بعد ثلاثة أشهر من بدء العدوان الإسرائيلي البربري على غزة- ردًا على عملية “طوفان الأقصى”، وهو العدوان الذي رفض حقوقيون كثيرون اعتباره يدخل في باب الدفاع المشروع عن النفس؛ باعتبار إسرائيل كيانًا أجنبيًا محتلًا بدايةً- كان من المنطقي في أعقاب ذلك أن تستنفر بعض القوى العربية للرد عليه.

من بين تلك القوى التي تحركت للرد كانت جماعة أنصار الله الحوثية، التي تهيمن على الأوضاع في اليمن منذ 2015، حيث استهدفت المصالح الإسرائيلية في منطقة مضيق باب المندب، وخليج عدن وبحر العرب، ومنعت السفن الإسرائيليّة أو المتجهة إلى إسرائيل من المرور عبر البحر الأحمر إلى موانئ فلسطين المحتلة في “أم الرشراش” (إيلات)، على خليج العقبة، أو “أسدود” و”حيفا” على سواحل البحر المتوسط. هذا، بالإضافة إلى توجيه صواريخها ومسيّراتها لضرب الكيان الصهيوني، وأعلنت أنها ستواصل ذلك حتى ترفع إسرائيل الحصار عن قطاع غزة وتقوم بإدخال المساعدات الإنسانية إليه.

زاد القلق المصري عندما بدأت أجهزة الدعاية الأميركية -وهي الدولة التي تمثل الداعم الأكبر للكيان الصهيوني- بترويج مخاوف من أن جماعة الحوثي المدعومة من إيران تخطط لإغلاق البحر الأحمر كليًا

ولكن، بما أن في كل حرب ضحايا للنيران الصديقة، فقد تخوّف كثيرون من أن تكون قناة السويس إحدى ضحايا هذه الخطوة، وهي التي تمثل لمصر مصدرًا رئيسيًا للدخل، وتمثل للعالم الشريانَ الرئيسي والأمثل للربط بين الشرق والغرب، في حركة التجارة العالمية، وهو يستحوذ بالفعل على نحو 12٪ من التجارة الدولية، حيث يوفر للسفن معبرًا أكثر أمانًا، ويختصر مدة تتراوح بين 17 إلى 22 يومًا من زمن الرحلة، إذا قرّرت السفن العبورَ عبر رأس الرجاء الصالح، وهو بذلك الأكفأ اقتصاديًا بما يوفره من وقت ومال، وبما يحققه من انسياب لحركة الاستثمار.

مصر دائمًا شديدة الحساسية تجاه قناة السويس، باعتبارها ترتبط بنضالها ضد الاستعمار لتحقيق التحرر الوطني، كما أنها واحدة من أهم ثلاثة موارد للدخل من العملات الأجنبية التي تحتاجها البلاد، بواقع 8.8 مليارات دولار العام الماضي.

ولذلك فأنظار صنّاع القرار والاقتصاديين سرعان ما تلتفت إليها مع كل مواجهة عسكرية في المنطقة، أو عند تردد أنباء عن مشاريع لإنشاء ممرات منافسة، كما حدث في قمة العشرين بالهند (9-10 سبتمبر /أيلول 2023) التي أعلن خلالها عن مشروع ممر اقتصادي، أو كما حدث مع الإعلان عن مبادرة “الحزام والطريق” الصينية – (أو طريق الحرير الجديد)- التي تهدف إلى توفير حزام بري من السكك الحديدية، والطرق البرية لإيصال البضائع من الصين إلى أوروبا .

وزاد القلق المصري عندما بدأت أجهزة الدعاية الأميركية -وهي الدولة التي تمثل الداعم الأكبر للكيان الصهيوني- بترويج مخاوف من أن جماعة الحوثي المدعومة من إيران تخطط لإغلاق البحر الأحمر كليًا، ثم سارعت الإدارة الأميركية بعد ذلك إلى إطلاق عملية ظاهرها حماية الملاحة في البحر الأحمر، وخليج عدن، وبحر العرب، وباطنها تقديم دعم لوجيستي للكيان الصهيوني، وحشدت لهذه العملية التي أسمتها “حارس الازدهار” عشر دول، بينها بريطانيا، والبحرين، وكندا، وفرنسا، وإيطاليا، وهولندا، والنرويج، وسيشل، وإسبانيا.

وكما هو متوقع فقد كان رد الفعل -الذي لجأ إليه عديدٌ من الشركات بعد هذا التوتر المتصاعد- هو الإحجام عن المرور عبر البحر الأحمر، مستعيضة هذه الشركات عنه بالالتفاف حول رأس الرجاء الصالح مؤقتًا.

الأمر المؤكد، أن الهدف الوحيد -الذي ما كان لهذا التحالف أن يحققه عبر عملية “حارس الازدهار”- هو منع جماعة أنصار الله الحوثية من تهديد التجارة الإسرائيلية البحرية، فالخطر سيحيق بشكل أو بآخر بأي سفينة إسرائيلية أو متجهة إلى إسرائيل تمرّ في هذه المنطقة المحاذية للشواطئ اليمنية، وهو ما تعيه جيدًا شركات الشحن، حيث أصبح نقل البضائع لإسرائيل يمثل خطرًا عليها، ولذلك أعلنت شركة مثل “إيفرغرين” التايوانية في 18 ديسمبر الماضي، أنها لن تحمل أية بضائع إسرائيلية تمر في المنطقة منذ اليوم.

في المقابل كانت هناك شركات أخرى، أعلنت مقاطعة مرور سفنها عبر البحر الأحمر، وقناة السويس-  مثل: “نيوبون يوسين” اليابانية، و”يوروناف” البلجيكية، و”يانغ مينغ” التايوانية، و”هاباغ لويد” الألمانية، و”إتش إم إم” الكورية الجنوبية، و”أورينت أوفرسيس كونتينير لاين” السنغافورية، وغيرها من كبريات شركات الشحن العالمية، غير أن بعض هذه الشركات، مثل: “سي إم إيه سي جي إم” الفرنسية و”إيفرغرين” التايوانية و”ميرسك” الدانماركية – عدَلت لاحقًا عن هذا القرار، وأعلنت استئنافها عبور البحر الأحمر، بعد أن هدأت الأوضاع.

والأرجح أنه لم يكن في نية جماعة أنصار الله الحوثية تعطيل الملاحة في البحر الأحمر، بل إنها أكدت على ذلك أكثر من مرّة، ومثلها فعلت إيران التي حافظت على سياستها في ممارسة التصعيد المحسوب، إذ قالت؛ إنها تهتم باستمرار حرية الملاحة في البحر الأحمر لباقي السفن، وهي مواقف يبدو أنها جاءت عقب اتصالات مصرية مع الطرفين.

وفي ضوء ما سبق، يتبين أنه لا يوجد مبرر لمزيد من التخوّف من تضرر الملاحة في قناة السويس، فرسالة جماعة أنصار الله موجهة إلى الكيان الصهيوني وحده، وقد كانت مؤثرة وستبقى كذلك، مهما تواصلت عملية “حارس الازدهار”، فالغرب يدرك- تمامًا من واقع التجارب السابقة- أن جماعة أنصار الله ليس لديها ما تخسره إذا قوبلت بالقوة المسلحة.

وبذلك ستظل إسرائيل وحدها الأكثر ارتباكًا تجاريًا، فميناء إيلات تراجع نشاطه في استقبال الشحنات، وتكلفة شحن بضائع إسرائيلية تضاعفت مع زيادة مخاطر حملها، ورحلاتها لا تجد لنفسها إلا الطريق الأطول “رأس الرجاء الصالح”.

أما مصر فلم تتأثر تقريبًا، فقد أعلن أسامة ربيع- رئيس هيئة قناة السويس- أن عدد السفن التي امتنعت عن المرور في القناة خلال الفترة من 19 نوفمبر إلى 17 ديسمبر 2023 لم يتجاوز 55 سفينة، وهو رقْم لا يكاد يذكر أمام آلاف تعبر شهريًا.

شاركها.
Exit mobile version