لم تُرضِ الإجراءات السياسية التي أقدم عليها الرئيس الكيني في إعادة تشكيل الحكومة وإشراك المعارضة، جيل الشباب المعروف بـ “جيل زد” (Gen Z)، الذين دشنوا جولة جديدة من الاحتجاجات يوم الخميس، 8 أغسطس/آب 2024، تزامنت مع أداء الحكومة الجديدة القسَم. حملت هذه الاحتجاجات اسم “ناني ناني” والتي تعني “ثمانية ثمانية” باللغة السواحلية.
وعلى الرغم من أن احتجاجات هذا اليوم لم تحظَ بنفس قوة وزخم الاحتجاجات التي شهدها شهرا يونيو/حزيران ويوليو/تموز الماضيان، إلا أنها أعادت إلى السطح تساؤلات جوهرية حول حدود هذه الاحتجاجات، وهدفها النهائي، ومن يقف خلفها؟ وهل بدأ زخمها في التراجع فعليًا أم أنها ستعاود الصعود من جديد؟
اتهامات لنائب الرئيس
بدأت التوترات مبكرًا بين الرئيس وليام روتو، المنحدر من قبيلة “كالنجين” ثالث أكبر قبائل كينيا، ونائبه ريغاثي غاتشواغوا، الذي ينتمي إلى قبيلة “الكيكيو” الكبرى عددًا ونفوذًا في البلاد، وذلك عقب تعيين روتو لموساليا مودفادي رئيسًا للوزراء ووزيرًا للخارجية، وهي خطوة رآها غاتشواغوا محاولة لتحجيم دوره وتقليص صلاحياته. إذ إن منصب رئيس الوزراء لم يكن موجودًا في الدستور الكيني، إلا أن روتو منح مودفادي صلاحيات واسعة، ما أثار حفيظة غاتشواغوا الذي بدأ بحشد قيادات منطقة جبل كينيا التي ينحدر منها، مما اعتُبر بداية لحرب باردة بين الرئيس ونائبه.
ومع اندلاع احتجاجات الشباب في 18 يونيو/حزيران الماضي، ثارت التكهنات حول الجهات التي تقف وراءها. ففي كينيا، حيث تتحكم القبائل ورجال المال والسياسة والدين في المشهد السياسي، يصبح من غير المستبعد أن تكون تلك الاحتجاجات مدفوعة من قِبَل أطراف ذات نفوذ.
في البداية، وجهت الحكومة أصابع الاتهام إلى المعارضة التي يقودها السياسي المخضرم رايلا أودينغا، والرئيس السابق أهورو كنياتا. ولكن المفاجأة كانت في توجيه الاتهامات أيضًا إلى نائب الرئيس ريغاثي غاتشواغوا، الذي بدوره انتقد رئيس جهاز المخابرات الوطنية نور الدين حاجي، أحد أبرز حلفاء الرئيس، متهمًا إياه بالتقصير في تقديم المعلومات الصحيحة حول حجم الاحتجاجات. مما دفع رئيس جهاز المخابرات إلى إصدار بيان يرفض فيه اتهامات غاتشواغوا، ملمحًا إلى أن الجهاز يمتلك معلومات تشير إلى دعم غاتشواغوا للاحتجاجات.
هل ستؤدي الاحتجاجات إلى إقالة الرئيس الكيني؟
في تاريخ كينيا السياسي، لم يسبق أن تم عزل أي رئيس من منصبه. وقد سعت المعارضة بقيادة رايلا أودينغا في عام 2023 إلى جمع 10 ملايين توقيع لإقالة الرئيس وليام روتو، لكن سرعان ما تبين أن تلك الجهود غير دستورية، ولا تتعدى كونها وسيلة للضغط على الرئيس لتقديم تنازلات سياسية.
وبالعودة إلى الدستور الكيني، نجد أن هناك طريقتين لعزل الرئيس:
الأولى، وفق المادة 144/8، تتعلق بعدم الأهلية وعدم القدرة البدنية والعقلية لأداء المهام الرئاسية. يمكن لأحد أعضاء البرلمان أن يقدم اقتراحًا بالعزل، فإذا حظي بدعم 25% من أعضاء البرلمان، يتم إبلاغ رئيس المحكمة العليا، ويُشكل فريق من 5 أعضاء، بينهم شخص يرشحه الرئيس. وإذا خلص التقرير إلى عدم قدرة الرئيس على أداء مهامه، يصوت البرلمان على التقرير، فإذا كانت النتيجة بالإيجاب، يتم عزل الرئيس.
أما الثانية، فهي الإقالة عن طريق العزل وفق المادة 145/1، حيث يجوز لأي عضو في البرلمان التقدم باقتراح لعزل الرئيس، ويجب أن يؤيد الاقتراح ثلث الأعضاء على الأقل بناءً على الانتهاكات الدستورية أو سوء السلوك. وإذا حصل الاقتراح على دعم ثلثي الأعضاء، يُرسل القرار إلى مجلس الشيوخ الذي يقوم بالتحقيق في الاتهامات. إذا حظي تقرير اللجنة بدعم ثلثي أعضاء مجلس الشيوخ، تتم إقالة الرئيس. لكن احتمالية حدوث هذا السيناريو ضئيلة نظرًا لامتلاك التحالف الحاكم أغلبية في البرلمان.
السيناريو السريلانكي والبنغلاديشي
مع تصاعد حدة الاحتجاجات ووصولها إلى مبنى البرلمان ومباني مقاطعة نيروبي يوم 25 يونيو/حزيران، وتهديد المحتجين بمسيرة مليونية لاحتلال القصر الرئاسي، بدت الأمور وكأنها تتجه نحو سيناريو مشابه لما حدث في سريلانكا وبنغلاديش. وأصدرت السفارات الغربية، بما فيها السفارة الأميركية، تحذيرات من احتمال انزلاق البلاد نحو الفوضى. إلا أن قادة الاحتجاجات تراجعوا في اللحظة الأخيرة، كما قامت السلطات الأمنية بنشر قوات من الشرطة والجيش لتأمين القصر الرئاسي.
ولكن، مع إعلان الحكومة الجديدة ذات القاعدة العريضة، التي ضمت 12 وزيرًا، منهم 4 وزراء من المعارضة و5 من المستقلين التكنوقراط، والإصلاحات التي وعد بها الرئيس، ومنها تشكيل لجنة لمراجعة الديون وزيادة الوظائف للشباب، بدأت وتيرة الاحتجاجات تتراجع. ولكن لا يمكن الجزم بأنها قد انتهت تمامًا، فقد تشتعل من جديد، وتعيد البلاد إلى حالة التوتر وعدم اليقين.
والخلاصة أن احتجاجات “جيل زد” (Gen Z) قد غيرت المشهد السياسي في كينيا إلى الأبد، حيث أثبتت أن الشباب قادرون على تحدي الهيمنة السياسية التي دامت لعقود طويلة، مما يعكس قوة جيل جديد يصعب تجاهله أو القفز فوق طموحاته.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.