إيران، وكل هذا في ظل تسويق ضربة كبرى.

في غضون ذلك، كثر الحديث عن أهداف الضربة الإسرائيلية في إيران. إسرائيل، التي خسرت أكثر حلفائها على المستوى العالمي، ولم يبقَ لديها سوى الولايات المتحدة وألمانيا في المشهد الأوروبي، بدا واضحًا أن الضربة الإيرانية – في الأول من أكتوبر/ تشرين الأول، مثل الضربة السابقة في أبريل/ نيسان والتي قوبلت بصد جوي كبير – لم تكن متعلقة بإسرائيل وحدها.

ومن هذا المنطلق، انحصرت الأهداف الموجودة أمام إسرائيل، بغض النظر عن مبتغاها ونواياها. كما أن خيار الضربة النووية يضع الجمهورية أمام طريق مسدود، بحيث إنها لم يعد لديها ما تخسره، وبالتالي فإن ضربة كهذه ستحتم عليها خوض حرب وليس مجرد ردود متبادلة، وبالطبع إسرائيل لا تريد أن تخوض حربًا شاملة، على الأقل وحدها.

وقد أوضح نتنياهو ذلك في الواحد والعشرين من أكتوبر/ تشرين الأول، حيث استشهد بمقولة والده: “بأنّ صعق إيران سيحدث عندما نكون نحن – أيْ الإسرائيليون – وهم – أيْ الإيرانيون – مستعدين لذلك!”، مما يبين أن آلية نتنياهو تقتصر على الزحف نحو إيران، وليس الركض باتجاهها، إذ يرى إيران كحالة يستفيد منها لتكون ذريعة لتنفيذ مخططاته في الشرق الأوسط، كما أن الولايات المتحدة، بطبيعة الحال، غير معنية بخوض حرب واسعة؛ لأن الإدارة الأميركية الحالية ضعيفة، ومقبلة على انتخابات، وليست مهيأة للدخول في ساحة حرب، قد تكون لها تداعيات على نتائج الانتخابات.

أما المسار المفقود، وبعيدًا عن الضربة الاقتصادية، فيجب أن نستدرك أن تداعياتها سيكون لها تأثيران كبيران. التأثير الأول قد يضر باستثمارات أوروبية، كفرنسا مثلًا، التي استشاطت غضبًا ورفعت رأسها في وجه نتنياهو، وقد شهدنا المناكفات بين الطرفين.

أما التأثير الثاني، فقد يخلف ضررًا غير مباشر على الاقتصاد الإسرائيلي، حيث إن أي ضربة لمواقع النفط في إيران ستؤثر على سعر البنزين داخل إسرائيل، وهذا سينسف جهد عام كامل لنتنياهو الذي كان يحاول ألا يثير غضب المواطن الإسرائيلي، وألا يمس جيبَه، متجنبًا الأزمات الاقتصادية حتى لا يتأثر المواطنون بتداعيات الحرب، كما في الحروب السابقة.

لكن الاقتصاد سينفجر في النهاية، مهما حاول نتنياهو، ولكنه يحاول تأخير ذلك قدر الإمكان، مما يتركه أمام ثلاثة خيارات:

الخيار الأول: هو المزيد من الاغتيال، ولن يستعمله الآن، لأنه في النهاية لن يحقق الأهداف الإسرائيلية. الخيار الثاني: ضرب منشآت مدنية وبنية تحتية، الأمر الذي سيبقي إسرائيل أمام تهديد كبير، فهي تخشى أن ترد إيران بالمثل. ويبقى الخيار الثالث: وهو الضربة العسكرية، الذي يتماشى مع مفهوم “هيبة الردع” التي يتغنى بها نتنياهو؛ لاستقطاب دعم الشارع الإسرائيلي، مما يظهر لهم أنه سيرد على كل من يحاول المساس بأمنهم واستقرارهم، ويحافظ على قواعد الاشتباك مع إيران كما هي مع حزب الله، لكن بزخم أكبر.

بناءً على ما سبق، تحتاج إسرائيل لتحقيق هدفين:

– الأول هو استعادة هيبة الردع، وهو ما دفعها لشن حرب شرسة على القطاع، والتي تحظى بإجماع إسرائيلي.

– والثاني هو الانتشاء الانتقامي، حيث يحاول نتنياهو من خلاله تحقيق مفهوم “الحرب الوجودية”، وتجييش الشارع الإسرائيلي ضد كل من يهدد وجودهم وكيانهم، ويكمم أفواههم عن سؤاله: “على ماذا نقاتل؟!”، وبالتالي، يحتاج نتنياهو لإحدى الصورتين لترجمة نصره المطلق؛ إما إطفاء إيران، أو إشعال إيران، ودون ذلك لن يحقق نصره ذاك.

 

بعد ليلة الردّ، وبعيدًا عن تغريدة بن غفير، سيبارك ائتلاف نتنياهو العملية، ويصفها بالجريئة والمعقدة والناجحة، إضافة إلى تسويقها وتبيان الزخم الجوي والجهد الاستخباراتي، وهذا هو المشهد الاحتفالي لإسرائيل كما يريده نتنياهو تمامًا.

ولكن على الجانب الآخر، هناك أصوات المعارضة التي لم تنتشِ بحس انتقامي، بل ترى أن الضربة الإيرانية التي استباحت الأجواء الإسرائيلية لم تلقَ الرد المناسب والملائم مع حجم الجرأة الإيرانية في الأول من أكتوبر/ تشرين الأول، مما يؤكد أن نتنياهو ينتصر فقط في الحروب التي لا يخوضها.

إن المشهد بعد الضربة الإسرائيلية ينقسم الآن بين التعتيم والتضخيم. ويبدو أن إيران تحاول – من خلال تحفظها حتى هذه اللحظة – أن تخفف من وطأة هذه الضربة، بالرغم من تأكيدها أنها سترد، وبالتأكيد سيستغرق ذلك أسابيع لتحديد تداعيات الموقف، خاصة مع اقتراب الانتخابات الأميركية، حيث إن لإيران حساباتها ومصالحها المتعلقة بنتائج هذه الانتخابات، وتفضّل الديمقراطيين الذين يخوضون معها محادثات، وإن كانت غير مباشرة، في حين أن الجمهوريين يدعون إلى حصارها وفرض عقوبات عليها.

كل هذا المشهد بتداعياته، يؤكد على الكفالة الأميركية غير المشروطة، حيث أسرعت الولايات المتحدة لتعلن علمها بهذه الضربة وتأييدها لحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها. ومع ذلك، فإن الردود المتبادلة بين إيران وإسرائيل لا تزال تُناقش فقط على الطاولة الدبلوماسية حتى هذه اللحظة.

كما يجب الإشارة إلى زيارة بلينكن لإسرائيل، حيث أكد أنه في حال انصاع نتنياهو، ستكون هناك مكافآت، من ضمنها عملية تطبيع واسعة في الشرق الأوسط.

وعليه، فإن الزيارات المتكررة من الولايات المتحدة، والدعم اللامحدود لإسرائيل – سواء ماديًا أو عسكريًا أو سياسيًا – يؤكدان أنّ أمن إسرائيل لا يمكن أن يصمد، بل حتى أن يوجد، دون الولايات المتحدة الأميركية.

لكن لا بد من أن يكون لهذا الدعم ثمن مقابل، ويتطلب انصياعًا إسرائيليًا للإدارة الأميركية. ومع ذلك، نلاحظ أن إسرائيل تمارس حرية التصرف بين البحر والنهر، ولكن فيما دون ذلك أثبت التاريخ منذ عام 1956، أي ما قبل “الزواج” الإسرائيلي الأميركي الرسمي، ومرورًا بعام 1976، وسنوات الثمانينيات، وصولًا إلى الضربة العراقية لتل أبيب، أن هناك انصياعًا إسرائيليًا كاملًا للرغبات الأميركية، حتى وإن حاول نتنياهو استغلال الإدارة الأميركية بابتزازها أمام حلفائها، فهو يدرك أن الولايات المتحدة تريد استعادة هيبتها بعد كل ما حدث في الشرق الأوسط في عهد أوباما، وما يحدث في أوكرانيا في عهد بايدن، وبالتالي يستغل ضعف هذه الإدارة.

بالنسبة للولايات المتحدة، فلها رغباتها أيضًا داخل الإقليم، وهي بحاجة لتقليص نفوذ إيران وحماس وحزب الله، بلا شك. ولكنها، في الوقت ذاته، لا تعتبر بن غفير وسموتريتش أقل خطراً منهما، مما يضع نتنياهو في موقف حرج؛ فهو يعلم أن الدعم الأميركي لإسرائيل ليس مطلقًا، وأنه مشروط بتوجهات وتوازنات سياسية معينة.

ولهذا قد يستغلّ فترة فراغ البيت الأبيض التي ستدوم لعدة أشهر في حال انشغال الإدارة الجديدة بترتيب أوضاعها، ليقوم بتعقيد المشهد ميدانيًا في الإقليم، مما قد يمنع أي ضغوط من الإدارة الأميركية الجديدة.

وهكذا، قد يسعى نتنياهو لاستغلال هذا الفراغ بزيادة التحركات العسكرية أو الدبلوماسية؛ ليضمن أنه في أي محادثات مستقبلية سيكون في وضع تفاوضي أقوى، وأن الإدارة الأميركية لن تستطيع فرض أي شروط قاسية عليه بسهولة.

هذا الأسلوب قد يكون جزءًا من إستراتيجية طويلة الأمد للضغط على إيران، ليس فقط لإضعافها عسكريًا، ولكن أيضًا لإجبارها على تقديم تنازلات في ملفات أخرى، مثل: الملف النووي، وبرنامج الصواريخ الباليستية، والحد من نفوذها الإقليمي.

لكن السؤال الأكبر يبقى: هل ستتجه إسرائيل نحو تصعيد شامل ضد إيران؟ وهل ستتخذ الولايات المتحدة موقفًا حازمًا يدعم هذه التحركات أم ستبقي دعمها ضمن حدود معينة، مع تجنب أي مواجهة كبرى قد تؤثر على مصالحها؟

تبقى كل الخيارات مطروحة على الطاولة، لكن المؤكد هو أن العلاقات بين إسرائيل وإيران لن تهدأ بسهولة في ظل التحركات العسكرية والسياسية المكثفة من كلا الجانبين، واستمرار النفوذ الأميركي كعامل مؤثر ومحوري في هذه المعادلة المعقدة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version