لا حديث في السّاحة السياسيّة في تونس هذه الأيام سوى عن الانتخابات الرئاسيّة التي باتت على الأبواب.

محطّة انتخابيّة بالغة الأهميّة تؤشّر إلى نهاية العُهدة الأولى للرئيس التونسي قيس سعيد، فاتحة الباب كما في كل البلاد الديمقراطيّة أو السّائرة نحوها (مع ما يتضمنه ذلك من انتكاسات محتملة) لجردة حساب محورها الحاصل السياسي والاقتصادي والحقوقي لسنوات شهدت فيها البلاد تحوّلًا مثيرًا للجدل من النظام البرلماني إلى آخر رئاسيّ مطلق، تتمسّك المعارضة بوصفه بالانقلاب على مسار الانتقال الديمقراطي، ونسف المنجزات التي حقّقها ذلك الانتقال وقطع الطريق على تطوّره نحو مرحلة يستدرك فيها نواقص وإخلالات لا يمكن معها تجاوز تركة عقود من الاستبداد والفساد في طرفة عقد من الزمن.

ما يقوله الواقع

وسط أزمة سياسية واقتصادية خانقة، تشعر فئات واسعة من التونسيين بالحاجة الماسّة لمعرفة حقيقة الأوضاع التي تمرّ بها بلادهم، وهم إذ يلمسون دون شكّ النتائج النهائيّة للسّياسات الرسميّة في تفاصيل حياتهم اليوميّة، تلك التي يكابدون فيها غلاء الأسعار وافتقاد بعض السلع الأساسيّة وتدني الخدمات، هم إذ يجابهون كل ذلك يجدون أنفسهم في القلب من معركة حامية الوطيس لاستمالة العقول والقلوب تديرها أطراف عديدة ومتصارعة، تحوم حولها أسئلة الموضوعيّة والنزاهة والاحتكام الصّادق للمصالح الوطنية العليا.

وهو الواقع الذي بات يعبّر عن نفسه في هيئة أزمة ثقة وهوّة عميقة بين النخب سواء أكانت في الحكم أو المعارضة والشعب الذي ملّ وعود التغيير نحو الأفضل.

عادة ما تبرز في فترات الاضطراب والتردّد والانقسامات والانتكاسات السياسيّة والاقتصاديّة والحقوقيّة، الحاجة الملحّة لما يمكن وصفها بالنخب المستقلة ممثّلة في شخصيّات وجهات علميّة وأكاديميّة كفؤة ونشطة، قادرة على رصد الواقع بدقّة ورصد أهمّ مؤشّراته وتفكيك الألغام التي تهدّد استقراره ومقدرات النّماء فيه.

وهي النّخب التي يفترض بها أن تخرج بالبلاد من القرار السياسي المغرض ومن المعارضة الاحتجاجيّة الوظيفيّة ومن الانطباعيّة الشعبويّة إلى القراءات العلميّة الرّصينة والمعمّقة، لتقدّم نتاجًا محكّمًا يمكن للجميع ومن مختلف المواقع الاستفادة منه، كي تقف كل الأطراف المعنيّة بالمشهد الوطني أمام مرآة الحقائق، حيث الأرقام والنسب والمعطيات الموثّقة التي لا تكذب ولا ينفع معها خطاب التّلفيق والتّنميق ولا الشّعارات الرنّانة الزائفة.

والحقيقة هي أنّ السّاحة التونسيّة لم تخلُ من مثل هذه الأصوات سواء أكانت شخصيّات أكاديميّة محلّ احترام من الجميع، أو مراكز بحثيّة مرموقة على قلّتها أو جمعيّات ناشطة في ممارسة الرّقابة المستقلّة على الأداء السياسي والاقتصادي والحقوقي، غير أنّها وفي ظل ضجيج المعارك السياسيّة بقيت مهمّشة ولا يتم الالتفات إلى ما تقدّمه من تقارير وترفعه من معطيات سوى في مناسبات نادرة لا تكاد تذكر.

ضمن هذا السّياق قدّمت منظمة “أنا يقظ” تقريرًا هامًا تضمّن جرد حساب لخمس سنوات من حكم الرئيس التونسي قيّس سعيّد، قاسَ الحاصلَ النهائي لعهدته إلى ما قدّمه من وعود في انتخابات ألفين وتسعة عشر التي جاءت به إلى سدّة الحكم بفضل أنصاره وبفضل جمهور أحزاب وضعت صراعاتها جانبًا ورأت في خلفيته القانونيّة والصّورة الإيجابيّة التي أشيعت عن شخصيّته بارقة رجاء في غد أفضل للبلاد.

ما وراء المعطيات

كثيرة هي المعطيات التي استعرضها تقرير منظمة “أنا يقظ” لتتحول سريعًا إلى مادة متداولة في الساحة التونسيّة. معطيات أكدت عنوانها العريض والأساسي أنّ الرّئيس سعيّد لم يحقق وعوده تجاه التونسيّين بنسبة 87.5%.

يتعلق الأمر باثنين وسبعين وعدًا، قالت المنظمة إن الرّئيس سعيّد لم يحقّق منها سوى تسعة وعود، أي ما لا يتجاوز 12.5 % من مجمل الوعود.

“أنا يقظ” قالت إنّ سعيّد فشل في الوفاء بوعوده “رغم إقراره لتدابير استثنائية منذ ثلاث سنوات واختياره المباشر لأربعة رؤساء حكومة وجمعه للسلطات وإرسائه لمشروعه الخاصّ وتطويعه لجميع الهياكل العموميّة وتدخّله في تعيين أصحاب القرار في مختلف الهيئات والإدارات”.

تعرف منظمة “أنا يقظ” نفسها كما هو مثبت في موقعها الإلكتروني بكونها “منظمة رقابيّة تونسيّة غير ربحية ومستقلّة تهدف إلى مكافحة الفساد المالي والإداري وتدعيم الشفافيّة”.

غير أن متابعين يدّعون الإلمام بخفايا المشهد في تونس يلمحون إلى العلاقة التي تربطها بحزب “التيار الديمقراطي” الذي كان إلى الأمس القريب تحت الهيمنة الكاملة للزوجَين: محمد وسامية عبو.

ويرى هؤلاء أن تقرير المنظمة على أهميّته وجديّته والحاجة الماسّة لأمثاله، لا يسلّط الضوء فقط على الحاصل من العهدة الرئاسيّة الأولى للرّئيس قيّس سعيّد، وإنما كذلك على العلاقة الإشكاليّة بين الأحزاب والجمعيات في تونس، حيث أثيرت أسئلة من مواقع وبغايات مختلفة حول مدى استقلاليّة تلك الجمعيّات عن أجندات الحكم والمعارضة، فضلًا عن مصادر تمويلها ومدى إخلاص عملها لوجه الوطن دون غيره.

تلمّح هذه القراءة إلى الموقف الذي اتخذه حزب “التيار الديمقراطي” من الخطوات التي أقدم عليها الرّئيس قيّس سعيّد وباتت تعرف بمسار الخامس والعشرين من يوليو/تموز، بداية من تفعيل المرسوم ثمانين من دستور ألفين وأربعة عشر، مرورًا بتجميد أغلب الهيئات الدستوريّة قبل إنهاء عملها، ثم انتهاء بإيقاف العمل بدستور 2014 المعروف بدستور الثورة، ذلك الذي تم التوافق عليه في ألفين وأربعة عشر والاستعاضة عنه بالمرسوم مائة وسبعة عشر الذي ألقى بالبلاد في مرحلة المراسيم الرئاسيّة قبل أن تنتهي بها هذه الرّحلة إلى دستور الصلاحيات الرئاسيّة المطلقة الذي متّع به الرئيس سعيد نفسَه.

في كل هذه المحطات كان حزب “التيار الديمقراطي” ومن ورائه الثنائي المؤسّس عبّو وزوجته من أكبر وأنشط الدّعاة لتفعيل الفصل ثمانين وللاتكال على المؤسّستين: العسكريّة والأمنيّة في إدارة مرحلة جديدة تقطع مع عشريّة الانتقال الديمقراطي بعيدًا في النتيجة عن منطق الصندوق ونتائج الاقتراع الحرّ والمباشر، إلى الحدّ الذي ذرفت فيه السيّدة سامية عبّو دموعًا غزيرة على المباشر في قناة إذاعية فرحًا وسرورًا بما أقدم عليه الرئيس سعيّد يوم الخامس والعشرين من يوليو/تموز، وهو اليوم الذي اعتبرته المعارضة في البلاد يوم “الانقلاب على الديمقراطية في تونس”.

طرحت السّياسات والقرارات التي أقدم عليها الرّئيس التونسي السّؤال عن المسافة بينها وما دعا إليه السيّد محمّد عبو بصراحة في السّادس عشر من سبتمبر/أيلول ألفين وتسعة عشر أي بأيّام قليلة قبل إعمال الفصل ثمانين في الخامس والعشرين من نفس الشهر، عندما قال على أمواج إذاعة “موزاييك” التونسية:

“ندعو رئيس الجمهورية إلى الضّرب على الطاولة بقوّة وألاّ يتساهل في ذلك، كما ندعوه إلى أن يؤمّن قراراته بإجراءات أمنيّة وعسكريّة”، مشيرًا إلى من قد يعارض ذلك، قائلًا بالحرف: “هؤلاء الناس خطرون ولا يمكن مقاومتهم دون جيش وأمن”.. في نموذج من تصريحات يقول عبّو إنها كانت دعوة للصرامة في وجه الفساد الذي أفرغ الثّورة من محتواها، وليست دعوة لأي دكتاتوريّة.

الحقل والبيدر

بقطع النظر عن دقّة القراءة النقدية للمواقف المساندة لإعمال الفصل ثمانين من دستور ألفين وأربعة عشر، ولما قيل بعد ذلك عن “تنسيق ضمني” داخل مسار الخامس والعشرين من يوليو/تموز بين حزب “التيار الديمقراطي” ومن تصفها المعارضة بمنظومة الانقلاب في تجلياتها السياسيّة والصّلبة، فإنّ الجليّ في خطاب رموز الحزب هو أن خلافه مع الرئيس سعيّد لم يكن يتعلق بإقفال عشريّة الانتقال الديمقراطي وما يعنيه ذلك في الجوهر من إقصاء وتهميش للإسلاميّين الذين كرّس عبّو جهده لإثارة ملفّات فساد ضدّهم، وهم الذين ساندوه طيلة محنته النضاليّة أيّام الرئيس الرّاحل بن علي، لم يكن الخلاف يتعلق بذلك، وإنما بكيفيّة إدارة الحكم في الحقبة الجديدة.

إذ اصطدم حزب “التيار الديمقراطي” كما هو الحال مع أحزاب أخرى بالغت في الفرح بإجراءات الرّئيس التونسي والتّسويق لها، اصطدم كلّ هؤلاء بحكم رئاسيّ مطلق الصلاحيّات لم يُبدِ القائم عليه الاستعداد يومًا للعمل المشترك مع أي طرف حزبي، مظهرًا ضربًا من الازدراء لكل الأجسام السياسيّة الوسيطة بين الحاكم والمحكوم ومراهنًا على التواصل المباشر مع عامة الشّعب من خلال الجمع بين دور الرّئيس والمعارض، متحدثًا طيلة الوقت عن النقائص والإخلالات، دون أن يقود ذلك إلى تغيير حقيقي ملموس إلى الآن، وهنا قطب الرحى الذي دار عليه تقرير منظمة “أنا يقظ”.

داخل هذا الإطار من العلاقة بين الأحزاب والرّئيس سعيّد وما شهده من تقلّبات في المواقف، يدرج متابعون الخطّ البيانيّ لموقف منظمة “أنا يقظ” من الحاصل الذي استقرّت عنده العهدة الرئاسيّة الأولى للرئيس سعيّد، وسط خشية من أن يكون ما ورد في تقرير المنظمة حقًّا سياسيًّا واقتصاديًّا وحقوقيًّا يراد به باطل حزبيّ ضيّق تعبر عنه واجهة جمعياتيّة.

لا شك في أن “أنا يقظ” تنفي هذه الصّورة المتعلقة بها جملة وتفصيلًا، وتتمسّك باستقلاليتها التي هي رأسمالها الأهمّ في أداء المهمّة التي تعمل لأجلها، كما أنه لا شك في أن التّجربة التي مرّ بها “التيار الديمقراطي” لم تُبقِ الحزب على حاله، فلقد توارى إلى حدّ ما الثنائي عبّو، ليبرز القيادي غازي الشواشي الذي راج كلام كثير حول معارضته للخط الذي فرضه “الزوجان” على الحزب.

بيدَ أنّ المناخ السياسيّ الذي هيمن على البلاد تحت حكم الرّئيس سعيّد لم يمهل الشواشي كثيرًا فسارع به على سجن “المرناقية” بتهم خطيرة من قبيل التآمر على أمن الدولة، ولم يتمتع الرجل برحابة الصدر التي يتمتع بها مع محمّد عبو الذي عاد ليطلق تصريحات نارية بين حين وآخر في حق الرّئيس سعيّد ومنظومة الحكم التي أرساها، دون أن تناله (وهذا ما لا نتمناه) أي ملاحقة قضائيّة كتلك التي أحصت على غيره الحركات والسّكنات واعتقلته على خلفيّة مواقف وتصريحات أخفّ بكثير جدًّا من تلك التي يستمرّ الوجه التاريخي لحزب “التيار الدّيمقراطي” في إطلاقها بين فينة وأخرى.

استحقاقات مفصليّة

إذا كان الجميع تقريبًا بمن فيهم الرئيس قيس سعيد نفسه يُجمع على أن البلاد تمرّ بمرحلة مفصليّة ومصيريّة، فإنّ هذا الجدل يشير بشكل صارخ إلى أنّ التّشخيص في تونس يجب أن يكون سابقًا عن العلاج.

وهو ما يفترض تحرير هذا المطلب من الغرض السياسيّ المباشر، ذلك أن أزمة البلاد كما يقول الجميع خطيرة وعميقة وذات تداعيات فادحة، وهو ما يعني أنها بنيوية لا ينفع معها أن تختزل في رحيل شخص أو بقائه، مادام المنوال السياسي والاقتصادي والحقوقي على حاله، تختلط فيه على نحو ضارّ الدّولة بالفرد والأجهزة بالسّياسات والإدارة بالولاءات، والأحزاب بالواجهات التي يفترض بها أن تكون مستقلة.

علاوة عن استقالة النخب الأكاديميّة التي يُنتظر منها أن تتحلّى بمقدار من الأمانة والشّجاعة لتواجه الجميع بحقائق الواقع مهما كانت مريرة، على نحو يقطع الطريق على الشعوبيّة وسياسة صناعة “القطيع” وتعليفه بالشّعارات الرنّانة والوعود البرّاقة الكاذبة.

صحيح أن المحطة الانتخابية تتعلق بها ملفات مترشّحين وأحكام قانونيّة ومناخ ديمقراطي محمول عليه توفير ضمانات منافسة شريفة ونزيهة، لكن كل ذلك سيبقى مجرّد معايير شكليّة على أهميّتها الحاسمة كمسطرة ديمقراطيّة حقوقيّة لن نخترع العجلة من جديد بشأنها، في حال أغفلنا ما وصلت إليه الديمقراطيّات العريقة من أنّ الحياة السياسيّة بما تتضمّنه من انتخابات تعتبر اختبارًا لمدى قدرة مجتمع ما ودولته على إظهار النّضج المدني والسّياسي والالتزام بمظلة قيميّة صالحة ومناسبة والتزام منسوب من الوطنيّة الصّادقة يقدّم الصّالح القومي على أيّ اعتبار أضيق منه.

ما يعني أنّ للحياة السياسيّة وللعمليّة الانتخابيّة ضمنها، روحًا كما هي روح القوانين، لا تقل قيمة عن الشّكليات ولا قيمة للشّكليات دونها، وهنا تصبح المكاشفة والمساءلة أوسع من العهدة الرئاسيّة ومن شخص الرّئيس، ذلك أنّها وأنّه نتاج لواقع لن يتغيّر إلا بتغيير بناه العميقة وهو المعنى الأعمق للثوريّة.

هذا في حال أرادت واختارت تونس العودة إلى روح ثورة 2010.. وهي ليلى التي يدعي الجميع بها وصلًا.. بمن فيهم الرئيس سعيد نفسه، المتّهم من قبل خصومه باستغلال إخفاقات وارتباكات الثّورة للانقلاب عليها وعلى منجزاتها.. وهو ما ينفيه الرّجل ليل نهار.. في جدل يفرض السّؤال عما إذا سيتمّ حلّه وتجاوزه داخل الديمقراطيّة أم خارجها.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version