في خطوة تحمل في ظاهرها تكريما لبطل وفي داخلها صراعا مع الاستعمار وتاريخه، وضمن حملة جديدة تهدف لتعزيز السيادة والاستقلال، شهدت مدينة واغادوغو عاصمة بوركينا فاسو الأحد الماضي افتتاح نصب تذكاري (تمثال) لتوماس سانكارا، القائد الثوري الذي حكم البلاد بين عامي 1983 و1989، ولا يزال الغموض يلفّ ظروف اغتياله الذي أنهى تجربة تحرّرية كانت ملهمة في أفريقيا وخارجها.

النّصب، الذي جاء تصميمه على شكل عين مع درجات تنازليّة تُمثّل توماس سانكارا (1949-1987) ومساعديه الـ12 الذين اغتيلوا معه، تمّ افتتاحه بحضور ممثّلي عدد من الدول الأفريقية.

وخلال وقائع حفل الافتتاح، قال جان إيمانويل ويدراوغو رئيس وزراء بوركينا فاسو إن هذا النصب هو “أكثر من مجرد مبنى، بل موقع يُجسّد الوعي الجماعي لأهل بوركينا فاسو وللمناضلين من أجل الحرية، ولكل من يُقدّر السلام والعدالة الاجتماعية، وللتضحيات التي بذلها الرئيس توماس سانكارا ومعاونوه”.

وحملت اللوحة التذكارية للنصب جملة لرئيس المجلس العسكري الانتقالي الحاكم النقيب إبراهيم تراوري، وهي “الثورة التي تركها لنا توماس سانكارا هي الروح والفعل.. نحن مصمّمون على إبقاء الشعلة متقدة لإضاءة المسيرة المشرقة لشعبنا نحو أفق السعادة.. لن ننحني. الوطن أو الموت، سننتصر”.

ويُعتبر هذا النصب جزءا من منتزه كبير يضمّ مطعما ومكتبة إعلامية وورشا أخرى، وذلك ضمن مشروع  يكرّم إرث توماس سانكارا عبر التثقيف والتوعية، وتوفير بيئة مناسبة لاستحضار مبادئ الزعيم الراحل في الحرية والعدالة الاجتماعية.

المبنى الذي يضم تمثال توماس سانكارا بالعاصمة واغادوغو (مواقع التواصل)

وجاء هذا النّصب التذكاري تتويجا لعمل “اللجنة الدولية لإحياء ذكرى توماس سانكارا” التي تم تشكيلها في الثاني من أكتوبر/تشرين الأول 2016 بهدف كشف الحقيقة في ملف اغتيال الرجل ورفاقه، وللحفاظ على إرثه السياسي والفكري، وإحياء ذكراه في قلوب مواطنيه الذين يعتبرونه “أب الثورة” في بوركينا فاسو.

ملهم الرئيس الجديد

ويعكس هذا المشروع توجّهات الحاكم العسكري الحالي لبوركينا فاسو إبراهيم تراوري (37 عاما) الذي استولى على السلطة عبر انقلاب عسكري في السادس من أكتوبر/تشرين الأول 2022 ويحاول تقديم نفسه كمنقذ للبلاد مما يسميه الاستعمار الجديد.

ومن أهمّ القرارات التي اتّخذها الرئيس تراوري إعلان فك الارتباط مع فرنسا، القوة الاستعمارية السابقة، والدخول في تحالف مع روسيا، واعتماد سياسات اقتصادية جديدة مثل تأميم مناجم الذهب.

ويبدو الرئيس تراوري من خلال تصريحاته ومواقفه معجبا بأفكار سانكارا وتوجّهاته في روح الاستقلالية والحرّية، وفي السياسات العامة المتعلّقة بالسيادة الوطنية والاقتصاد.

وتجسّد ذلك الإعجاب أيضا في قرار تراوري نقل رفات سانكارا إلى النصب التذكاري الذي تم تدشينه رسميا، بدلا من المدفن المتواضع السابق.

قائد الانقلاب في بوركينا فاسو الكابتن إبراهيم تراوري يوصف بأنه معجب بالرئيس السابق توماس سانكارا (وكالة الأناضول)

وكان الرئيس تراوري قد أشاد العام الماضي بالزعيم سانكارا في الذكرى الـ37 لاغتياله، ووصفه بـ”رجل الرؤية العظيم الذي ترك بصمة لا تُمْحى في تاريخ أمتنا من خلال نزاهته ووطنيته”.

الزعيم الحاضر في الوجدان

ولا يزال اسم توماس سانكارا حاضرا بقوة في ضمير أبناء بلده الذي كان يُسمّى “فولتا العليا” قبل أن يقوم سانكارا بتغييره إلى “بوركينا فاسو”، أي “أرض الأنقياء” باللغة المحلية، إضافة إلى تغيير العلم والنشيد الوطنيين.

وخلال فترة حكمه، شنّ سانكارا حربا على الطبقات التقليدية النافذة في الدولة، كما قام بحملة على الفساد ونهب الثّروات العامة، وسعى إلى ترشيد الإنفاق العام في المجالات غير الضرورية.

وأطلق برامج صحية واجتماعية وتعليمية واسعة، ودشن مشروعا لمكافحة التصحر مكّن من غرس 10 ملايين شجرة، ووزع الأرض على السكّان المحتاجين.

وعلى الصعيد الدولي، اكتسبت بوركينا فاسو في ظل قيادة سانكارا زخما وحضورا واسعا في المحافل العامة، وذلك بفضل تأييده قضايا الشعوب المظلومة والوحدة الأفريقية وتصفية الاستعمار.

وطيلة حياته، ظلّ مدافعا عن العالم الثالث منتقدا ما سمّاه “الاستقلال الشكلي” الذي ابتكرته دول “العالم الآخر” لكي تضمن الاستلاب الفكري والثقافي والاقتصادي والسياسي في مستعمراتها.

وكان سانكارا كثير الانتقاد لفرنسا ولطبيعة علاقاتها بمستعمراتها السابقة والقائمة على استمرار نهج التبعية والاستغلال.

ومقابل تدهور العلاقات مع فرنسا والأنظمة الموالية لها، حرص سانكارا على توطيد الروابط مع بلدان المعسكر الاشتراكي مثل كوبا وأنغولا ونيكاراغوا.

البحث عن قاتل سانكارا

وعام 1987 بدأت تلوح في الأفق ملامح انقلاب حضّر له رفيق دربه بليز كومباوري، حيث اندلعت احتجاجات واضطرابات واسعة، استمرّت عدة أشهر وبلغت ذروتها يوم 15 أكتوبر/تشرين الأول في العام ذاته حيث قُتل سانكارا مع 12 من مساعديه بالرصاص في العاصمة واغادوغو أثناء اجتماع رسمي، وتكتّمت السلطات على ظروف مقتله.

ووُجّهت أصابع الاتهام في ذلك الاغتيال إلى بليز كومباوري، ومن ورائه فرنسا عبر شبكات نفوذها في مستعمراتها السابقة.

وكان أول قرار اتخذه كومباوري هو حرق جثة سانكارا، وتجريم كل من ينطق باسمه أو يحمل صورته في عموم بوركينا فاسو.

وبعد اغتيال سانكارا، حكم كومباوري البلاد بقبضة من حديد طيلة 27 عاما إلى أن تنحّى عن السلطة يوم 31 أكتوبر/تشرين الأول 2014، وهرب خارج البلاد أمام مظاهرات شعبية غاضبة احتجاجا على مساعيه لتعديل إحدى مواد الدستور للسماح له بالترشّح لولاية رئاسية ثالثة.

وقد وعدت أول حكومة تشكّلت بعد سقوط نظام كومباوري بـ”إعادة فتح ملف سانكارا وبنبش قبره لإخضاع الرفات الموجود بداخله لفحوص الحمض النووي”، لأن عائلته وأنصاره يشككون فيها.

وفي أولى إجراءات البحث عن حقيقة اغتيال سانكارا، سعت الحكومة الانتقالية لاستجلاب الرئيس المخلوع  كومباوري الذي فرّ إلى كوت ديفوار، رغم أن حالته الصحية تدهورت كثيرا.

وبعد سلسلة من التحركات والمساعي لمحاكمة المتورطين في الاغتيال، أدان القضاء في أبريل/نيسان 2021 كلا من كومباوري والضابطين المقربين منه جلبير ديندريه وهياسينتو كافاندو بالسجن المؤبد بتهمة المسؤولية عن اغتيال سانكارا ومساعديه.

في غضون ذلك، تواصل اللجنة الدولية لإحياء ذكرى توماس سانكارا المساعي لكشف الحقيقة، وتطالب برفع السرّية الدفاعية من قبل فرنسا فيما يتعلّق بملف سانكارا ورفاقه.

ونفت باريس رسميا تورّطها في اغتيال سانكارا، ووعد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عام 2017 برفع السرية عن الوقائع المتعلقة بالحادثة، لكنّ بعض الوثائق الأرشيفية التي سلمتها باريس إلى القضاء في بوركينا فاسو لم تتضمّن معلومات جديدة.

شاركها.
Exit mobile version