فاجأ الرئيس الأميركي دونالد ترامب العالم بحديثه عن توزيع جزء من أهل غزة على مصر والأردن، بعد أيام قليلة من افتخاره بإيقاف الحرب، ونجاحه فيما أخفق فيه سلفه جون بايدن.  وقد ردت القاهرة وعمَّان رسميًا برفض مقترح ترامب، لأنه يفتح الطريق إلى تفريغ قطاع غزة، وبعده الضفة الغربية، من السكان، ما يعني تصفية القضية الفلسطينية برمتها.

والآن صار السؤال الأكثر حضورًا وإلحاحًا هو: هل يمكن فعلًا تفريغ غزة والضفة الغربية من السكان إن قررت واشنطن وتل أبيب هذا؟

ابتداء فإن التاريخ البشري طالما شهد عمليات تفريغ مناطق من سكانها، فصارت خرابًا بعد عمران، بفعل أسباب طبيعية، قد تكون زلازل أو براكين أو أعاصير وفيضانات أو أوبئة فتاكة أو مجاعات، أو بسبب الحروب الضروس التي تشهد إبادات جماعية وتهجيرًا قسريًا.

وفي الحالة الفلسطينية الراهنة، ربما أمعنت إسرائيل في الإيذاء حد ارتكاب إبادة جماعية لتكون بابًا واسعًا أمامها، ومعها إدارة ترامب لمحاولة التخلص من سكان الضفة والقطاع، لا سيما إن استؤنفت الحرب لاحقًا، وامتدت إلى الضفة الغربية بدرجة أوسع وأعمق، واستمرت إسرائيل ترفض الخيارات الثلاثة المطروحة، وهي: حل الدولة الواحدة، أو حل الدولتين، أو إعطاء الفلسطينيين فرصة الحكم الذاتي بشكل حقيقي.

بوجه عام، يجب ألا نحصر أهداف سياسات الإبادة الجماعية في رغبة دفينة للانتقام، وهوس به، إذ من الصعب على الناس أن يبقوا على أعصابهم ملتهبة ونفوسهم محتقنة وعواطفهم الشريرة مشبوبة بالشر زمنًا طويلًا، لكننا، وإلى حد بعيد، يمكننا اعتبار هذا السلوك المتوحش نوعًا من “التفريغ القسري”، سواء جاء في صورة تفريغ منطقة من سكانها الذين ينتمون إلى عرق أو دين واحد، أو تفريغ الدولة برمتها من أتباع هذا العرق أو الدين المختلف، في عملية من “القتل البائر”، حسب تعبير الفيلسوف البولندي زيجمونت باومان، وهو قتل يقوم على الإعدام الجسدي لرجال ونساء وأطفال لمجرد مزاعم ترى أنهم فئة من البشر غير صالحة للعيش في ظل النظام الذي أصدر قرارًا بإعدامهم.

الإبادة الجماعية إذن هي نوع من القتل المنظم، الذي يمارسه طرف واحد، تسعى به دولة أو سلطة إلى تدمير جماعة معينة أو محددة ومقصودة بذاتها، لمعرفة القاتل هوية أفرادها أو أعضائها.

وهي تختلف عن القتل الجماعي في أمرين رئيسيين، الأول هو أن الإبادة أوسع قتلًا، وهي تشمل الترحيل الجماعي، وإعادة السكان عنوة، والتجويع المقصود. والثاني أنه في حين يعتبر القتل سلوكًا يقصد أفرادًا، فإن الإبادة الجماعية موجهة ضد جماعات محددة مسبقًا وفقًا لمعيار وضعه القاتل، والذي يكون غالبًا متعصبًا للعرق أكثر من غيره.

كما تختلف عن التدمير الجماعي أو تدمير الجنس البشري، الذي يترتب على استخدام أسلحة نووية، فالأخير قتل مفرط لا يمارس على أساس انتقائي، عرقي أو ديني أو مذهبي، بينما الإبادة، تقترن بشكل خاص بالقومية وبناء الأمم وتكوين جماعات سياسية “نقية”، وهي تصنع نزعة شديدة تجرف أمامها أي وازع أخلاقي، يمنع انطلاق الإبادة، التي صنفت على أنها جريمة اجتماعية في اتفاقية وافقت عليها الأمم المتحدة بالإجماع عام 1948، ووضعت موضع التنفيذ عام 1951.

تنص المادة الثانية من هذه الاتفاقية على أن الإبادة هي فعل تدمير كلي أو جزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه، إما عبر قتل أفرادها، أو إلحاق أذى جسدي وروحي خطير بهم، أو إخضاعهم جميعًا لبيئة معيشية قاسية ترمي إلى تدميرهم، أو وضع تدابير تحول دون إنجابهم، بما يأخذهم نحو الانقراض، أو إلحاق أبنائهم الصغار عنوة بجماعات أخرى.

ومن أبرز عمليات الإبادة الجماعية في التاريخ ما فعله الرجل الأبيض بالهنود الحمر في الأميركتين، وما أقدم عليه النازي بقتل أكثر من عشرة ملايين شخص، من بينهم يهود وسلاف وغجر وشيوعيون ومعاقون ومثليون جنسيون ومعارضون سياسيون، ومجازر سميل التي ارتكبتها الحكومة العراقية ضد الأشوريين عام 1933، وقتل الآش في باراغواي، ومذبحة سربرنيتشا ضد مسلمي البوسنة، ومذبحة صبرا وشاتيلا ضد الفلسطينيين، ومجاعة هولودومور، وعمليات التطهير العرقي بين الهوتو والتوتسي في رواندا وبوروندي، واضطهاد الإيزيديين وترحيلهم وسبي نسائهم على أيدي تنظيم الدولة، وما يحدث لمسلمي الروهينغا في ميانمار.

إن الإبادة الجماعية هي نوع من التفريغ السياسي، إذ صح التعبير، ففكرتها والطريقة التي تمارس بها، والأهداف التي يسعى مرتكبوها إلى تحقيقها، ذات حضور ومغزى ومبنى سياسي دون مواربة.

فعلى المستوى النظري فإن من يعمل على تفريغ منطقة أو إقليم من جماعة محددة على أساس عرقي أو ديني، لا يفعل هذا تعبيرًا، بالدرجة الأساسية، عن نفور نفسي، أو تعصب ديني، أو تصورات إنسانية وفلسفية بحتة، بل لتصور سياسي حتى لو كانت المسائل النفسية والفلسفية والاعتقادية حاضرة في ثناياه.

إذن، فمن الناحية النظرية، ووفق تجارب عديدة في التاريخ البشري، يمكن تصور مسألة تفريغ منطقة من سكانها، عبر تدخل بشري في مطلعه الحرب، لا سيما إن انعدمت أسباب العيش في هذه المنطقة أو ذلك الإقليم، بعد تدمير البنية التحتية والمنازل والمؤسسات ودور العبادة… إلخ.

لكن من الناحية العملية أو الواقعية نحن مع الفلسطينيين أمام شعب مختلف، لم يتصور أعداؤه أنه قد وعى جيدًا تجربة النكبة المفجعة، وأدرك مرارة العيش في الشتات، وآمن بأن بقاءه في أرضه هو أعلى درجات المقاومة، بل فيه انتصار على عدوه، الذي جعل هدفه الأبعد مدى هو طرد السكان الأصليين من أرضهم، وإعادة احتلالها.

لقد شهد العالم كله ذلك المشهد المهيب لعودة الفلسطينيين سيرًا على الأقدام إلى شمال قطاع غزة بعد حرب دامت نحو خمسة عشر شهرًا، استعمل فيها الجيش الإسرائيلي أحدث أنواع الأسلحة وأشدها فتكًا.

فهذا التشبث بالمكان، حتى لو كان مدمرًا، يعني بوضوح أن الشعب الفلسطيني بات عصيًا على الاقتلاع، وأن إرادته الفولاذية هذه هي المعول الأول لهدم تصورات ترامب البائسة عن تفريغ الأرض الفلسطينية من سكانها؛ خدمة لإسرائيل التي قال عنها حين أمعن النظر في وجودها على الخريطة: إنها بلد صغير جدًا.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version