قد يعجز الإنسان عن فعلٍ ما لتقدم في السنّ أو عدم توفر الخبرة أو القدرة، أما أن يكون صفة لصيقة بأمة أو شعب ما؛ فإنه بذلك يكتسب معنى عقليًا ووجدانيًا. التحرر من العجز عملية معرفية تجمع بين الوعي والشعور والإرادة، وتعيد تعريف حدود القوة المادية، وترسم أدوار الهياكل والبنى.

على ما يبدو، فإنَّ الدولة العربية الحديثة -بمؤسّساتها وشخوصها وأيديولوجيّتها وتحالفاتها الإقليمية والدولية- قامتْ على إشاعة العجز، وحتى تضمن استمرار الهيمنة، لابد أن يتسرب لمجمل شعبها. لقد كان فرض الثقافة واللغة والأعراف والتقاليد الاجتماعية والقانون والمؤسسات، محركُه الوصول إلى هذه الحالة. كانت إصابة الشعوب بالعجز عملية شاملة – مثل الاستعمار- تجعل ضحايا العجز لا يرون في أنفسهم مكامن القوة لتجاوزه.

إن إنهاء العجز – الذي كان يتعوّذ منه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – صباحًا ومساء: “اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل”- يعني إنهاء احتلال العقول والشعور (الوجدان)، والإرادة. صار العجز معنى إنسانيًا عامًا لا يخصّ العرب والمسلمين فقط، بل يشيعه أصحاب الحظوة في العالم من مالكي القوة والسلطة والثروات، وينشِئون له مؤسسات وتقاليد وبنى تضمن استمراره.

من هنا تأتي أهمية النموذج الانتفاضي – كما طرحه طوفان الأقصى- في تحريرنا من حالة العجز تلك؛ فهو يكتسب امتداده الإنساني المشترك، بالإضافة إلى خصوصيته الفلسطينية والعربية.

الإنسان والسيرورة والعدالة

سبق لكاتب هذه السطور أن عرضَ للنموذج الانتفاضي لثورات الربيع العربي بمناسبة مرور عقد عليها، وعاد إليه مع معركة سيف القدس 2021 ليثريه ويضيف إليه عناصر استجوبها الحدث. تجددت الفرصة مع “طوفان الأقصى” لمراجعة المفهوم مرة أخرى، وبيان الجديد الذي أضافه هذا الحدث.

ميزة المفهوم – كما تعلمنا صياغته من أستاذنا عبد الوهاب المسيري، رحمه الله، في كتابه عن انتفاضة 1987- أنه يملك قدرة تفسيرية لما يجري، ويخلق إمكانية تنبُّئِيّة لما سيكون في المستقبل، والأهم أنه قادر – من التفاصيل والوقائع- على استخلاص الجوهر والمعنى الكلي، فيسمح بالمراكمة والاستمرار. لكل نموذج انتفاضي حدوده في القدرة على التغيير، وهو ما سيكون مقالنا القادم بإذنه تعالى، على أن ينصب هذا المقال على سمات ثلاث له:

السيرورة لا تعني بعدًا زمنيًا فقط، ولكنها تمتد إلى سياقات أوسع، معركة “طوفان الأقصى” -في تقديري- إحدى موجات الربيع العربي التي انطلقت بداية العقد الماضي، ولاتزال مستمرة، وهي في الوقت نفسه جزء من النضالات العالمية الباحثة عن معنى العدالة في الزمن المعاصر

أولًا: الإنسان الذي نفخ الله تعالى فيه من روحه

يتبدّى ذلك في ثلاث ظواهر متكاملة:

  1. عدم القدرة على توقع سلوكه وتصرفاته، وامتلاكه قدرات وإمكانات يعجز عن تصورها (يشترك العجز والمعجزة في جذر لغوي واحد). وفق هذا التصور؛ فالأفعال الصغيرة التي يقوم بها عدد كبير من الناس يمكن أن تؤدي إلى نتائج نوعية كبيرة.
  2. تعقيد الدوافع والأسباب المحرّكة التي لا يمكن تفسيرها بشكل مادي فقط، وفي الوقت نفسه، لا يمكن إغفال الجوانب المادية منها.
  3. أخيرًا؛ الاهتمام بخصوصية الإنسان بصفته إنسانًا بأبعاده الفريدة المركّبة، وبخصوصية السياق الذي يعيش فيه. خصوصية الإنسان واختلاف سياقاته يعطيان للظواهر- وإنْ تشابهت في الدوافع والأشكال- تمايزًا واختلافًا في الخبرات والمسارات، وتصبح التشكلات التاريخية ومسار بناء الدولة وتكوينات المجتمع والاقتصاد وضرورات الجغرافيا السياسية، من محدّداتٍ عديدة، ترسم مسارات الفعل المقاوم وتمايزه من قُطرٍ إلى آخرَ.

ولا يعني ذلك، في أي حال، عدم وجود المشتركات والدروس التي يمكن تبادلها مع الإقليم أو العالم من حولنا.

وَفق هذا التصور يمكن فهم سبب تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم، وهو ظاهرة ليست جديدة، ولكنها نموذج في الفكر الصهيوني. تحدث الصحفي الإسرائيلي “جدعون ليفي” قبل عدة سنوات في واشنطن عن ثلاثة مبادئ يؤمن بها الإسرائيليون، وتجعلهم غير مرنين فيما يتعلق بصراعهم مع الفلسطينيين:

  • أولًا: الاعتقاد بأن الإسرائيليين هم “الشعب المختار”.
  • ثانيًا: الاعتقاد بأن الإسرائيليين هم الضحية دائمًا.
  • ثالثًا: الاعتقاد بأن الفلسطينيين أقل من البشر مقارنة بالإسرائيليين.

معركة نزع الإنسانية لا تخص الفلسطينيين وحدهم؛ بل تمتد لتشمل فئات وعناصر عديدة، مثل: (السود -السكان الأصليين- العرب- المهاجرين …إلخ). نزع الإنسانية هو المقدمة الضرورية لممارسة الانتهاك، أيًا كانت درجته وشكله.

أدركت ذلك مبكرًا من تجرِبة السجن: فالتوحش الإسرائيلي- كما نشهده الآن، والانتهاكات في حق المعتقلين أو ما أطلقتُ عليه الاستباحة- يكمن في نزع الإنسانية؛ تمهيدًا لسحب الشرعية القانونية -أي تكون إنسانًا بلا حقوق- فيسهل التعذيب أو الإبادة الجماعية أو التطهير العِرقي؛ لأنه حينئذ سيكون مبررًا أخلاقيًا وقانونيًا.

ثانيًا: السيرورة

وهي صيغة حاكمة لمجمل الفعل المقاوم للعجز، لذا فتِبيانُ الآثار بعيدة الأمد للطوفان- وكل فعل مقاوم يشبهه- سابق لأوانه، كما لا يمكن فهمه إلا في سياق تاريخي ممتد.

التفرقة القرآنية بين الفتح والنصر تزيد المعنى وضوحًا؛ فالفتح – كما في صلح الحديبية- تتحقق به نتائج إستراتيجية طويلة المدى -وإن بدت وقائعه على غير ذلك، في حين أن النصر والهزيمة مجرد معارك يقتصر تأثيرها على وقتها.

إن مفهوم المقاومة للنصر العسكري يدور حول تحقيق نتائج سياسية طويلة الأمد. إن المقاومة لا ترى النصر في عام واحد أو خمسة أعوام، بل من خلال الانخراط في عقود من النضال الذي يزيد من التضامن الفلسطيني، ويزيد من عزلة إسرائيل.

سيرورة المقاومة لا تجد معناها في الامتداد التاريخي فقط؛ بل هي نضالات مستمرة تخبو حينًا، ولكنها سرعان ما تعاود الفعل الانتفاضي بأشكال جديدة. من المهم التفكير في الطوفان باعتباره جزءًا من نضال الشعب الفلسطيني على مدار قرن أو يزيد، ونضالات الشعوب العربية نحو التحرر من العجز، وهو لا يمكن النظر إليه باعتباره حدثًا يمكن أن يفشل أو ينجح. فهْم البعد الزمني أمر حاسم في هذا القبيل؛ حيث إن إدراك تأثير الوقائع في مجمل عملية التحرر، يُكتب بأثر رجعي.

السيرورة لا تعني بعدًا زمنيًا فقط، ولكنها تمتد إلى سياقات أوسع، معركة “طوفان الأقصى” – في تقديري- إحدى موجات الربيع العربي التي انطلقت بداية العقد الماضي، ولاتزال مستمرة، وهي في الوقت نفسه جزء من النضالات العالمية الباحثة عن معنى العدالة في الزمن المعاصر.

القراءة التاريخية لانتفاضات الربيع العربي، هي أننا أمام إعادة تشكّل للتاريخ كله في المنطقة. نحن أمام تحولات تاريخية فاصلة، والطوفان إحدى محطاتها.

أوجه الشبه بين الطوفان والانتفاضات عديدة: هو تعبير عن امتلاك الشعوب والفواعل من غير الدول زمامَ المبادرة، في مقابل الحكومات العاجزة. عانى الطوفان -كما الانتفاضات- من ضعف السياسة وهشاشتها؛ فهي تعتمد على الممارسة وتتعلم مما يجري في الواقع. عجزت المقاومة – حتى الآن- عن أن تقدم خطابًا وطنيًا فلسطينيًا يجمع شتات الفلسطينيين وتنظيماتهم على صعيد واحد.

استخدام الرموز الدينية في الحشد والتعبئة أمر مفهوم، لكنه بالنسبة للفلسطينيين يطرح ضرورة تكوين مزيج وطني متسع يسمح بصياغة مبدعة لمكونات القضية، تجمع بين الديني والوطني والحقوقي ومناهضة الفصل العنصري والنيوليبرالية في نسيج واحد، ما يضمن الإجماع الوطني الواسع والتأييد العربي والإسلامي والدولي من مدخل حقوقي وقيمي إنساني واقتصادي.

التطبيع مع الكيان الصهيوني تقدمَ عندما كُسرت أو انكسرت الانتفاضات العربية، كما كان التضامن الجماهيري مع انتفاضات فلسطين -أوائل هذه الألفية- أحد البواعث الأولى للحراك العربي. يدفع الطوفان الآن ثمنًا باهظًا لضعف المساندة الشعبية العربية؛ نتيجة الإنهاك الذي تولد في مرحلة ما بعد الانتفاضات.

الحكومات العربية ومناصروها الإقليميون والدوليون يرون في الطوفان -كما الانتفاضات- تهديدًا وجوديًا لاستمرارهم؛ والمطلوب هو القضاء على هذا النموذج لمقاومة العجز تمامًا، وجعل تكلفته البشرية والمادية على الإنسان والحجر باهظة حتى لا يلهم أجيالًا جديدة.

هناك بعد آخر وهو العلاقة بين تحالف الثورة المضادة من أطراف دولية وإقليمية ومحلية وجوهر مشروعها النيوليبرالي، وبين قضية فلسطين. قضية فلسطين ليست من مسائل التحرر الوطني فقط؛ ولكنها أيضًا يجب أن تُفهم في إطار سياسات النيوليبرالية بامتداداتها الإقليمية والدولية والوطنية، فتكتسب بذلك أفقًا أوسع للنضال. التطبيع لم يكن مدخلًا لاستعادة نموذج الاجتماع الحضاري الإسلامي للتعايش بين الأديان والأعراق؛ بل سبيلًا لمزيد من التحالفات بين الرأسمالية الدولية وبين الفوائض المالية للنفط الخليجي.

الشعوب ليست خائفة من الهجمة الاستعمارية الجديدة، برغم افتقادها للتقديرات السياسية والعسكرية، لكن الحكومات -لأنها تملك جيوش الخبراء الإستراتيجيين- فهي عندها رهاب من استنساخ هذا النموذج. الشعوب ليست في حالة من الرهبة ولا هي أكثر خوفًا، حتى في الوقت الذي تقبع فيه حاملات الطائرات الأميركية على مرساها مستعدة للتدخل. قطاعات واسعة من سكان الدول العربية تشعر بالعجز الممتزج بالغضب، لكنها تتحرك بمقاطعة الشركات والمنتجات القادمة من أميركا وإسرائيل باعتباره أضعف الإيمان.

قال المتظاهرون العرب؛ إنهم بالإضافة إلى الشعور العميق بالهوية العربية والإسلامية المشتركة، فقد رأوا روابط بين التحرير الفلسطيني وتحررهم من القمع السياسي وسوء توزيع الثروة. هم يدركون مسؤولية الحكام عن سوء أوضاعهم المعيشية، كما يدركون تخاذل نفس الحكام عن نصرة إخوانهم الفلسطينيين. قام القادة الاستبداديون بموازنة الرأي العام الناقم على إسرائيل، مقابل الفوائد الاقتصادية والأمنية للعلاقات والتنازلات التي قد ينتزعونها من الولايات المتحدة، الحليف الأكبر لإسرائيل.

ثالثًا: محورية مفهوم العدالة

ترابط العالم يغذي أشكال التضامن العابرة للحدود، أو هكذا ينبغي أن يفعل، لكن الأهم أن له أدوارًا ووظائف متعددة، أهمها: التعلّم من بعضنا، وربط نضالاتنا ببعضنا، وأن نكون متيقظين للطريقة التي تعرّضت فيها الحركات التحررية في دول الجنوب والشمال على السواء للعدوان أو الاستقطاب أو التدجين.

في جميع أنحاء الجنوب العالمي وفي مدن الغرب، تحتل فلسطين الآن مكانًا رمزيًا باعتبارها تجسيدًا للتمرد ضد النفاق الغربي، ونظام ما بعد الاستعمار الظالم؛ أي ضد العجز الذي يراد له أن يشيع.

الترابط العالمي في النموذج الانتفاضي لا يخص شعبًا، أو قومية، أو أقلية، أو فئة مهمشة. هو له أفق عالمي ممتد. قلْب هذا النموذج انحياز قيمي للعدالة لمناهضة الفصل العنصري والإبادة الجماعية، وكل أشكال التمييز على أساس العرق، أو الأصل، أو الجندر أو الثروة.

مع العدالة أنت تنحاز للحياة، حيث يجب حماية الحياة للجميع. التكريم الإلهي كان لمجمل بني آدم وليس لجنس على حساب آخر.

جوهر العدالة الاتساق القيمي؛ فهو يطبق عليك وعلى غيرك. الاتساق القيمي يقتضي الاعتذار والمراجعة والتصحيح الذاتي إن حدث تجاوز في حق الآخرين، ولا يعني التأييد المطلق، وإنما مواقف مركبة ومعقدة. السابع من أكتوبر فعل مقاوم لمحتل، لكن التجاوز في حق المدنيين مرفوض. الترحيب بنصرة الحوثيين للفلسطينيين لا يعني ضرورة تأييدهم في موقفهم من الصراع في اليمن. نصرة ودعم حزب الله لا يعنيان غفران موقفه في سوريا.

شدة التعقيد

من الخصائص المميزة للقرن الواحد والعشرين، هي شدة التعقيد، بما يؤدي إلى تفاعل عوامل متعدّدة، مادية وقيمية، مع بعضها، وزيادة التواصل بين ملايين البشر، حيث يتأثر الكل بأفعال الآخرين في سياق عملية ديناميكية دائمة، فيتواصل التغيير والتعديل.

وفي النظم المعقدة، يمكن لفعل بسيط أو فرد واحد (محمد بوعزيزي أو مفجر الدبابة ميركافا) أن يغير النظام ككل، أو بعبارة أخرى، من شأن تحرّك فرد واحد أو جماعة صغيرة في نظام معقد متزايد الترابط أن يؤثّر في مجمل النظام بسرعة فائقة.

مع شدة التعقيد؛ يمكن لتحرّك واحد إطلاقُ حركة تغييرية شاملة للنظام ككل، بالإضافة إلى صعوبة التنبؤ به؛ فالظواهر دائمة التغير. أي حدث مهما كان كبيرًا أو صغيرًا، لا بد أن يتكشف عن خليط بالغ التعقيد من التأثيرات والأسباب والنتائج؛ جميعها مشروطة بالأخرى، ومتأثرة بها ومتوقفة عليها.

يصبح الانتهاك القيمي وعدم الاتساق الأخلاقي أكثر ضررًا عندما يكون روتينيًا، ويجري قبوله والتطبيع معه.

البوصلة الأخلاقية الملتوية تقوم على فكرة الاستثناء؛ الاستثناء للرجل الأبيض، وللرجل في مواجهة المرأة، وللألمان على حساب الأعراق الأخرى، لليهودي في مقابل الفلسطيني، والمسلم في مواجهة أتباع الأديان الأخرى.

مفهوم الشهادة القرآني: “لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا…”، يقوم على الاتساق القيمي لا الاستثناء لأتباع دين محمد- عليه السلام- حتى ولو لم يلتزموا قيميًا. في النهاية يظل الرسول -صلى الله عليه وسلم- شاهدًا عليهم، وكفى بالله شهيدًا على مدى الالتزام والاتساق القيمي.

الاستثناء، بحكم تعريفه، لا يسمح بمعيار عالمي واحد، بل بمعايير تفاضلية. يصبح بعض الناس بشرًا أكثر استحقاقًا، والبعض الآخر أقل استحقاقًا، والبعض الآخر لا يستحق.

هذا المنطق يغلق الحوار العقلاني ويضعف الوعي الأخلاقي. فهو يبني حاجزًا معرفيًا يمنعنا من رؤية معاناة الآخرين، مما يعيق التعاطف – على حد قول الباحث آصف بيات – المختص بشؤون المنطقة- في رده على المفكر الألماني الشهير هابرماس الذي ناقضَ أفكاره عن المجال العام حين أراد أن يحدد موقفًا من الطوفان.

شاركها.
Exit mobile version