تكرّرت في الأسابيع الأخيرة دعوة المعارضة التركية، وخصوصًا حزب الشعب الجمهوري، لتنظيم انتخابات مبكرة في البلاد كمخرج، من وجهة نظرها، للمشاكل القائمة وخصوصًا الاقتصادية، فيما يؤكد حزب العدالة والتنمية أنه لا حاجة لذلك لا دستوريًا ولا عمليًا.
المسوغات
لتركيا خبرة غير مشجعة في الانتخابات المبكرة في العقود الماضية؛ فقد امتازت فترة السبعينيات ثم التسعينيات من القرن الماضي، في ظل النظام البرلماني، بسقوط عدة حكومات ائتلافية والدعوة لانتخابات مبكرة، لم تكن حلًا للأزمات القائمة وإنما كانت تعميقًا لها وتعزيزًا لحالة الانسداد السياسي. ولذلك كان أحد أهم المسوغات التي قدمها حزب العدالة والتنمية وتحالف الجمهور لدى عرضهما فكرة الانتقال للنظام الرئاسي، هو أن ذلك سيخدم الاستقرار في البلاد بنفي الحاجة للائتلافات الحكومية، وبالتالي تقليل الحاجة لتبكير الانتخابات كما كان يحصل سابقًا.
أُقرَّ النظام الرئاسي في 2017 وبدأ تطبيقه مع الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في 2018، ورغم بعض النقاش بخصوص تبكير الانتخابات في 2023، فإنها أُقيمت في موعدها، مع تبكيرها شهرًا واحدًا؛ بسبب فصل الصيف والإجازات السنوية والامتحانات الجامعية، وليس لأسباب سياسية أو اقتصادية.
بعد الانتخابات المحلية في مارس/آذار الماضي، والتي تأخر فيها حزب العدالة والتنمية للمرة الأولى منذ تأسيسه عن منافسه الشعب الجمهوري الذي حل أولًا، نفى الأخير، على لسان رئيسه أوزغور أوزال، نيته الدعوة لانتخابات مبكرة، داعمًا خطاب الرئيس أردوغان بالتأكيد على أهمية الاستقرار السياسي في السنوات القادمة لحل مشاكل البلاد.
بيد أن أكبر أحزاب المعارضة عاد مؤخرًا للدعوة لانتخابات مبكرة في البلاد، ويقول إنه يراها حلًا منطقيًا وضروريًا لاستعصاء بعض المشاكل، وفي مقدمتها الاقتصادية. في طرحه، يعتمد الشعب الجمهوري على سرديتين أساسيتين: الأولى أن استمرار النظام القائم بقيادة الرئيس أردوغان لن يستطيع تحسين الأوضاع الاقتصادية، باعتباره من ضمن مسبباتها.
والثانية تفسير نتائج الانتخابات المحلية على أنها رسالة من الشعب برغبته في تغيير القيادة و/أو النظام السياسي القائم، أي برغبة الشارع في إنهاء حكم العدالة والتنمية واستبدال الشعب الجمهوري به، وفق ما طرحه عدة سياسيين معارضين.
ولا شك أن الشعب الجمهوري يضع نصب عينيه بعض الخلافات غير المعلنة أو المفترضة بين مكونات تحالف الجمهور، أي حزبَي العدالة والتنمية والحركة القومية، ويرى في ذلك نقطة ضعف للرئيس أردوغان.
الاستحقاقات
رغم أن الكثير، بل ربما معظم الأطروحات السياسية في تركيا تُفهم في إطار التدافع السياسي وديناميكية الحياة السياسية والحزبية في البلاد، فإن الدعوة للانتخابات المبكرة تحتاج نقاشًا مستقلًا بالنظر لأهميتها، وما قد يترتب عليها في حال حصلت، وهو نقاش على المستويين: الدستوري – القانوني والواقعي – العملي.
دستوريًا، ليس ثمة ما يفرض الحاجة لانتخابات مبكرة لتجديد شرعية النظام القائم، فالبلاد تُحكم بنظام رئاسي لا يحتاج فيه الرئيس لثقة البرلمان لإقرار الحكومة، ولا فيه إمكانية لإسقاط الحكومة بتصويت البرلمان. يعني ذلك أن تراجع شعبية الأحزاب – وحتى الرئيس – ليس عاملًا حاسمًا يدفع للبحث عن تجديد الشرعية من خلال صندوق الانتخابات قبل إتمام المدة الدستورية التي تنتهي في 2028. وهناك أمثلة لدول تُحكم بالنظام الرئاسي أو شبه الرئاسي تتراجع فيها شعبية الرئيس بشكل دراماتيكي دون الحاجة لتبكير الانتخابات بالضرورة، دعمًا للاستقرار.
دستوريًا كذلك، لا تملك المعارضة فرض تبكير الانتخابات، حيث يمكن وفق الدستور الدعوة لـ “تجديد الانتخابات” من قبل الرئيس أو البرلمان بتصويت 60% من النواب (360 نائبًا من أصل 600)، وهو ما لا تملك المعارضة أيًا منهما.
ولذلك، أي لأن حزبه لا يملك دستوريًا وقانونيًا فرض الانتخابات المبكرة، فقد دعا أوزال لإقرارها عبر البرلمان، متعهدًا بالتصويت مع هذا التوجه، وهو ما يتيح للرئيس التركي دستوريًا الترشح مجددًا، حيث قال أوزال إن خريف العام المقبل سيكون وقتًا مناسبًا للقرار، إذ يأتي في منتصف المدة الدستورية الحالية.
عمليًا، وبفرض الإمكانية الدستورية، أردوغان ليس معنيًا في الفترة الحالية بتبكير الانتخابات، فخطة الإصلاح الاقتصادي التي يقودها وزير المالية محمد شيمشك تحتاج وقتًا ليس بالقليل. كما أن سياق الانتخابات يفرض ضغطًا كبيرًا على الاقتصاد والميزانية، وكذلك على الحالة السياسية والمجتمعية في البلاد، وهذا آخر شيء يحتاجه المسار الاقتصادي الذي يتطلب تهدئة واستقرارًا.
سياسيًا كذلك، ما زال الحزب الحاكم يعيش أجواء ما بعد الانتخابات المحلية ونتائجها، وسيبدأ قريبًا مسار مؤتمره العام الذي سيستمرّ شهورًا على الأقل، بدءًا من القرى والبلدات مرورًا بأحياء المدن الكبرى، والمدن، وصولًا للمؤتمر العام على مستوى البلاد، ومن غير المتوقع ولا المنطقي أن يذهب لانتخابات قبل إتمام ترتيب بيته الداخلي.
وأخيرًا، إذا ما أراد أردوغان تبكير الانتخابات (تجديدها وفق المصطلح الدستوري) ليستطيع الترشح لعهدة رئاسية إضافية، فإنه من المتوقع أن يؤخر ذلك قدر الإمكان، بحيث يستفيد من سنوات الحكم في العهدة الحالية للحد الأقصى الممكن.
فرص المعارضة
وبافتراض الأمرين السابقين، أي تحقيق المقتضى الدستوري، واتخاذ القرار العملي، ما هي فرص الشعب الجمهوري عمليًا لتسلُّم الحكم في البلاد عبر انتخابات مبكرة؟
من المهم ابتداءً الإشارة إلى أن تفسير الحزب لنتائج الانتخابات المحلية على أنها رغبة شعبية لاستبدال أردوغان ليس دقيقًا، فقد كانت انتخابات محلية لا رئاسية. ورغم أن النتائج تضمنت رسائل سياسية واحتجاجية لأردوغان والعدالة والتنمية (وهو ما أقرَّ به كلاهما)، فإنها لا تحمل بالتأكيد معنى سحب الثقة من الرئيس، والفارق الكبير بين نتائج الانتخابات الرئاسية والمحلية، رغم الفاصل الزمني القصير بينهما (عشرة أشهر بل أقل باعتماد توقيت انتخابات الإعادة) يؤكد هذا المعنى.
أكثر من ذلك، وبافتراض أن الشعب الجمهوري بات الحزب الأول في البلاد كما يطرح، تبقى الانتخابات الرئاسية ذات معادلات وديناميات مختلفة، بدليل الفارق الهائل بين نتيجة أردوغان وحزبه، وكذلك نتيجة الشعب الجمهوري ومرشحه للرئاسة كمال كليجدار أوغلو. فإذا ما وضعنا في الحسبان انفضاض تحالف الشعب المعارض بعد الانتخابات الأخيرة، والمشاكل المعلنة بين أركانه، تصبح علامات الاستفهام حول فرص المعارضة أكثر وجاهة.
بل ثمة خلافات داخل حزب الشعب الجمهوري نفسه لا ينبغي إغفالها، إن كان بين الرئيس الحالي أوزال وتيار الرئيس السابق كليجدار أوغلو الذي أكد على أنه سيبقى “داخل أطر العمل السياسي وفق مسؤوليته الوطنية”، أو على صعيد المرشحين المحتملين للرئاسة في الانتخابات المقبلة، وتحديدًا رئيسي بلدية إسطنبول وأنقرة أكرم إمام أوغلو ومنصور يافاش اللذين تخرج بعض التراشقات والحساسيات بينهما للعلن في التصريحات والخطابات كما حصل مؤخرًا.
في الخلاصة، فإن دعوة حزب الشعب الجمهوري لتبكير الانتخابات اليوم ليس لها رصيد دستوري ولا فرص عملية، وهي أقرب للضغط السياسي على أردوغان وحكومته وحزبه، وهي من جهة أخرى سعي للضخِّ في سردية أن الشعب الجمهوري بات الحزب الأول في البلاد مقابل اضمحلال شعبية العدالة والتنمية، والاستفادة من ذلك في السياسة الداخلية.
وهذا ما أشار له أحد كبار مستشاري أردوغان ونائب رئيس هيئة السياسات القانونية في الرئاسة محمد أوتشوم في مقال مطوّل له مؤخرًا، إذ عدَّ هذه الدعوة “حملة أيديولوجية للإضرار بأفضلية الاستقرار السياسي” في البلاد، و”الرغبة في إبعاد البلاد عن أجندتها الاقتصادية والقانونية الحقيقية” من خلال “جدل مفتعل بخصوص تبكير الانتخابات”.
ولذلك، فليس على أجندة الرئيس أردوغان وتركيا اليوم فكرة تبكير الانتخابات، لكنها قد تُعاد لطاولة النقاش مع اقتراب انتهاء عهدته الرئاسية الحالية، رغبةً في الترشح مجددًا (بقرار من البرلمان) إذا كانت الظروف السياسية والاقتصادية في البلاد تتيح ذلك وتعظم من فرص فوزه، إذ دون ذلك سيكون الأمر مغامرة سياسية كبيرة وتعظيمًا لفرص المعارضة بغض النظر عن مسارها الدستوري.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.