تنقسم آيات القرآن الكريم لأقسام عدة حسب المحاور التي تتناولها، فهناك آيات تتعلق بالقصص القرآني، وآيات تتعلق بالحديث عن العقيدة، وآيات تتحدّث عن السلوك والأخلاق، وآيات تتعلق بالحديث عن الأحكام، سواء ما يتعلق بالعبادات، أو المعاملات منها.

وتمثل آيات الأحكام قسمًا كبيرًا من القرآن الكريم، فقد حاول بعض الفقهاء حصرها، حتى ذهب كثير منهم إلى أنها تصل إلى خمسمائة آية، وأرادوا بالآية هنا، كل جملةٍ تامة، أو جملٍ بينها رابطة – من ضمير أو عطف، أو نحو ذلك- صيّرتها كالجملة الواحدة، أفادت بظاهر منطوقها حكمًا عمليًا مجملًا أو مفصلًا، كما أوضح ذلك الإمام الزيدي المرتضى، في كتابه: (البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار)، وهو كتاب في الفقه الزيدي.

وهذا القسم من القرآن الكريم، له أهمية بالغة كما نرى، فمدار معظم التشريع الإسلامي عليه، ولذا اهتمّ كثير من المفسّرين بالعناية بتفسيره منفردًا، فرأينا بعض التفاسير تنفرد بتناول هذا القسم، ككتب تحمل عنوان: “أحكام القرآن”، للجصاص الحنفي، ولابن العربي المالكي، وللكيا الهراسي الشافعي.

واهتمّ المعاصرون من المفسرين بالعناية به كذلك، بدايةً من الشيخ محمد علي السايس، والشيخ عبداللطيف السبكي، ومرورًا بالشيخ محمد علي الصابوني، وغيرهم من المفسرين، وكلها كانت تفاسير غير متوسّعة في آيات الأحكام، إلا ما صدر من عمل جماعي قام به مجموعة من علماء الهند، فأصدروا موسوعة من (17) مجلدًا تحمل عنوان: “أحكام القرآن”، تناولت جلّ الآيات التي تتعلق بالأحكام بالتفسير وإن خلت الموسوعة من عنصر التجديد.

لكن ما لاحظناه من قبلُ من خلوّ مكتبة التفسير من كتاب يتناول التفسير النفسي، وكذلك خلو كتب القصص القرآني من تناول سيكولوجية القصة القرآنية، فكذلك خلت جلّ كتب تفسير آيات الأحكام من العناية بهذا الجانب، رغم أن الجانب التشريعي من أهم ما يتوخّاه من أهداف: العناية بالنفس، سواء من حيث آثار التشريع عليها، أو مراعاتها عند سنّ التشريع، فقد نزل لهدايتها، وتقويمها، ومراعاتها عند إنزال الأحكام.

الجانب النفسي في آيات العبادات

فالمتأمّل في الخطاب القرآني في آيات الأحكام، سواء في جانب العبادات أو المعاملات، سيجد حضور الجانب النفسي بشكل كبير، ففي حديثه عن العبادة نلاحظ هذا التوجّه فيربط بين العبادة والارتقاء بالنفس، كما قالَ تعالى: (وَٱسۡتَعِينُواْ ‌بِٱلصَّبۡرِ ‌وَٱلصَّلَوٰةِۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى ٱلۡخَٰشِعِينَ) البقرة: 45.

وفي الحديث عن الزكاة يقول تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) التوبة: 103، وعن الصوم يقول: (أُحِلَّ لَكُمۡ لَيۡلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآئِكُمۡۚ هُنَّ لِبَاسٞ لَّكُمۡ وَأَنتُمۡ لِبَاسٞ لَّهُنَّۗ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمۡ كُنتُمۡ ‌تَخۡتَانُونَ أَنفُسَكُمۡ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡ وَعَفَا عَنكُمۡۖ فَٱلۡـَٰٔنَ بَٰشِرُوهُنَّ وَٱبۡتَغُواْ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمۡۚ) البقرة: 187، وعن الحج يقول تعالى: (ٱلۡحَجُّ أَشۡهُرٞ مَّعۡلُومَٰتٞۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ٱلۡحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي ٱلۡحَجِّۗ وَمَا تَفۡعَلُواْ مِنۡ خَيۡرٖ يَعۡلَمۡهُ ٱللَّهُۗ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيۡرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُونِ يَٰٓأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ) البقرة: 197، ففي كل هذه الآيات نلحظ بجلاء العامل النفسي في هذه الأحكام.

البحث عن الأبعاد النفسية في تفسير آيات الأحكام، له عدة فوائد تثري البحث الفقهي والقرآني بشكل كبير، فمنها: أنها تربط بين التشريع والسلوك، وهو ما يفتقده كثير من كتب الفقه المذهبي للأسف

الجانب النفسي لآيات المعاملات

ربما توهّم متوهّم أن ذلك موجود في آيات العبادة، بحكم أن العبادة بطبيعة حالها تخاطب النفس لارتقائها بالطاعة، لكن الخيط مستمر في آيات المعاملات، سواء كانت في شق الأحوال الشخصية، أو في الشق العسكري، فنجد آيات: (كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡقِتَالُ وَهُوَ كُرۡهٞ لَّكُمۡۖ ‌وَعَسَىٰٓ ‌أَن ‌تَكۡرَهُواْ شَيۡـٔٗا وَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۖ وَعَسَىٰٓ أَن تُحِبُّواْ شَيۡـٔٗا وَهُوَ شَرّٞ لَّكُمۡۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ) البقرة: 216، (فَإِن كَرِهۡتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰٓ أَن تَكۡرَهُواْ شَيۡـٔٗا ‌وَيَجۡعَلَ ‌ٱللَّهُ ‌فِيهِ ‌خَيۡرٗا كَثِيرٗا) النساء: 19.

فرغم حديث الآية الأولى عن القتال والحرب، وأنها حالة يبغضها الناس، فخاطبت النفس البشرية بأن الله تعالى هو الذي يعلم الخير والشر، وإن بدا للناس غير ذلك، والخطاب نفسه نراه في آية تتحدث عمّن كره زوجه وظن أنها لن يأتي منها خيرٌ، فبيّن أنه ربما تبغض النفس شيئًا، ويكون فيه خيرٌ كثيرٌ.

وهو ما يتّضح في جانب العقوبات الجنائية كذلك، فيقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ۖ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَىٰ بِالْأُنثَىٰ ۚ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ۗ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ۗ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ) البقرة: 178، فرغم بيانِ التشريعِ القصاصَ العادل هنا، لم يهمل الحديث عن العفو، وأن ذلك تخفيف من الله تبارك وتعالى، ثم عقّب بعدها بآية تخاطب كل نفس لم تجرم، أو تقع في عقوبة جنائية، بأن هذا القصاص هو حياة للناس جميعًا، فقال تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) البقرة: 179.

نداءات القرآن الكريم والبعد النفسي

من تأمّل الخطاب القرآني فيما يتعلّق بالأحكام، فستزداد قناعته بما أوجزناه، وبخاصة من يتأمل نداءات القرآن الكريم، فقد اختلف النداء القرآني بحسب المخاطب، فهناك نداءات بـ: “يا أيها الناس”، و”يا بني آدم”، و”يا أيها الإنسان”، وهناك نداء خاص بـ: “يا أيها النبي”، ولكن الأكثر وجودًا في القرآن نداء بقوله: “يا أيها الذين آمنوا”، وهذه النداءات في حد ذاتها هي خط رئيسي واضح في تنوع الخطاب حسب النفس البشرية المخاطبة، وما يراد منها من أهداف إيمانية، أو تشريعية.

فمن قرأ هذه النداءات، وقرأ ما يليها من أوامر أو موضوعات تتناولها الآيات، فسيكتشف فروقًا مهمةً يدركها مَن يبحث وراء تنوع هذا الخطاب من حيث الصياغة، ومن حيث الموضوع، ومن حيث المستهدف منها. وما يتعلق بنداءات الإيمان، سنجد أنّ جلها يليها أوامر تشريعية، وينفرد بها الخطاب القرآني في العهد المدني؛ لأنه نداء احتاج قبل صدوره إلى تهيئة نفسية وإيمانية من المخاطبين.

وهو نداء انفرد به القرآن الكريم، ولم يسبقه إليه كتاب سماوي سابق، وكان خطابًا جديدًا على سمع العرب، التي لم تعتَد على هذا الخطاب الجديد، الذي كان جديدًا عليها من حيث أدبياتها، ومن حيث خطاب الكتب السماوية السابقة، التي لم يرد فيها مثل هذا النداء.

فوائد هذا اللون من البحث

البحث عن الأبعاد النفسية في تفسير آيات الأحكام، له عدة فوائد تثري البحث الفقهي والقرآني بشكل كبير، فمنها: أنها تربط بين التشريع والسلوك، وهو ما يفتقده كثير من كتب الفقه المذهبي للأسف، فنرى فصلًا بين السلوك الخُلقي والنفسي، وبين الرأي الفقهي، وهو ما نعيبه على القانون الوضعي، إذ إنه لا يحثّ على غرس الضمير، بل يتعامل تعاملًا ماديًا بحتًا، فنزعُ هذا الجانب النفسي والخُلقي من الحديث الفقهي يفصل فصلًا مضرًا بين السلوك والتشريع، وهو ما لا نراه في القرآن والسنة، اللذين حرصا على هذا الدمج الدائم بينهما.

كما أنه يُذهب جفاف الخطاب الفقهي، المعروف بعنايته بالجانب القانوني، فتناول البعد النفسي في التناول التفسيري يمزج الخطابَين: الفقهي والنفسي معًا، بما يشوق القارئ، ويرغبه في الاطّلاع على الحكمة أو فلسفة هذا التشريع.

وهو عون كبير للفقيه والمفتي، على حالات تغير الفتوى، فلا شك أن البعد النفسي في الأحكام، يفيد في فهم طبيعة الأنفس، والتي تختلف من نفس لأخرى، فيتيح للمفتي هذه المساحة في معرفة ما يتغير وما لا يتغير في إطار ما يقبل التغيير شرعًا.

وهو ما نلحظه بجلاء في حديث القرآن عند التحريم، حيث إن آياته نزلت متدرجة في بعض المحرمات التي أدمنها الناس، وصعب عليها تركها مرة واحدة، كتحريم الخمر، وتحريم الربا، فقد راعى فيها التشريع نفوسَ الناس، وكيفية علاجها، وهو ما يستفاد منه في كل عصر، وليس خاصًا بعصر واحد.

ومما يستفاد في تناول الأبعاد النفسية لآيات الأحكام، أنها تضع الفقيه أو المفتي، أو رجال التشريع والإصلاح، بأنّ عليه عند الحديث عن المحرمات، أن ييسر للناس البدائل، فقد كان من عظمة التشريع الإسلامي أنه عند التحريم، دلّ الناس على البدائل الحلال، فحرم الزنى، وأحل الزواج، وحرم الربا، وأحل البيع، وهو ما نجده في مساحة التحريم والتجريم. وعند الوقوع في الجرائم والحرام، وضع العقوبات والتوبة، ورد المظالم والحقوق لأهلها.

محاذير ومزالق في هذا الجانب

على أهمية ما ذكرنا من هذا اللون من البحث، إلا أنه ينبغي الحذر من عدة مزالق قد يقع فيها دون قصد من يبحث في هذا الجانب، وأهمها: الحذر من تأويل الأحكام أو ربطها بعامل نفسي لم ينص عليه الشرع، فبعض المفكرين أو العلماء نجده يعلل أحكام الشرع تعليلًا لم ينص عليه الشرع صراحةً، بل استنبطه المفسر أو العالم بنفسه، من خلال تأملاته.

مثل: تعليل عِدة المرأة بأنه لصبرها على فراق الزوج، أو لاستبراء الرحم من الحمل، وهي تأويلات وتفسيرات لم ينص عليها الشرع، وليست سديدة مائة في المائة، فقد تصح في حالات ولا تصح في أخرى، فهل معنى ذلك أن المرأة التي مات زوجها وهي كارهة له، لا تعتد، أو المرأة التي تجري اختبار حمل، وليست حاملًا لا عدة لها، أو كانت عاقرًا لا تنجب، فلا عدة لها؟! بينما العدة للمطلّقة والمتوفَّى عنها زوجها، في باب التشريع، هي حقٌّ لله، وليست حقًا للعبد، فلا يملك أحد إسقاطها.

فمثل هذه التأويلات لا تصحّ، ومثلها كثير في هذا المجال.

شاركها.
Exit mobile version