في تراثنا العربي قد يتحوّل الهامش- الذي هو شرح على متن الكتاب- لأن يكون أهم من المؤلَّف الأصلي ذاته. هوامش “طوفان الأقصى” التي يحسن التقاط بعضها من وسط الإبادة الجماعية والتطهير العرقي يمكن الإشارة إلى بعضها في اللقطات الثلاث التالية:

أولًا: المقاومة المسلحة -كما الجهاد- ليست فعلًا عدميًا؛ لأنها تملك أفقًا شاملًا، وأهدافًا تخصّ الفرد والجماعة

هل الشهيد الساجد الذي كان يواجه دبابة الميركافا – قمة التكنولوجيا العسكرية الإسرائيلية والغربية- يقترف فعلًا عدميًا؟ وفي ماذا كان يفكر حين خرّ ساجدا؟، على الوجه المقابل؛ ماذا كان يستهدف القائد العسكري الإسرائيلي الذي اتخذ قرار بث الشريط؟

يحب الساسة ووسائل الإعلام الغربية أن يتخيلوا أن المقاومة الفلسطينية المسلحة هي عبارة عن كادر عدمي على غرار داعش يحتجز المجتمع الفلسطيني كرهينة ويواجه جيشًا لا تتوازن معه موازين القوى المادية بحال؛ فهو جيش لا يقهر. إن الجماعات الفلسطينية المسلحة – في الواقع- حركات سياسية متعددة الأوجه متجذرة في نسيج المجتمع الفلسطيني وتطلعاته الوطنية. هم يجسدون اعتقادًا أكدته عقود من الخبرة الفلسطينية بأن المقاومة المسلحة تشكل عنصرًا مركزيًا في مشروع التحرير الفلسطيني؛ بسبب بنية المشروع الصهيوني ذاته وتطوراته اللاحقة.

ربما كان الشهيد الساجد- وهو يلقى ربه راضيًا مرضيًا – يفكر في أجيال المستقبل من الفلسطينيين الذين يعتزون حتى بالانتصارات الصغيرة ضد الصعاب المستحيلة، وربما كان يرى بعين اليقين لا بصر الواقع استعادةَ القدس. هو يدرك -بالتأكيد- أن النتائج طويلة المدى يمكن ألا نشهدها في حياتنا الدنيا.

من الإدراك المتمايز نشأت فجوة الأهداف بين المقاومة وبين إسرائيل. فقد كان الهدف الإستراتيجي المعلن للحكومة الإسرائيلية – كما قدمه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو- هو القضاء على حماس واغتيال قادتها وعدم استمرارها في حكم غزة. أهداف تخلو من أية سياسة، برغم أن فشل إسرائيل في توقع السابع من أكتوبر/تشرين الأول بمثابة فشل سياسي في فهم العواقب المترتبة على نظام القمع العنيف الذي وصفته منظمات حقوق الإنسان الدولية والإسرائيلية الرائدة بالفصل العنصري.

وفي الوقت الذي كانت فيه الدول العربية تشير إلى أنها لن تدافع بعد الآن عن الفلسطينيين، كانت حماس وسائر فصائل المقاومة في غزة تدافع عن الضفة الغربية والقدس. ومن خلال إطلاق عمليتها “طوفان الأقصى”، أظهرت حماس أن إسرائيل ليست دولة لا تقهر

لقد حطّمت الغارة التي قادتها حماس الأساطير التي تقول؛ إن إسرائيل لا تقهر، وتوقعات مواطنيها بالهدوء حتى في الوقت الذي تخنق فيه الدولة حياة الفلسطينيين. صحيح أن الإسرائيليين الآن أكثر تشددًا؛ ولكن في الوقت نفسه أصبحوا أكثر عدم ثقة في قيادتهم الوطنية بعد الفشل الهائل في الاستخبارات وإدارة المعركة، ولا ندري حتى الآن إن كانوا سيفقدون – أو على الأقل قطاع معتبر منهم- الثقةَ في المشروع الذي تأسّست عليه دولتهم؟

لا تضطلع أهداف إسرائيل – كما أعلنها نتنياهو- بالتعامل مع أهداف المقاومة، كما طرحتها حماس. تتمتع حماس بمنظور فلسطيني شامل، وليس منظورًا خاصًا بغزة، ولذلك فقد قصدت أن يكون لـ 7 (أكتوبر) تشرين الأول، تأثيرات تحويلية في جميع أنحاء فلسطين. هي استهدفت ربط ساحات فلسطين التي تفرقت أوصالها بحكم سياسات نتنياهو في فصل غزة عن الضفة وعن القدس، كما سعت لاستعادة القضية الفلسطينية لأولويتها على الأجندة العربية والدولية، وتحرير أهل غزة من سجنهم، بالإضافة إلى تحسين الموقف التفاوضي مع إسرائيل؛ إذ تعتقد المقاومة أنه لا يمكن تحقيق أي شيء من العملية التفاوضية دون قوة تجبر إسرائيل على تقديم التنازلات.

هل تعاملت إسرائيل مع الأهداف التي طرحتها المقاومة وما ترتب على “الطوفان” من تداعيات، أم ظلت حبيسة سياسات نتنياهو التي تضمن استمراره في الحكم فلا يذهب إلى السجن بتهمة الفساد؟

يفترض قسم كبير من المؤسسة الأميركية الداعمة للحرب الإسرائيلية أن العنف النابع من مجتمع مضطهد يمكن القضاء عليه باستخدام القوة العسكرية الساحقة ضد هذا المجتمع. ولكن حتى وزير الدفاع لويد أوستن -من خلال خبرته في العراق- أبدى شكوكه حول هذه الفرضية، محذرًا من أن الهجمات الإسرائيلية التي تقتل الآلاف من المدنيين تخاطر “بدفعهم إلى أحضان العدو واستبدال النصر التكتيكي بهزيمة إستراتيجية لإسرائيل”.

ثانيًا: الكرامة الإنسانية في مواجهة البراغماتية الاقتصادية

يزعم كاتب هذه السطور أن المشروع المشترك بين شعوب المنطقة – كما أظهرته انتفاضات الربيع العربي- هو تحقيق الكرامة الإنسانية. هذه الشعوب وهي تفكر في تحسن أوضاعها الاقتصادية والمعيشية؛ فإنها تفكر فيها باعتبارها مكونًا أصيلًا للكرامة الإنسانية.

لكن المطروح من الأنظمة العربية وتحالفاتها في الرأسماليات الدولية هو النمو الاقتصادي خلوًّا من أي اعتبارات رمزية أو قيمية.

ففي الوقت الذي أصبح مطروحًا لغزة – حلًّا لمعضلاتها – أن تكون على غرار دبي؛ بات النضال الوطني الفلسطيني قضية العدالة التي يطالب بها المحرومون في جميع أنحاء العالم. تم احتضان القضية الفلسطينية كامتداد للحركات القوية المطالبة بالعدالة العرقية والاجتماعية والجنسانية التي ظهرت، خاصة في الولايات المتحدة، منذ عام 2020. في عام 2021، أصدرت حركة “حياة السود مهمة” بيانًا يعلن “التضامن مع الفلسطينيين” ومعارضة “الاستعمار الاستيطاني بكافة أشكاله”.

وفي الوقت الذي كانت فيه الدول العربية تشير إلى أنها لن تدافع بعد الآن عن الفلسطينيين، كانت حماس وسائر فصائل المقاومة في غزة تدافع عن الضفة الغربية والقدس. ومن خلال إطلاق عمليتها “طوفان الأقصى”، أظهرت حماس أن إسرائيل ليست دولة لا تقهر.

قد يبدو من المهم الإشارة إلى أن مجموعةً من المسلحين غير النظاميين- الذين لا يتجاوز عددهم الآلاف، والمحاصرين والذين لا يملكون سوى القليل من القدرة على الوصول إلى الأسلحة- تضاهي أحد أقوى الجيوش في العالم، الذي تدعمه وتسلحه الولايات المتحدة، وسائر الدول الغربية.

ركّز الرئيسان دونالد ترامب وجو بايدن على “التطبيع” مع الأنظمة العربية التي كانت على استعداد لترك الفلسطينيين عرضة للفصل العنصري الإسرائيلي المتشدد.

الانتفاضة الجارية الآن هي استعادة للاهتمام الشعبي بالقضية من جديد، وتأكيد على أحد مكونات الشرعية في النظم السياسية العربية، ولكن بوعي جديد يتجاوز خبرة النظم القومية في الستينيات وما تلاها والتي وظفت القضية لتصادر بها مطلب الشعوب في الحرية والمشاركة السياسية “فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة”.

بات قطاع معتبر من الشعوب العربية يدرك وحدة ساحات النضال لديه؛ فهذه الحكومات التي خذلت الفلسطينيين وتخلت عنهم هي المسؤول الأول عن إفقارهم وسوء معيشتهم. بات الأخيرون جزءًا من مشاريع نيوليبرالية معولمة تعود عليهم فقط وعلى تحالف حكمهم الضيق بالمنافع والامتيازات دون الشعوب.

لم تعد ورقة التطبيع من تعيد تشكيل الشرق الأوسط. المقاومة بجميع أشكالها المدنية والمسلحة هي الأهم.  باتت هناك حدود على التطبيع حتى لو قامت به الأنظمة التي تتشابه في الجوهر مع الكيان الإسرائيلي. التطبيع في نهاية المطاف تحالف المستبدين النيوليبراليين حفّاري قبور الفقراء ومصاصي دمائهم.

قامت هذه الصفقة على أسس ثلاثة هي: اتفاقيات تطبيع، والاعتراف بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل، وإمكانية السلام مع العرب دون الاعتراف بحقوق الفلسطينيين. الاتفاقيات تجعل فرصة تحقيق سلام عادل ومنصف ومستدام شبه مستحيلة، لكنها في نفس الوقت نزعت ورقة التطبيع من الفلسطينيين كورقة مساومة ضد إسرائيل، وطرحت مفهومًا جديدًا للسلام في المنطقة يقوم على صيغة الاقتصاد والأمن؛ أي صيغة مادية صرفه تستند إلى غريزتَي الجوع والخوف.

الخطة تقلب مبادئ العملية السياسية بين إسرائيل والفلسطينيين على مدى العقود الثلاثة الماضية، إنها تتحدى الافتراض القائل؛ إن الوقت في صالح المسعى الوطني الفلسطيني، وإن المجتمع الدولي مع مرور الوقت سيجبر إسرائيل على قبول الشروط الفلسطينية للتوصل إلى اتفاق، وتقدم المصالح الاقتصادية كسبيل لإعادة صياغة والتغاضي عن الحقوق الفلسطينية.

أعادت الانتفاضة الجارية الآن مسألة القدس للواجهة باعتبارها أحد أهم مكوّنات الصراع؛ فاسمها “طوفان الأقصى” حيث هو رمز الصراع، وأسقطت الفلسفة التي قامت عليها اتفاقيات “أبراهام”، وأكدت على الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني في إقامة دولته، والأهم أنها ألقت بظلال كثيفة على إمكانية أن يكون الكيان الصهيوني جزءًا من ترتيبات الأمن الجماعي في الإقليم، وأكدت ما انتهت إليه استطلاعات الرأي العربي المتعددة من أن إسرائيل هي التهديد الأول للمنطقة، كما تدركه شعوبها.

القلوب التي تهفو إلى فلسطين وتتعلق بأبي عبيدة وتحتفي بالشهيد الساجد لها اليد العليا الآن على البراغماتية الاقتصادية. نجحت هذه العملية في تقويض النموذج البراغماتي لصفقة القرن، وبرزت معها الفجوة بين موقف الحكومات في المنطقة التي غلبت مصالح نخبة حكمها، وبين موقف شعوبها التي تجدد معنى انتمائها العربي والإسلامي المشترك، وترى الرابطة بين التحرير الفلسطيني وبين تحررهم من القمع السياسي والاستغلال الاقتصادي والخنوع للولايات المتحدة.

ثالثًا: الصغير ذلك أجمل

بحكم تأثرنا بالتفكير الحداثي؛ كانت تطلعاتنا دائمًا للأقوى والأضخم والأكبر. كان الغرض من هذا نفي الإنسان الفرد وتكويناته الاجتماعية والثقافية بحثًا عن الأنماط الكبرى التي يمكن أن تتعامل معها الدولة القومية الحديثة.

لكن منذ مطلع الألفية بدأ يبرز دور الفرد والمجموعات الصغيرة التي يمكن أن تتجمع على أهداف محددة، وتشبك مع مجموعات أصغر فاعلة على المستوى الدولي وفي محيطها الإقليمي. ساعد انتشار التكنولوجيا والقدرة على امتلاكها للقوى الصغرى على التأثير الكبير على مجمل الأحداث والتطورات في ظل عالم مترابط.

بعد أن أصبحت التقنيات العسكرية المتقدمة – مثل الطائرات بدون طيار- متاحة بسهولة، أصبح بوسع اللاعبين الأصغر حجمًا أن يمارسوا قدرًا أكبر من القوة ويعرضوها على نطاق أوسع من أي وقت مضى، وهو ما من شأنه أن يمكّن اختياراتهم من التأثير في العالم. انتشار السوشيال ميديا وقدرة الأفراد والمجموعات على تسخيرها أسهم في تحدي السرديات السائدة للميديا التقليدية التي سيطر عليها رأس المال الكبير، وتحكمت فيها المصالح السياسية.

انظر فقط كيف تضطر شركات الشحن في جميع أنحاء العالم إلى إعادة توجيه حركة المرور الخاصة بها ودفع أسعار تأمين أعلى اليوم؛ لأن الحوثيين -وهم رجال قبائل يمنيون لا تضاهي قوتهم قوة الولايات المتحدة وتحالفها الغربي- قد حصلوا على طائرات بدون طيار وصواريخ وبدؤُوا في تعطيل حركة المرور البحرية حول البحر الأحمر وعبره نصرةً للفلسطينيين.

الأحزاب الضعيفة قادرة على صد الأحزاب القوية وإحداث تغييرات كبيرة بالاستعانة بالإستراتيجية الصحيحة. “من الممكن أن تكون الحرب في غزة هي الحرب الأولى في تاريخ إسرائيل التي خاضها الجيش وخسرها. وستكون هذه الخسارة كارثية بالنسبة لإسرائيل وتضر بشدة بالولايات المتحدة”، كما أشار جون ألترمان الذي يشغل كرسي زبيغنيو بريجنسكي في الأمن العالمي.

في عالم اليوم المترابط، من الممكن أن تحدد الحرب على قطاع غزة – الذي تبلغ مساحته ضعف مساحة واشنطن العاصمة تقريبًا – الرئيس القادم في واشنطن العاصمة.

هكذا؛ فإن طوفان المقاومة –مقاومة العجز كما كتبت– يحمل بذور صدام إستراتيجي بين تصورين وإدراكين متمايزين مختلفين يتجسدان في الشهيد الساجد والبراغماتي المنسلخ من أية قيمة.

في الأول أنت شهيد؛ لأنك تدافع عن عرضك ومالك وبيتك وأرضك ومقدساتك – وإن فني جسدك- والشهيد حي بشهادته الدائمة -رمزيًا وقوميًا- على أصحاب القضية، أما مع الثاني؛ فأنت تبحث عن المنفعة المباشرة، وإن فنيت إنسانيتك. هو صدام إستراتيجي بين مدارس ومقاربات ووجهات نظر عالمية ومخيمات مختلفة، ولكن يظل جوهره الصدام بين الفؤاد -أي القوة المدركة في الإنسان من عقل وقلب- وبين البراغماتية منزوعة الإنسانيّة.

شاركها.
Exit mobile version