يجسد نجاح الثورة السورية في إسقاط نظام سياسي امتد حكمه أربعًا وخمسين سنة، لحظة تاريخية مفصلية في تاريخ سوريا والمنطقة، ولذلك فإن ما حدث قد يحمل معه حتمًا تحولًا إستراتيجيًا في مسار الإقليم برمته، بالنظر للموقع الجيوسياسي التي تحتله سوريا في خريطة المنطقة.

فنجاح الثورة سيؤدي بالضرورة إلى تفكيك التوازنات التي ظلت قائمة بسوريا والمنطقة عقودًا من الزمن، وخسائر إستراتيجية كبرى لفاعلين مؤثرين في الإقليم، ومعها البدء في إنشاء توازنات جديدة، قد لا تظهر معالمها الآن، لكن استكمال مسار الانتقال السياسي، سيجعلنا مستقبلًا أمام وضع جديد.

الخسارة الإستراتيجية لإيران

أضحت سوريا في السنوات الأخيرة، منطقة جغرافية لتقاسم النفوذ والصراع بين القوى الدولية والإقليمية، وبقي النظام مجرد واجهة وغطاء سياسي لأدوات الهيمنة التي وظفت فيها المليشيات العابرة للحدود بالنسبة لإيران في مشروعها الإقليمي. أو باعتباره قاعدة متقدمة لروسيا على البحر الأبيض المتوسط، أو لدعم قوات سوريا الديمقراطية وتغذية حلم الانفصال للمناطق الكردية مع الولايات المتحدة الأميركية.

في ظل هذا التجاذب الإقليمي والدولي، فإن خسارة إيران لسوريا، تعد خسارة إستراتيجية لم تتعرض لها طهران في تاريخها السياسي المعاصر منذ حرب الخليج الأولى، وقد تؤدي ارتدادات ذلك حتمًا إلى تقلص النفوذ أو المشروع الإيراني وتراجعه في عدد من دول المنطقة التي بسطت نفوذها عليها من خلال أذرع عابرة للحدود.

يكمن حجم خسارة إيران الإستراتيجية بالنظر للموقع الذي تحتله سوريا ضمن مشروعها، ونظرًا للكلفة التي أنفقتها لبناء خط اتصال بري ينطلق من طهران ويربط عددًا مما يسمى “دول المحور” بعضها ببعض، ويتيح لإيران وأذرعها حرية التنقل والتحكم أو الهيمنة، مما فرض وضعًا جيوسياسيًا يخدم المصالح الإستراتيجية الإيرانية، وقد ظلت إيران الفاعل الرئيسي فيه والمستفيدة منه في الصراع مع خصومها.

لقد كان التدخل الإيراني في عدد من الدول محكومًا بنزعة الهيمنة والتوسع، حيث أتى على حساب دول عربية كانت مدنها عواصم تاريخية للحضارة العربية والإسلامية، ومهما رفعت إيران من الشعارات والخطابات السياسية في وجه النزعة الاستعمارية الغربية، فإنها قد أعادت إنتاج نفس السلوك الاستعماري في العراق، وسوريا، وغيرهما، وعملت على تغذية النزعة الطائفية في المجتمع، وتقويض الدول وجعلها تحت رحمة المليشيات أو الأذرع التي تدين لها بالولاء المذهبي والسياسي.

وبكلمة هنا، كان الوضع الجيوسياسي من خلال الأذرع العابرة للدول، يحمي المركز الذي هو دولة إيران، ويجعل الصراع في مجال حيوي أو عمق إستراتيجي يقع في دول المنطقة التي تشكل حدودها حاجزَ حماية أو مجالَ اشتباكٍ مفتوحٍ، متقدمٍ، بعيدٍ عن المركز، فكان من نتائجه صناعة دول فاشلة مفككة في نسيجها الاجتماعي، بما يسهل الهيمنة عليها، وتحت حكم استبدادي شمولي النزعة، أو حكم بصبغة طائفية، وهو الآخر يتوسل بأدوات الاستبداد في حق المكونات الأخرى، ويقوض الدولة والمجتمع، ويجعلهما – هامشًا – في خدمة المركز الذي هو مشروع إيران.

يمكن القول، إن إسقاط نظام الأسد، وتحرير دمشق، أدى بالتبع إلى انهيار كبير في المشروع الذي شيدته إيران بالمنطقة العربية على عقود من الزمن، وقد يؤدي مستقبلًا إلى انحساره في بقية الدول، لا سيما إذا شاعت الروح التي عبّر عنها ثوار سوريا والأفق السياسي الجامع الذي ينشدونه في خطابهم ومواقفهم، أي بناء دولة تستوعب التعددية، وخالية من المحاصصة، ومن انتشار السلاح خارج سلطة الدولة والقانون، والأهم من ذلك أفق الحرية في مستقبل سوريا.

ذلك سيكون من دون شك، حافزًا للشعوب الأخرى ودافعًا لها، وهو دافع للدول التي تقع تحت سلطة المليشيات للتخلص من نزعة المحاصصة القائمة، التي تضعف الاجتماع السياسي، وتجعل مقدرات الدول وإراداتها رهينة بأيدي قوى خارجية إقليمية أو دولية، كما أنه دافع لبقية شعوب المنطقة التي أجهضت ثوراتها للتعبير عن تطلعاتها مستقبلًا.

المنطقة العربية بين مخاوف الأنظمة من العدوى وتطلعات الشعوب إلى الحرية

مما لا شك فيه أن سقوط نظام الأسد كان خارج المتوقع عربيًا، إذ كان يتم إعادة تأهيله من جانب أطراف عربية، ومن خلال الجامعة العربية نفسها، وهو ما انعكس في الموقف الحاد من الثوار في الإعلام ومواقف بعض الدول، التي اكتشفت بشكل متأخر، أن النظام الذي كان يتم تلميعه أو التواصل معه من أجل دعمه قد رحل فعلًا، وأن ما جرى هو نجاح فعلي للثورة السورية في إسقاط شبح سياسي ظل جاثمًا على صدر السوريين عهودًا طويلة.

ولا يخفي عدد من الدول المعادية للحرية والديمقراطية والتي ظلت تراعي الثورات المضادة طيلة السنوات الماضية، أن ما جرى يشكل تهديدًا ضمنيًا لها، مما قد يحمله التغيير الحالي من إمكانية تجديد روح الثورات لدى شعوب المنطقة.

قابل النظام الرسمي العربي نجاح الثورة السورية، بكثير من التردد والخوف، وهو في واقع الأمر ليس خوفًا وقلقًا على سوريا، وإنما خشية اتساع بقعة الزيت على كامل الجسم العربي، ولذلك نجد أن بيان اجتماع وزراء الاتصال العرب في العقبة لم يواكب الديناميات السياسية السريعة التي جرت بسوريا.

وهو في العموم؛ على الرغم من أهميته في فكّ بعض العزلة الدولية عن سوريا الجديدة، واتخاذه موقفًا واضحًا من الاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي السورية وتوغلها في الجولان، فإنه من جانب آخر، لا ينتمي للزمن السياسي الراهن ومتغيراته المستجدّة على الأرض السورية، فمع إسقاط نظام الأسد، أصبح القرار الدولي 2254 جزءًا من الماضي.

بالنظر إلى الحركة الدبلوماسية الإقليمية والدولية الكثيفة التي أعقبت تحرير دمشق، بين عمّان، وبغداد، وأنقرة، وغيرها، والتي انتهت إلى بيان بدون روح سياسية تواكب المرحلة الجديدة، إذ يشكل الامتثال التام لهذا التوجه؛ دون مناورة أو خلق بدائل أخرى، إفراغًا للعمل الذي أنجزه الثوار السوريون، من مضمونه وأفقه السياسي، وإدخال سوريا متاهة وصاية دولية، قد لا تنتهي، بل تكون مدخلًا لإحداث انقسام سياسي في لحظة حرجة، ستكون تبعاتها شبيهة بما حدث في لبيبا، التي بقيت في منزلة بين المنزلتين.

يمكن القول في هذا السياق، إن الدور التركي والقطري، بالإضافة إلى السعودية التي تتباين مواقفها عن مواقف دول أخرى، سيشكل دعامة أساسية للسلطة الجديدة في سوريا، سواء في فك العزلة الدولية والإقليمية، أو في كبح التدخلات الساعية لإفشال المسار الانتقالي بسوريا، وإدخاله في دائرة العنف أو الانقسام السياسي والاجتماعي الحاد.

لقد حملت الثورة السورية في حلتها الحالية وفيما أسفرت عنه، تغييرات جيوسياسية كبرى في الإقليم والمنطقة العربية:

أولًا: على مستوى الإقليم

منحت تركيا دورًا رياديًا، وستجعلها فاعلًا مركزيًا في مستقبل المنطقة، وبصيغة أخرى؛ إن ما حدث كان من ثمار التنسيق بين تركيا ومكونات الثورة السورية في الشمال السوري، من منطلق حتمية الجغرافيا واكتواء تركيا بلهيب الثورة السورية. هذا التنسيق سيؤدي بالضرورة إلى شراكة إستراتيجية بين تركيا وسوريا ذات الموقع الإستراتيجي في المنطقة العربية.

نسجل هنا، أن علاقة تركيا بالمنطقة العربية تختلف عن الدور الإيراني، إذ يمكن أن تثمر العلاقات التركية العربية بناءً يحقق مكاسبَ للطرفين، وتبادلَ خبرات، وتعاونًا مشتركًا يخدم الاستقرار السياسي والمجتمعي دون أن يضرّ ذلك بالسيادة، على عكس الدور الإيراني الذي يقوض الدول لصالح المكونات التابعة لها، بل إن إستراتيجيتها قائمة على زرع الانقسام الحاد بين مكونات المجتمع الواحد.

إن تحديات الإقليم في اللحظة الراهنة، تفرض تعاونًا أكبر بين تركيا، وقطر، والسعودية بسوريا، وقد يكون مستغربًا لدى البعض، الحديث عن دور إيجابي للسعودية في سوريا على الرغم من مخاوفها السابقة من الربيع العربي، لكن تحرير دمشق قد حرّر الرياض كذلك من الضغط الذي كانت تمثله إيران عليها، ولذلك فإن استكمال مسار الانتقال وبناء سوريا الجديدة، بحاجة إلى مركز الثقل السعودي للحيلولة دون التدخل السلبي لأطراف أخرى في المنطقة تتوهم القوة، وتحمل روحًا معادية للحرية والاستقلال الذاتي، وتستثمر في كل الوسائل المتاحة لتقويض مسار الدمقرطة والتحديث، كما أنه سيمنحها استعادة دورها الإقليمي المؤثر إيجابًا.

ثانيًا: المنطقة العربية

سبق أن أشرنا إلى جملة من المخاوف والهواجس التي تقلق الساسة العرب من إسقاط نظام الأسد، إذ إن الحادث في مسار التاريخ ووعي الشعوب، ينتج حتمًا ارتدادات ويخلق طاقة جديدة لإرادة التغيير وتجديد الإيمان بأفق الحرية والديمقراطية والكرامة الذي تمّ وأده بلغة القوة والنار، أو بالالتفاف الناعم كما جرى في عدد من الدول العربية.

إن تحقق الحرية منجزةً على أرض الواقع، وزوال الأنظمة المستبدة، هي مسألة حتمية في المنطقة العربية، وكل المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية تتجه في هذا المنحى، لذلك فإن المطلوب عربيًا، بالإضافة إلى دعم سوريا من الجامعة العربية والحراك الدبلوماسي الإيجابي للدول في المنتظم الدولي، أنه تبدو الحاجة ماسة إلى مصالحة الأنظمة لشعوبها لتجاوز الاحتقان السياسي والاجتماعي.

ينبغي إجراء مصالحة داخلية في معظم الدول العربية بين الأنظمة والفاعلين والنخب السياسية، تسفر بالضرورة عن إطلاق عملية سياسية تزرع الروح في الأنساق السياسية المتهالكة، وتوفر مناخ الحرية وحق الممارسة والنقد السياسي، أي إنهاء حالة العسكرة في الحياة السياسية العربية أو التأميم الذي يُخضِع له الفضاءين؛ الخاص والعام، وبموجب ذلك تنتهي محن عشرات الآلاف من السجناء والمنفيّين عن أوطانهم.

إن الانخراط في المصالحة والحوار السياسي والمجتمعي في عدد من الدول وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، هو فضيلة وحكمة ينبغي أن تكون أهم درس مستخلص من سوريا، غير ذلك فإن ما تزرعه السلطويات سيكون حصادًا مؤلمًا وموجعًا في المستقبل.

دمشق وممكنات الاستئناف العربي للنهوض

يقدم لنا البعد الحضاري والتاريخي مدخلًا مهمًا لفهم دور دمشق في مجرى التغييرات الكبرى في الحضارة الإسلامية، ومن ثم فإن تحرير دمشق بالإضافة إلى أهمية موقعها الجيوسياسي في المنطقة؛ هي مسألة رمزية كثيفة المعنى في الوجدان والوعي العربي والإسلامي، ومن ثم فإن استكمال مسار الانتقال السياسي من الثورة إلى الدولة في سوريا، سيسفر حتمًا عن تغيرات جوهرية في الإقليم برمته، بدءًا من التقدم والحرية والاستقلال، وانتهاء باسترداد الحق الفلسطيني.

إن في ذلك استبطانًا لدروس يحملها التاريخ، لكن جغرافيا المكان، وباعتبار سوريا نقطة التقاء وتقاطع ديني وثقافي واجتماعي مع كل دول ومكونات الإقليم، يمنحها ذلك زخمًا خاصًا في الأدوار التاريخية الكبرى، وهذا ليس حديثًا من أحاديث النبوءات، ولكنها وقائع التاريخ ودينامياته الفاعلة منذ فجر الحضارة العربية والإسلامية، مرورًا بكل الهجمات التي تعرض لها كيان الشرق الحضاري، ومسار الربيع العربي الذي انتهى في سوريا برحيل نظام قمعي لا مثيل له، يعد بالأصالة معركة تحرير ومحاولات نهوض حقيقية تخوضها شعوب المنطقة منذ قرنين تقريبًا بأشكال وأساليب متنوعة من المدافعة، كانت مجسدة مع الاستعمار بداية، ثم لاحقًا مع الاستبداد.

إن هذه الرمزية والموقع الجيوسياسي الذي تحتله سوريا في قلب المنطقة العربية، يجعلانها في صلب تحديات كثيرة قد تعيق الانتقال السياسي وتغرق القوى الفاعلة الآن في تناقضات ثانوية، لذلك فإن الفاعلين الجدد بحاجة إلى ذكاء سياسي وإستراتيجي خاص في مرحلة بناء دولة المواطنة التي تستوعب الجميع، يختلف في طبيعته عن طبيعة التخطيط والقدرة على إنجاز تطلعات الشعب السوري في مرحلة التحرير.

ختامًا: لقد كان مسار الثورة السورية شاقًا ومكلفًا، كما حمل السوريون معهم آلامًا لا حصر لها مع السجن الكبير الذي شيده نظام سياسي حمل كل صفات السوء، لكن بحجم المعاناة التي قدمها السوريون قد يكون الكسب في معركة الحرية والتقدم كبيرًا، وقد يمتد أثر ذلك إلى كل المنطقة التي تتشوف إلى الثورة السورية باعتبارها انعطافة منحت بارقة الأمل للشعوب العربية في زحمة الظلم، تستخلص منها العبر وتأخذ الدروس من أجل نهضتها التي تستلزم بناء نسق المواطنة والحرية.

ولا يسعنا هنا إلا أن نتذكر أحد أبرز أعلام حلب الشهباء، الذي قرن التقدم وتحقيق النهضة بالتخلص من الاستبداد، ونقصد عبدالرحمن الكواكبي الذي يعد كتابه “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد”، صرخة ألقاها مطلع القرن العشرين وما تزال تحمل قدرتها التفسيرية إلى الآن، وبذلك يتحقق الاستئناف العربي الإسلامي للنهوض.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version