يُحكى في كتب التراث أنّ أحد الملوك أمر في مجلسه بصرف مكافأة مالية لشاعر ألقى أبياتًا في مدحه؛ غير أنّه، وفي الوقت نفسه، همسَ في آذان خَدَمه أن يصرفوا الشاعر دون أن يعطوه شيئًا. فلما انفضّ المجلس ورأى علامات الحَيرة بادية على وجوه الخَدم، ولسان حالهم يتساءل: كيف يأمر بصرف المكافأة للشاعر في العلن، ويأمر بعدم تمكينه منها في السرّ؟، قال الملك موضحًا حقيقة الموقف: “لقد أعطانا كلامًا فأعطيناه كلامًا”.
نجد في قول الملك؛ “أعطانا كلامًا فأعطيناه كلامًا” تعبيرًا قويًا عن حالة من الحالات الأكثر تجسيدًا لمأزِق من مآزق التواصل، حيث يظل الكلام كلامًا، لا يفضي إلى شيء يكافئه على أرض الواقع كما يريده المتكلم.
ومِثلُ قولِ الملك، قولُ أحد الشعراء:
كلما قُلتُ قال أحسنت زدني وبأحسنت لا يباع الدقيق
يصبّ هذا البيت في المعنى نفسه الدال على وجود فجوة بين الكلام من جهة، وبين المصلحة التي يرمي إليها المتكلّم من جهة ثانية. في الحالتَين المذكورتَين، يقف السلطان أو السلطة المتحكّمة، في وجه مصلحة المتكلم.
إنّ الباعثَ على هذه التوطئة، كان هو جملة أسئلة متعلّقة بالمجتمعات الديمقراطية وتفاعلها مع القضية الفلسطينية منذ نشأة دولة إسرائيل، حيث لم يكن هذا التفاعل- في أحسن الأحوال- إلا كتفاعل من يعطي كلامًا مقابل كلام.
كانت الديمقراطية الأميركية، على وجه الخصوص، تتوسّل بوسائل الإعلام لتوحي بوجود إجماع ثقافي يلتمس منه مبرّرات لكل ما تقوم به إسرائيل من جرائم شنيعة ضد الإنسان الفلسطيني
كل القرارات الأممية، وكل توصيات القمم، وبنود الاتفاقيات ظلت حبرًا على ورق، أو كلامًا لا شيء يُصدِّقه على الواقع. فالاحتلال هو الاحتلال، والمستوطنات هي المستوطنات، إذا لم تكبر حجمًا، فهي لن تصغر، والتهجير هو التهجير، والتقتيل هو التقتيل.
فلعل هذا ما يبعث على التساؤل؛ إن كانت الديمقراطيات الغربية الحديثة، على ظاهر الاختلاف، أشبه بحكم الملك في كتب التراث الذي يعطي كلامًا مقابل كلام، أم أن آليات اشتغال الديمقراطية آليات مُختلفة؟.
لقد أوقعت إسرائيل الديمقراطيات الغربية- وعلى رأسها الديمقراطية الأميركية- في تناقضات يصعب الخروج منها، حتى صار مستساغًا طرحُ الأسئلة التالية: هل للديمقراطية مستقبل، أم هل نحن نعيش نهاية الديمقراطية؟ هل هناك وجوه اختلاف بين النموذج الديمقراطي الغربي، وبين نماذج الحكم في المجتمعات التراثية القديمة، أو في الدكتاتوريات الحديثة؟
لا شكّ أن لمفهوم الديمقراطية جوهرًا خاصًا يتميز به عن غيره من مفاهيم الحكم والسياسة والسلطة. فإذا كان السلطان في المجتمعات غير الديمقراطية يتوسط بين المتكلم والمصلحة، فيعطي إن شاء العطاء، ويمنع إن شاء المنع؛ ففي المجتمعات الديمقراطية يتحول الكلام إلى وسيلة بها يُرتَقى إلى مرتبة السلطان الذي يقرّر في أمر المصلحة.
فكلما كان الكلام أكثر إفحامًا وإقناعًا وتماسكًا، قوّض أركان سلطة ليؤسس قواعد سلطة جديدة، فيصبح بذلك قادرًا على بلوغ المصلحة، أو إن شئت قلت يصبح المصلحة ذاتها. بهذا ينبني التواصل الديمقراطي على أساس أن للكلام ما يقابله من مصلحة في الواقع، مصلحة تتخذ أشكالًا متعددة، كأن تكون عبارة عن تغييرٍ يلحق الواقع، أو مكسبٍ من المكاسب المادية أو المعنوية المشروعة.
في السابق، كان الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين يقوم على أساس إجماع تصنعه وسائل الإعلام، كما يلُوح لنا من خلال عنوان كتاب “تشومسكي” الشهير: (Manifacturing Consent). فقد كانت الديمقراطية الأميركية، على وجه الخصوص، تتوسّل بوسائل الإعلام لتوحي بوجود إجماع ثقافي يلتمس منه مبرّرات لكل ما تقوم به إسرائيل من جرائم شنيعة ضد الإنسان الفلسطيني.
وقد كان جوهر الفكرة التي يقوم عليها هذا الإجماع هو أن لإسرائيل- بوصفها ديمقراطية غربية- الحقَّ في الدعم الكامل، وغير المشروط من طرف الديمقراطية الأميركية، وغيرها من الديمقراطيات الغربيّة.
كان الاحتلال الإسرائيلي، من جهة أخرى، يستمد شرعيته من العلاقة القائمة بين “الثقافة والإمبريالية”، هذه العلاقة التي عمل إدوارد سعيد على تفكيكها. فما كان للعنف الإسرائيلي ضد الفلسطينيين أن يجد ما يبرره لولا الإبداعات الثقافية الأدبية والفنية والسينمائية التي تتمادى في شيطنة أعداء المجتمعات الديمقراطية، ونزع صفة الإنسان عنهم، وإقرار ضرب من البطولة في مخيلة المتلقي لهذه الإبداعات، بطولة تقوم على إفناء وإبادة هؤلاء الأعداء.
من يتأمل في المنتوج الثقافي الأميركي يصاب بالذهول لمنسوب العنف الذي يروج له، وهو عنف لا يقبل بشيء آخر غير إبادة موضوعه. فإسرائيل تستفيد من هذا العنف المُوَجَّه الذي يكاد لا يخلو من مجال من مجالات الإبداع المسمى ثقافيًا، سواء كان لعبًا إلكترونية للأطفال، أو أفلام خيال، أو قصصًا عن أنواع من البطولة العسكرية والتجسسية وغيرها.
لا جدالَ في أن أعمالًا من قبيل “صناعة الإجماع” أو “العلاقة بين الثقافة والإمبريالية” قد ساهمت في بلورة جهاز مفاهيمي مناسب لفهم طبيعة العلاقة بين الديمقراطية في الغرب، خصوصًا في أميركا، وبين الاستماتة في دعم إسرائيل. غير أنّ هذا الجهاز المفاهيمي لم يعد كافيًا لاستيعاب ما يحصل اليوم من تطوّرات جديدة على مستوى هذه العلاقة.
لفهم طبيعة ما يحصل اليوم على الساحة الدولية من تطورات في المواقف من القضية الفلسطينية، ومن حرب الإبادة الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني، قد نحتاج إلى فهم العلاقة بين “التكنولوجيا والإمبريالية”.
في حين يبدو لنا أن القضية الفلسطينية قد استعادت زخمها بعد السابع من أكتوبر وصارت تحظى باهتمام الرأي العام الدولي وتعاطفه عبر الثقافات، كما أصبحت تحظى بشبه إجماع داخل المؤسسات الدولية، وعلى رأسها مؤسسات الأمم المتحدة؛ يبدو لنا كذلك أن الديمقراطية الغربية، ممثلة في الولايات المتحدة الأميركية، لا تزال تصر على حرمان الجانب الفلسطيني من أبسط حقوقه الإنسانية، وهي تتمادى في دعمها إسرائيلَ دعمًا مطلقًا.
لا شكّ أن كثيرين يتساءلون: كيف تخاطر أميركا بصورة ديمقراطيتها أمام العالم، وهي تساند قضية غير عادلة، وتتماهى مع الموقف الإسرائيلي العبثي الممتنع عن الامتثال لمطالب وقف إطلاق النار على المدنيين العزل؟. الواقع أن الديمقراطية الأميركية لم تعد تكترث ببناء الإجماع، سواء بالداخل أو بالخارج. إن حرب أميركا على غزة، إلى جانب إسرائيل، تدخل في حروب “الهجنة” (Hybridity)، حيث يتم المزج الذكي بين معطيات الواقع والواقع الافتراضي.
لا يفوت الملاحظ لما يجري في السياق الأميركي، أنّ زمن الإجماع التقليدي حول ضرورة الدعم غير المشروط إسرائيلَ في صراعها مع الفلسطينيين قد ولّى، وأن شبه إجماع جديد حول عدالة القضية الفلسطينية، خصوصًا بين فئات الشباب، هو اليوم قيد التشكل.
لكن هذا الإجماع الجديد يظل قائمًا على مستوى الواقع الافتراضي بالأساس، تتناقله وسائل التواصل الاجتماعي التكنولوجية. ومن الواضح أن إنزال هذا الإجماع من الواقع الافتراضي إلى الفضاء العمومي المحسوس- حتى يصبح محركًا للتغيير في الموقف الأميركي- هو مربط الفرس.
لقد ساهم التطور التكنولوجي المذهل في انتقال الديمقراطية من مرحلة كانت تقوم فيها على حكم الأغلبية للأقلية وسلطة الرأي العام، إلى مرحلة جديدة أصبحت عندها ديمقراطية الأقلية التي تملك الأداة التكنولوجية.
بعد تقويض الفضاء العام التقليدي- حيث كانت خطوط التمايز بين الأغلبية والأقلية خطوطًا واضحة- دخلت الديمقراطية مرحلة فضاءات التواصل الاجتماعي، حيث تتولى الأداة التكنولوجية رسم هذه الخطوط.
لقد أصبح المالك هذه الأداةَ، يتولى أمر تشتيت الإجماع وتبديده داخل الفضاء الافتراضي، أو تنزيله إلى الفضاء الصلب، حيث يتم التغيير الحقيقي للواقع، وذلك اعتمادًا على ذكاء تكنولوجي فائق يحاكي ذكاء الأسماك والحشرات والطيور التي تتحرَّك في أسراب.
لعلّ هذا ما يفسر ما يحصل في الولايات المتحدة الأميركية اليوم من إخفاء للإجماع المتنامي حول عدالة القضية الفلسطينية في فضاءات التواصل الاجتماعي، واكتفاء المتحكّمين في الديمقراطية بسلطتهم التقديرية في تقديمهم الدعمَ غير المشروط لإسرائيل، سواء في شكل دعم مالي سخي، أو تزويد بالأسلحة الفتاكة دون المرور عبر المؤسسات الممثلة لإرادة الشعب الأميركي.
من الأمور المستغربة كذلك، أن يبلغ الأمر ببعض الناطقين باسم إسرائيل في السياق الأميركي والأوروبي حدّ مهاجمة الحشود من المواطنين التي تخرج تضامنًا مع غزة ووصفهم بالإرهابيين والمناداة بتهجيرهم وإخراجهم من رحمة الديمقراطية.
من يتابع كمّ المسلسلات والأفلام التي تصور بطولة الأقليات الناجية وهي تجهز على الأغلبيات المصابة بضروب من السعار المُعدي، لا يجد غرابة فيما يصدر عن الأقليات المساندة إبادةَ الشعب الفلسطيني، أو إبعادَ الملايين من المواطنين وتهجيرهم من الفضاء الأميركي أو الأوروبي. لقد أصبح صدر الديمقراطية الغربية يتسع لما لم يكن مقبولًا زمن الديمقراطية القائمة على الرأي العام وحكم الأغلبية، حتى صرنا نشهد تحريض الأقلية على الأغلبية.
لقد كَثُر من الحكومات الغربية عمومًا والأميركية خصوصًا ميلها نحو احتقار الرأي العام، والتقليل من أهمية صوت الأغلبية حتى أصبحت وكأنها تخلط بديمقراطيتها استبدادًا ودكتاتورية، فتطرد رؤساء جامعات من مناصبهم، وتقيم لهم محاكم تفتيش، كما تضيق على حرية الفكر، وتتوعد المخالفين في الرأي.
هذه الديمقراطية ماضية في إنكارها على الفلسطينيين ومن يساندهم تشبّثهم بمطلب الحرية وعدم القبول بالحياة داخل المخيم مثل الهنود الحمر. وهذه الديمقراطية لن تعطي الفلسطينيين، مهما تماسكت قضيتهم، إلا كلامًا في أحسن الأحوال.
لكن هذه الديمقراطية، كذلك، يبدو وكأنها تبلغ المنتهى الذي عنده تأتيها الرزايا من وجوه المكاسب.