هل يمكننا الحديث عن تنوير إسلامي؟
لا ريب أنه أول سؤال سيخطر ببال القارئ وهو يقف أمام الإصدار الجديد للمفكر المغربي محمد المصباحي والموسوم بـ “من أجل تجديد التنوير الإسلامي” (دار الأمان 2024). لكن إذا تحلّى القارئ بقليل من الصبر إلى حين الانتهاء من قراءة الكتاب، فسيدرك ما يرمي إليه المؤلف من وراء ذلك العنوان.
أجل، يبالغ الرجل في مهاجمة الإسلام السياسي، وقد لا ينتبه إلى أن الإسلام السياسي هو نتيجة لفشل المشروع التحديثي، وفشل دولة الاستقلال الوطني، بل وفشل وإفشال مشروع الاستقلال الوطني عمومًا أو تمييعه وحرفه عن طريقه وأهدافه.
وحتى نتعرف على طبيعة الأنظمة السياسية التي حكمت وتحكم المنطقة العربية، أقترح أن نفكر أيضًا بنوع المعارضة التي أنتجتها وتنتجها. وفي تعبير آخر: إن الإسلام السياسي من أعراض الأزمة ونتائجها وليس من أسبابها.
ما يتوجب أن ننتقد فيه الإسلام السياسي هو فشله النظري المريع في ترجمة المقولات الإسلامية إلى لغة الايتيقا المعاصرة [الأخلاق والقيم المشتركة بين البشر]، لأنه لم يدرك بعد أن الدفاع عن حقوق الدين يمر ويتحقق عبر الدفاع عن حقوق الإنسان، وأن الوظيفة المركزية للدين تكمن في الارتقاء بنا إلى الإنسانية، وليس في الخروج بنا منها.
يقرأ محمد المصباحي أزمة الراهن العربي باعتبارها أزمة ثلاثية: الأولى تتعلق بالدولة، والثانية بالدين، والثالثة ما يسميها “أزمة العلاقة بين الدولة والدين”. تكمن الأولى في استحكام السلطوية بالنظام السياسي العربي، والثانية في التشدد المذهبي والتطرف الديني، وتتمظهر الثالثة في غياب للحوار بين الدين والدنيا.
ولكن المصباحي لا يؤكد إلا استمرار لحظة محمد عبده في الفكر العربي المعاصر، وهو يقرر منذ البداية أن الخروج من المأزق يمر عبر “انفتاح العقل على الوحي، والوحي على العقل”.
وهي اللحظة التي لا يمكن تجاوزها إلا بتفكيك هذه الثنائيات الأيديولوجية التي فرضتها التجربة الأوروبية على العالم، ومنها ثنائية الدين والدنيا. وذلك أن التسليم بمثل هذه الثنائيات يتضمن اغترابًا للفكر عن واقع مجتمعاتنا العربية، وعن الحقيقة الدنيوية للإسلام، وعن تاريخيته المتمثلة في التغيرات والتحولات التي يعرفها الدين وهو ينتقل من سياق إلى سياق.
وقد أشار إلى ذلك محمد أركون، وهو يتحدث عن انتقال الإسلام من شبه الجزيرة العربية إلى حوض البحر الأبيض المتوسط، وهو ما يمكن أن نلحظه أيضًا في انتقال الإسلام من سياق ثيوقراطي إلى سياق ديمقراطي، وهو ما يتطلب منا ألا ننطلق من مفهوم جوهراني للدين، ولا من مفهوم جوهراني للحداثة يقول بضرورة اصطدامها بالدين، فالدين، كما كتب مارسيل غوشيه، “لا يموت في الحداثة”.
لا يمكن تصور الديمقراطية بدون العلمانية، ولا يمكن للإسلام السياسي أن ينجح دون برامج اجتماعية عادلة
أجل، إننا نحتاج، كما يكتب المصباحي، “لتأهيل الفكر الديني كي يلعب دورًا إيجابيًا في بناء الدولة الديمقراطية وترسيخ أركانها وتكريس قيمها”، وكان جاك دريدا قد دعا، بُعيد عمليات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول، إلى ضرورة استنباط المضمون الديمقراطي للقرآن.
غير أنه لا يمكننا القيام بذلك إلا إذا تحررنا من هذه الثنائية المستوردة، لأن المشكل والمحبط في آن في هذه الثنائية يكمن في أنها تغفل من جهة الاستقلال الكبير الذي تمتع بها الفقهاء في تاريخ الإسلام واستقلالهم عن السلطة السياسية ومعارضتهم لها في الكثير من الأحيان، وتغفل ثانيًا أن الإسلام دين دنيوي بامتياز، وأنه أعاد تعريف الديني، وهو يحرره من الرهبنة ويربطه بالحياة، وأن هذه الثنائية ستطرح نفسها بشدة في سياق عربي، ستحكمه صدمة الحداثة، ويسيطر عليه استيراد الأفكار الحديثة دون معرفة موضوعية بسياق إنتاجها ولا بالسياق الذي انتقلت إليه.
إن هذا لا يعني أننا لا نحتاج للعلمانية، لأنها قضية لا تهمنا كما قد يدافع عن ذلك فكر سحري، مغترب عن قضايا واقعه، ولكن ما يتوجب تأكيده هنا، هو أنه ليس الإسلام من يتعارض مع العلمانية، ولكنه الاستبداد.
شروط سبعة
يقترح محمد المصباحي سبعة شروط، يتوجب، في رأيه، على الإسلام السياسي الاعتراف والالتزام بها، إذا ما سعى إلى أن يكون جزءًا من النسيج السياسي للدولة الحديثة، ولكن ما ينساه المؤلف في هذا السياق، هو أن ما اصطلح عليه دولة الاستقلال الوطني والتي انتهت إلى دولة للاستعمار الداخلي، لا تتوفر فيها تلك الشروط، وذلك على الرغم من دعاوى الحداثة والعلمانية والتقدمية.
- أول تلك الشروط ما يسميه المصباحي بالإنسية، والتي يمكن ترجمتها سياسيًا بحكم الشعب نفسه بنفسه، وما يستتبع ذلك من نتائج إيتيقية وقانونية وثقافية ومجتمعية. إذ لا يمكن لأحد اليوم أن يختفي خلف شعار “الحاكمية لله”، حتى يسلب الناس حريتهم وفرديتهم، لأن الفهم الأيديولوجي لهذه الحاكمية يفرغ الدين الإسلامي من مضمونه التحرري والإيمان من فرديته، ويتناقض مع الغاية الإلهية من استخلاف الإنسان في الأرض.
- أما الشرط الثاني، فيتمثل في ضرورة فصل الدين عن الدولة، والأفضل أن نُعبّر عن ذلك بشكل أكثر دقة، ونقول بضرورة الحيلولة دون استعمال واستغلال الدين لأغراض سياسية.
- ويرى المصباحي في الديمقراطية – باعتبارها فعلًا سياسيًا- شرطًا ثالثًا، مؤكدًا أن الإسلام السياسي هو في جوهره حركة أو حركات أيديولوجية، اضطرت لممارسة السياسة اضطرارًا، أملًا منها في تطبيق مشروعها الأيديولوجي اللاتاريخي، ويتابع في كلمات تدعو للتأمل: “والإسلام السياسي في كل هذه التجاوزات ينطلق من فهم سطحي وجزئي للإسلام. فشعار مقاومة الفساد، مثلًا، لا يعني لديهم سوى مقاومة الانحرافات الشخصية التي تشير في نظرهم إلى خروج عن الدين كتعليم المرأة ولباسها وفق مواصفات بهلوانية، أو خروج شاب مع خطيبته أو صديقته الجامعية.أما الفساد الحقيقي الذي يخرب الدولة والمجتمع فلا يلتفت إليه، وبمجرد ما يتظاهر الفاسد الحقيقي بالقيام بالشعائر والطقوس الدينية أو يقوم بتبرعات “خيرية” مشبوهة، تمحى ذنوبه ويصير فردًا طاهرًا نقيًا. ومما يزكي ما قلناه افتقار الإسلام السياسي في الغالب إلى برامج سياسية واجتماعية مفصلة لبسط العدالة الاجتماعية والسياسية. وبالفعل، فالحركات السلفية تهتم بالسلف لا بالخلف”.
- أما الشرط الرابع فيمكن اعتباره تكرارًا للشرط السابق، ولكنه يؤكد حقيقة أساسية تقول الآتي: لا يمكن تصور الديمقراطية بدون العلمانية.
- ويتمثل الشرط الخامس في الحرية التي لا تتحقق إلا من خلال مواطنة كاملة، والمؤلف يتحدث في هذا السياق عن “ثقافة ديمقراطية”، تدافع عن قيم المواطنة والحرية.
- ويتمثل الشرط السادس في العقلانية، وما يعنيه ذلك من أسبقية العقل العملي على العقل العقدي.
- ثم ينتهي بشرط الثقافة، وهو هنا يغمز من جهة تلك الحركات التي تبخس الثقافة والإبداع الثقافي قيمته، ولربما كان من الأدق أن يقول الحضارة، لأن الثقافة نفسها، وإن خطت خطوات كبيرة في الإبداع والخلق، قد تقف ضد الحضارة وقيمها، وهو ما تعبر عنه بدقة التجربة الألمانية في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين.
لا يبالغ محمد المصباحي وهو يؤكد أن “المواطن الصالح”، ولنقل المواطن في دولة ديمقراطية يمتلك أبعادًا متعددة وهويات متنوعة وانتماءات متباينة، ولا ريب أن هذا المواطن المتعدد هو الذي يمكنه أن يصمد أمام إغراءات السلطوية، وهو ما أوضحته إلزاـ فرينكل براشفيك في دراستها الشهيرة، بمعية أدورنو، عن الشخصية المتسلطة، باعتبارها تلك الشخصية غير المتسامحة مع الالتباس، وذلك يقف على النقيض من كل تلك الدعوات التي تريد أن تختزل التعدد الإنساني، والذي تعترف به الأديان نفسها، في بعد واحد.
وفي هذا السياق يضرب المصباحي مثلًا بالسلفية المغربية، والتي لم ترَ تناقضًا بين محاربة الاستعمار، والانفتاح في الآن نفسه على مكتسبات الحداثة.
السلفية الوطنية مشروع تحرري مزدوج يربط بين تحرير العقل والتحرر السياسي
بين سلفيتين
يميز المصباحي في كتابه بين سلفيتين: سلفية يسميها مستنيرة، على الرغم مما قد يثيره هذا التوصيف من إشكاليات، و”سلفية متزمتة”، وهو في الواقع، لا ينحت هنا مفهومين جديدين، وإنما ينطلق من حركتين سلفيتين كما تحققتا في تاريخ العرب المعاصر:
- الأولى ارتبطت في رأيه بالرعيل الأول من الوطنيين المغاربة، والتي كانت تعتقد بضرورة الأخذ بأسباب الحضارة الحديثة من أجل الانعتاق من الاستعمار، وضرورة قراءة النصوص الدينية قراءة عقلانية وتحررية. وكما كتب عن هذا الصنف: ” كانت فيها كلمة السلفية مرادفة لمقاومة الاستعمار. وقد استعارت الحركة الوطنية كلمة “السلفية” شعارًا لها أولًا: لقدرتها على التعبئة وطي حقبة الانحطاط الطويلة بشروحها وحواشيها، بدروشاتها وتخاذلاتها، والذهاب توًا إلى المنبعين الأصيلين للإسلام: القرآن والسنة لإعادة قراءتهما وفق ما تمليه تحديات الحداثة؛ وثانيًا: للحد من حالة الانقسام المذهبي للأمة وجمع الكلمة؛ لتحقيق الهدف المستعجل، وهو التحرر من احتلال الأجنبي.بهذا المعنى يمكن اعتبار “السلفية” فتوى مزدوجة للحركة الوطنية: فهي فتوى وطنية بحق البلاد في الحرية السياسية، وهي فتوى حضارية بالحق في الحداثة وإعادة فتح باب الاجتهاد في الشريعة”.
فالسلفية الوطنية مشروع تحرري مزدوج برأي المصباحي، ذلك أن التحرير السياسي يرتبط عضويًا بتحرير العقل من قيود التقليد، أو من ذلك العقل الذي عبّد الطريق للاستعمار، أو ما يسميه مالك بن نبي بالقابلية للاستعمار. وعودتها إلى التراث الديني لم تكن لأجل الدفاع عن هوية مفارقة للتاريخ أو عبادة للأموات، بل هي عودة لأجل المستقبل، ودعوة للحاق بالحداثة.
- أما السلفية الثانية، أو السائدة اليوم بنظره، فإنها تدافع على “تصور محافظ ومنغلق للإسلام، تصور جوهره العداء لكل ما هو جديد، ولكل من يستعمل عقله أو خياله أو إرادته استعمالًا حرًا سواء كان فردًا أو جماعة أو دولة، وتكفير كل إبداعات العقل والخيال العلمية والعملية والفنية”، وهو تصور يمارس التكفير ولا يمارس التفكير كما سبق وأوضح نصر حامد أبوزيد، ويتحقق كعنف ضد المجتمع، وضد التصورات الأخرى للدين والماضي.
إننا نعرف أن الموقف من الماضي يمثل أيضًا موقفًا من المجتمع الذي نريد أن نعيش يه. فأن يحكم “فيلسوف أخلاقي” معاصر على ابن رشد باعتباره لا ينتمي إلى الثقافة الإسلامية؛ لأنه ارتبط في تفكيره بأرسطو، هو في الواقع، لا يمارس عُنفًا على الماضي فقط، ولكن على الحاضر أيضًا، ويفصح أيضًا عن المجتمع الذي يرنو إليه، وهو لا ريب مجتمع ستحكمه “الجماعة” بمنطقها المغلق، وترسم حركاته وسكناته.
ومحق – لا ريب – المصباحي وهو يكتب منتقدًا مثل هذه الأشكال من الاختزالية وضيق الأفق: “ومن مفارقات هذا التشدد السلفي قيامه على إحياء الذاكرة التاريخية “للمذهب”، من أجل تدمير الذاكرة الشاملة للإسلام ككل. فتم إفراغ الإسلام من محتواه الحضاري وبعده الأخلاقي والإنساني، وتقديمه في صورة مشوهة..”.
وفي السياق نفسه يميز المصباحي بين إسلام السلفية الأولى التحرري والمقاوم للاستعمار، والمطالب بالعدالة، وإسلام السلفية الثانية، المتواطئ مع الاستبداد. وما يطبع هذه السلفية هو ابتعادها عن العقل وتعطيلها للتاريخ واستسلامها لاجتهاد السلف، ذلك أنه في نظرها : “علم السلف فوق الزمان والتاريخ، أي غير قابل للتجاوز، وكأن الأمر يتعلق بنهاية أو منتهى العلم الديني عند الجيلين الأول والثاني من مؤسسي الإسلام”.
إن هذه العودة إلى التاريخ القريب من أجل نزع السحر عن مفهوم السلفية الراهن، والدفاع عن واقع أن الأمر يتعلق بسلفيات، وأن الحق في الدين لا يقتصر على جماعة معينة أو مذهب محدد، وأن الفكرة السلفية ليست فقط ظهيرة للاستبداد وحليفة الانسحاب من العالم كما تتحقق اليوم، بل اشتغلت أيضًا كفكرة تحررية ضد الاستعمار، هي محاولة في غاية الأهمية، إذ كما ذكرت سابقًا فإن الموقف من الماضي والتراث يؤثر بخياراتنا السياسية والمجتمعية اليوم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.