طرابلس – أطلق مصرف ليبيا المركزي بنهاية الشهر الماضي منظومة “راتبك لحظي”، لتحويل مرتبات موظفي القطاع العام مباشرة إلى حساباتهم البنكية بصورة آنية، في مسعى لتقليص الهدر المالي وتعزيز الشفافية.

وصف مسؤولون الخطوة بأنها “تحول نوعي” في إدارة المال العام، لكن في الوقت نفسه، ثمة تساؤلات حول جدواها الفعلية، في ظل أرقام الإنفاق الضخمة ومستوى الفساد والانقسام المؤسسي الذي يطبع المشهد الليبي.

إنفاق قياسي

تشير بيانات ديوان الرقابة الإدارية عن يناير/كانون الثاني 2025 إلى أن عدد موظفي القطاع العام بلغ مليونين و99 ألفا، بينما ارتفع بند الأجور من 33.1 مليار دينار ليبي (6.1 مليارات دولار) عام 2021 إلى 67.6 مليار دينار (12.46 مليار دولار) في 2024، أي بزيادة تفوق 104% خلال 4 سنوات فقط.

وحسب أرقام البنك الدولي الصادرة الربيع الماضي، يمثل بند الأجور 31.3% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي من أعلى النسب في المنطقة، ما يعكس العبء الكبير على الموازنة العامة، خاصة في ظل الاعتماد شبه الكلي على إيرادات النفط.

فساد وهيمنة البيروقراطية

وحسب مؤشر مدركات الفساد 2024 الصادر عن منظمة الشفافية الدولية في فبراير/ شباط 2025، جاءت ليبيا في المرتبة 173 من أصل 180 دولة، وبمعدل 13 نقطة من 100، ما يبرز ضعف الحوكمة وغياب الشفافية في إدارة الموارد العامة.

ويرى محللون اقتصاديون أن أي منظومة رقمية جديدة لن تحقق أهدافها إذا لم ترافقها إصلاحات مؤسسية تحد من المحسوبية والتلاعب بالبيانات الوظيفية، مشيرين إلى أن التاريخ الإداري في ليبيا مليء بمحاولات تحديث انتهت دون نتائج ملموسة بسبب غياب المساءلة.

خلفية الإطلاق

قبل إطلاق (راتبك لحظي) كانت المرتبات تُصرف غالبا عبر إجراءات ورقية أو تحويلات يدوية، وهو ما كان يؤدي إلى تأخيرات وصرف مرتبات لأشخاص متوفين أو موظفين وهميين، إضافة إلى صعوبة المراجعة الفورية.

ويؤكد مصرف ليبيا المركزي أن المنظومة الجديدة مكنت حتى نهاية يوليو/تموز 2025 من مطابقة نحو مليوني حساب، مع استكمال نحو 700 ألف حساب إضافي لاحقا، بهدف إنشاء قاعدة بيانات دقيقة للموظفين وربطها بشكل آمن مع القطاع المصرفي.

المنظومة الجديدة من شأنها تسريع صرف المرتبات وتحسين تجربة الموظف (الفرنسية)

التحديات الاقتصادية الكلية

يشير تقرير صندوق النقد الدولي (يونيو/حزيران 2025) إلى تراجع النمو الحقيقي من 10% في 2023 إلى نحو 2% في 2024، نتيجة انخفاض إنتاج النفط، بينما فقد الدينار الليبي 13% من قيمته في أبريل/نيسان 2025.

ورغم توقع البنك الدولي نمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 12.3% في 2025 بدعم من ارتفاع إنتاج النفط إلى 1.3 مليون برميل يوميا، فإن ضعف كفاءة الإنفاق العام واستمرار الفساد يظلان عقبتين رئيسيتين أمام الاستدامة المالية.

وعود ومخاوف

الحكومة تقول إن “راتبك لحظي” سيساعد على ما يلي:

  • القضاء على الازدواج الوظيفي.
  • تسريع صرف المرتبات وتحسين تجربة الموظف.
  • الحد من التدخلات اليدوية وتقليص الأخطاء.

لكن خبراء الاقتصاد يحذرون من أن نجاح المشروع يتوقف على:

  • إطار تشريعي وتنظيمي واضح يحمي البيانات ويضمن حق الاعتراض.
  • التحديث المستمر لقاعدة البيانات بالتعاون بين وزارة المالية ووزارة العمل وديوان المحاسبة.
  • توفير بنية تحتية مصرفية مؤمنة ضد الاختراق أو الأعطال.

ردود الأفعال

تفاوتت ردود الأفعال بين الترحيب بحل مشكلة التأخير المزمن في صرف المرتبات، والتخوف من تعقيدات فتح الحسابات البنكية أو تحديث البيانات، خاصة في المناطق النائية التي تعاني من ضعف البنية التحتية المصرفية.

وتشير منشورات على منصات التواصل الاجتماعي إلى أن الحملة الإعلامية والتوعوية ستكون حاسمة لإنجاح المشروع، خاصة أن ثقة المواطنين بالمنظومات الحكومية الإلكترونية لا تزال محدودة، في ظل تجارب سابقة شابها الفشل أو البطء.

نحو شفافية مالية

يطالب ديوان المحاسبة وخبراء الرقابة المالية بنشر تقارير ربع سنوية تتضمن عدد الحسابات المطابقة، حجم الوفر المالي المحقق، تفاصيل حالات الاعتراض وآلية معالجتها.

ويرى متابعون أن هذه الخطوة، إذا اقترنت بالمساءلة، قد تكون بداية إصلاح حقيقي لمنظومة الأجور، لكن تجاهل الشفافية قد يحوّل المشروع إلى مجرد أداة جديدة لإدارة نفس الإشكالات القديمة.

ويعني نجاح (راتبك لحظي) توفير مليارات الدنانير وتحسين الكفاءة الاقتصادية، أما الفشل فسيعني إهدار فرصة نادرة لإصلاح أحد أكثر ملفات الإنفاق حساسية في البلاد.

شاركها.
Exit mobile version