في كتاب صغير الحجم، عميق المعنى، قارب بابا الفاتيكان فرانشيسكو، الذي وافته المنية الأحد الماضي، بين الإسلام والمسيحية بدءًا من عنوانه الدال “اسم الله هو الرحمة”، إذ إن “الرحمة” هي القيمة المركزية، أو المقصد الجوهري للإسلام، بينما القيمة المركزية للمسيحية هي “المحبة”.

وطرح البابا الرحمة بوصفها إطارًا أوسع للاستيعاب والتعايش وقبول الآخر، ومسألة قابلة للتنفيذ أو التحول إلى إجراءات وتصرفات لدى الناس، تغوص إلى أعماق اجتماعية بعيدة تصل إلى درجة أن يلتزم الإنسان بأن يكون رحيمًا حتى تجاه من يكرههم أو ينبذهم أو ينفر منهم لأسباب متعددة.

بهذا التصور جاء فرانشيسكو إلى البابوية ومعه تجربة حياتية تمنحه أصالة ومصداقية تتمثل في “لاهوت التحرير” في أميركا اللاتينية، التي يعد الرجل واحدًا من رموزها، وهي منحى في المسيحية نقلها في الغرب من تواطؤ طويل مع السلطة الزمنية تحت لافتة “الحق الإلهي للملوك”، ومن ابتعاد عن الشأن العام وفق مبدأ “اعطِ ما لقيصر لقيصر وما لله لله”، إلى انخراط في المشكلات الاجتماعية عبر الانتصار للمظلومين والمحرومين والمهمشين وضحايا الاستبداد السياسي.

ساهم تنوع الخبرة الشخصية لفرانشيسكو في تعميق رؤيته الإنسانية، فهو الابن البكر بين خمسة أبناء، فر والداه من وطنهما إيطاليا هربًا من ويلات الفاشية، وعمل حارسًا لملهي ليلي، وعامل نظافة، ثم عاملًا في مصنع، وأكمل دراسته في مجال الكيمياء، وبعدها درس الفلسفة والأدب وعلم النفس، واقترب من الناشطة السياسية إستير باليسترينو التي ناهضت الحكم العسكري في الأرجنتين، وتعرضت للتعذيب، وقتلت ولم يعثر على جثتها.

وشغف فرانشيسكو في شبابه برقص التانجو، وشجع أحد الأندية الأرجنتينية المحلية لكرة القدم، وجرب المرض المزمن إثر نوبة التهاب حاد أدى إلى استئصال جزء من رئته، ثم عانى من آلام مزمنة في ركبته اليمنى اعتبرها “موتًا للجسد”.

حين تولى فرانشيسكو البابوية كان الحوار الحضاري بين الشرق والغرب يعاني من عيوب شتى تمثلت في اختلاط الأدوار بين المسائل العقدية والفكرية والاستقطاب السياسي والسجال العقائدي والمذهبي والاستسلام للصور النمطية المغلوطة والمتوارثة والثاوية في طبقات التاريخ الاجتماعي والثقافي عن “الآخر”، ما خلق تصادمًا بين القوى السياسية والاقتصادية النافذة في مختلف الحضارات، لبس لبوس “الصراع الحضاري”، بينما الحضارات في طبيعتها في حالة تراكم وتلاقح.

كما كان الحوار الحضاري محصورًا في إطار مختلف النخب الثقافية والسياسية، وتغلب عليه اللغة والتوجهات الاستعلائية، التي تنطلق من أن هناك أطرافًا أقوى وأكثر تحضرًا من الأخرى المتحاورة معها.

الأخطر من هذا أن البابا السابق بنديكت، كان قد أعاد الكنيسة الكاثوليكية لتسير في ركاب المشروعات السياسية النازعة إلى تصورات تبتعد كثيرًا عن جوهر المسيحية الذي يقوم على مبدأ “المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وفي الناس المسرة”، نظرًا لارتباط هذه التصورات بالتوحش الرأسمالي، وتبني الغرب فكرة “صراع الحضارات” التي عبر عنها الأميركي صامويل هنتنغتون في كتاب شهير، كتب بمداد القوة المهيمنة على السياسة في الغرب، وتسعى إلى تسيّد العالم المعاصر، حتى ولو بالقوة المادية الجبارة، عسكرية كانت أم اقتصادية.

رفع البابا فرانشيسكو شعار “كفى حروبًا، كفى عنفًا!”، وتبنى هذه الرؤية حتى أيامه الأخيرة، ما يدل عليه ظهوره في الأسبوع الأول من ديسمبر الماضي/ كانون الأول ، أمام لوحة صممها فلسطينيان عنوانها: “ميلاد بيت لحم 2024″، رمت إلى بث التعاطف مع الذين “يعانون من مأساة الحرب في الأرض المقدسة وأجزاء أخرى من العالم”، حسب ما صرح به البابا نفسه، الذي حافظ على علاقة طيبة مع أهل الشرق، غير مقتصر على المسيحيين منهم فقط.

كان فرانشيسكو هو أول بابا يزور دولًا في شبه الجزيرة العربية، حيث مهد الإسلام ومكان انطلاقه، ووقع وثيقة “الإخوة الإنسانية” مع شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، ولم يُقصر تواصله على السُنة، وهم الأغلبية بين المسلمين، بل التقى أيضًا بقيادات من الطائفة الشيعية في العراق عام 2021، في الوقت نفسه واصل اهتمامه بالمسيحيين العرب، الذين كان يراهم “همزة الوصل بين الشرق والغرب”، والتعبير الأعمق عن بيئة المسيحية الأولى، ولذا فإن بقاءهم في مكانهم، بغض النظر عن مذاهبهم أو طوائفهم، هو نعمة لمسيحيي العالم أجمعين، ولم يكن هذا بغريب على رجل تعاون مع طوائف الأنجليكان واللوثريين والميثوديين في الغرب.

هذه التوجهات هي التي حكمت “دبلوماسية الفاتيكان” في فترة بابوبة فرانشيسكو، التي قامت على مبدأ أخلاقي راسخ يقول: “إما نحن أخوة أو أعداء.. لا يوجد خيار ثالث”، ما أعطى انفتاح الكاثوليكية على الإسلام مددًا قويًا، تجاوز ما أقرته وثيقة “نوسترا أيتاتي” أي “في عصرنا”، التي تم بمقتضاها الكف عن تكفير أتباع الديانات الأخرى، كما كان يحدث على مدار أكثر من ألفي عام.

أبدى فرانشيسكو إصرارًا على توجهه هذا حين حضر إلى القاهرة عام 2017 ملبيًا دعوة من شيخ الأزهر، ومجلس حكماء المسلمين، لمؤتمر موسع ناقش قضايا التفاهم والحوار والمواطنة، ومواجهة التطرف والتعصب لدى بعض أتباع الأديان، وحين صلى في سبيل أن يعود السلام والسكينة إلى ربوع سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد، ونُقل هنا عنه قوله: “أصلي كي يعيش الشعب السوري في سلام وأمن على أرضه الحبيبة.. في البلاد التي عانت من سنوات كثيرة من الحرب”، فيما كان قد صلى من أجل أن تنتهي الحرب في لبنان وغزة، ودعا المجتمع الدولي لبذل أقصى جهد في سبيل “إيقاف هذا التصعيد الرهيب وغير المقبول.”

أدان غارة جوية إسرائيلية قتل فيها سبعة أطفال من عائلة واحدة في شمال قطاع غزة، ووصفها بأنها “قاسية”، وكان يتصل باستمرار وبشكل شخصي مباشرة بالمسؤولين عن الطائفة المسيحية في غزة خلال الحرب الإسرائيلية، وقد زار بعد عام واحد من توليه البابوية فلسطين، والأردن، وإسرائيل، وجمع الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز، ونظيره الفلسطيني محمود عباس في صلاة من أجل السلام عام 2014.

على المنوال نفسه بذل جهدًا في طي صفحة العداء بين الولايات المتحدة وكوبا، وزار في عام 2023 جنوب السودان، وناشد القادة هناك من أجل إنهاء الصراع، ودعا إلى إنهاء الحرب في أوكرانيا واصفًا إياها بـ “الحرب العبثية والشرسة”.

وبالتوازي مع السعي إلى التآخي مع أتباع الأديان الأخرى، وعلى رأسها الإسلام، لم يتخلّ البابا فرانشيسكو، الذي عرف بالزهد والتقشف، عن صورته كقديس فقير، وقت أن كان الكاردينال برغوليو في إحدى كنائس العاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس، ولحظة اختياره اسم فرانشيسكو، اقتداء بالقديس فرانشيسكو الأسيزي الذي تخلى عن ثروته لصالح الفقراء والمعدمين، وكان ينادي بالرفق بالحيوان.

طوال إيمانه بأن الإنجيل يدعو إلى الانحياز للمحرومين، رفض فرانشيسكو الجلوس على كرسي مذهب، أو حمل صولجانات من ذهب، وقضى حياته يبدل في ثوبين فقط، لم يضع عليهما مجوهرات كغيره، وعاش في شقة بجانب الفاتيكان، وتخلى عن استخدام عربات الليموزين البابوية، وشارك الكرادلة في رحلاتهم بالحافلة، وكان يختار السفر بالطائرة في الدرجة الاقتصادية غالبًا، وكان يقول دومًا: “آه، كم أودّ أن تكون الكنيسة فقيرة ومن أجل الفقراء”، كما دأب في عظاته على الدفاع بشدة عن العدالة الاجتماعية، وانتقد الحكومات التي تتقاعس عن الاهتمام بالفئات الأشد فقرًا في المجتمع.

كان البابا واعيًا للسياقات التي تكرس الظلم، وهي في نظره تتمثل في تسلط الدكتاتوريات، والتدين الفاسد، والتظالم الاجتماعي، والانحياز الجهوي، والصراعات المذهبية، لذا نجده، وإلى جانب لقائه قيادات شيعية في العراق، يلتقي رأس الكنيسة الأرثوذكسية في العالم البابا تواضروس، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقصية بمصر، في شهر أبريل/ نيسان 2017 لمواساته في ضحايا تفجيرين استهدفا كنيستين في شمال مصر، وهو في كل هذا كان منحازًا أكثر لـ “الإنسانية”، التي رأى أن المشتركات التي تجمعها أكبر بكثير من أسباب الفرقة والصراع.

وقد انعكست رؤيته التي بناها على مهل، من النص الديني والتفاعل مع الناس، على تصوره وانحيازه إلى حقوق الإنسان وعلى رأسها الحق في الحياة، حيث رفض الفقر والإجهاض، واختزال دور المرأة إلى مجرد أداة لمتعة الرجل، ووصف المثلية بأنها “محاولة للنيل من مخطط الله”.

وأيام جائحة كوفيد دعا إلى توفير اللقاح للجميع دون تمييز، وجعل الكنيسة في خدمة الشعب بعيدًا عن الكهنوت المتبتل، وقال هنا: “علينا أن نحذر من مرض روحي يصيب الكنيسة عندما تنغلق على ذاتها .. لو كان عليّ أن أختار بين كنيسة جريحة تخرج إلى العالم، وكنيسة مريضة منغلقة على ذاتها، لاخترت الأولى.”

سيكون من حظ العالم أن يبني بابا الفاتيكان القادم على ما انتهى إليها البابا فرانشيسكو، وحبذا لو فتح حوارًا عالميًا تكون فيه المؤسسات الدينية الكبرى حاضرة تتنبى قضايا مثل: الاستشراق المنصف، وتهذيب علاقات السوق، واحترام الثقافات الفرعية كطريق آمن إلى تنوع إنساني خلاق، وإنقاذ الديمقراطية من النزوع الفاشي الذي يتمدد داخل الديمقراطيات الراسخة، وتقليم الأظفار الشريرة للعولمة، ومواجهة العنف المنظم، وتوظيف العلم في خدمة الإنسانية. لكن المؤشرات الأولية حتى الآن تقول إن هذا لا يعدو كونه تفكيرًا بالتمني.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version