أكّدت العملية العسكرية الموسّعة التي شنّتها قوات الاحتلال في شمال الضفة الغربية المحتلة ضمنًا على سردية المقاومة التي ترى أن الاحتلال ينفّذ خططًا مسبقة لتصفية القضية الفلسطينية، جغرافيًا وديمغرافيًا وسياسيًا، وأن أي فعل مقاوم ليس بالضرورة ذريعةً ولا سببًا مباشرًا لها.

السردية

بعد حالة الانبهار الأولى بعملية “طوفان الأقصى” والإشادة الواسعة بها من حيث التفكير والتخطيط والتمويه والتنفيذ، انطلقت بعد بدء الحرب البرية ضد قطاع غزة بجرائمها ومجازرها حملة من النقد للمقاومة والعملية. شارك في هذه الحملة وما زال صنفان رئيسيان؛ الأول يقف على أرضية المقاومة، ولكن يناقش التفاصيل، وخصوصًا التوقيت والشكل والظرف الإقليمي، والثاني يعمل وفق أجندات سياسية مناقضة للمقاومة وواجهتها السياسية، وخصوصًا حركة حماس.

والحجاج الرئيسي للطرفين أن العملية شكلت ذريعة لدولة الاحتلال لتنفيذ خططها بتصفية القضية الفلسطينية بالإبادة والحصار والتجويع، وأنها بالتالي كانت خطأً جسيمًا بل خطيئة وطنية. وإذا كان الصنف المصطفّ ضد المقاومة والساعي لتجريمها لا يهمّنا، فإن النقاش مهم وضروري مع الشريحة ذات المنطلقات الوطنية.

والحقيقة الماثلة أنّ الاحتلال لا يحتاج لذريعة. لأن طبيعته التي نعرفها منذ 1948 (وما قبلها) تؤكد عدوانيته ودمويته وتناقض مشروعه مع وجود الشعب الفلسطيني، ولأن خططه تسير منذ عشرات السنين نحو دولة قومية يهودية تنفي الوجود الفلسطيني بشكل مبدئي. ومن هذه القراءة أمكن القول إن عملية “طوفان الأقصى” كانت محاولة أخيرة لمنع تصفية القضية.

وعلى أهمية النقد في الحالة الوطنية من حيث المبدأ، إلا أن مخطّئي عملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول يغفلون قضايا أساسية في غاية الأهمية، مثل توقيت النقد، وأسلوبه، والفائدة المرجوة منه، فضلًا عن أن المعركة ما زالت مستمرة ولم تنته، وأنهم لا يملكون معطيات كافية لتقييمها باستثناء تقييم نتائجها الحالية من منطلق المأساة الإنسانية الفادحة في غزة وهو رضوخ لمنطق الاحتلال وأهدافه بنوايا طيبة وعن دون قصد، فضلًا عن عدم القدرة – باعترافهم – على تقديم مقترحات عملية منطقية لوقف العدوان.

بعد 11 شهرًا من الإبادة المستمرة، ومع وجود الاحتلال المباشر في القطاع، ورغم الخسائر الكبيرة المتوقعة في صفوف المقاومة، ما زالت الأخيرة قادرة على الإثخان في المحتل، وتقديم صورة واضحة من التماسك والتواصل وامتلاك زمام المبادرة وصمود سلسلة القيادة والسيطرة.

ورغم ذلك، وبدل الإشارة للأطراف الأخرى التي خذلتها و/أو شاركت في إضعافها محليًا وعربيًا ودوليًا، تنبري بعض الأصوات والأقلام لتحميلها هي مسؤولية ما يحصل من باب أنها الطرف الأضعف الذي لا يبدو نقده ومهاجمته مكلفًا، أحيانًا بتخطِيء قرارها، وأحيانًا أخرى بتحميلها مسؤولية الكلفة الإنسانية الكبيرة، ومرة ثالثة بادعاء أنها تضحّي بأبناء غزة ولا تدفع هي الثمن.

الضفة وأمثلة أخرى

ولذا، يصبح مثال الضفة الغربية هنا مهمًا ومحوريًا للغاية. ذلك أنه رغم أن حالة المقاومة فيها لم تحمل جديدًا ولا تطورًا “كاسرًا للتوازن” ولا حتى مؤثرًا على العدوان على غزة، فإن حصيلة ما قبل إطلاق العملية الأخيرة في شمال الضفة ذات دلالات واضحة.

فوفق الإحصاءات، بلغ عدد الشهداء في الضفة الغربية منذ بدء “طوفان الأقصى” وحتى مساء الـ 25 من أغسطس/ آب الماضي 667 شهيدًا، إضافة لـ 5176 جريحًا، و10894 معتقلًا. وقد شملت نفس الفترة الزمنية 11348 اقتحامًا لمناطق الضفة الغربية، و2094 اعتداءً من قبل المستوطنين، ومداهمة 4359 منزلًا، وتدمير 2830 منزلًا ومنشأة، و94 عملية قصف جوي (العمليات غير المألوفة في الضّفة).

والآن، بعد هذه النتائج الواضحة في دلالاتها في غياب أي “ذريعة” كبيرة للاحتلال لاستباحة الضفة بهذه الطريقة (مجموعات المقاومة موجودة منذ سنوات)، يعلن جيش الاحتلال عن عملية موسعة في شمال الضفة بمشاركة سلاح الجو وقوات كبيرة، هي الأكبر والأوسع منذ عملية “السور الواقي” في 2002.

وإذا كان توقيت العملية يتزامن مع تراجع وتيرة العمليات العسكرية البرية في القطاع بعد أن استنفدت أهدافها العسكرية منذ أشهر وفق باحثين عسكريين، فإن الأمر يُوضع في إطار “فتح الحساب” مع الضفة. وقد أشارت تقارير إلى أن مسار العملية في الضفة، يتناسب مع خطة سموتريتش المتعلقة بالسيطرة عليها أكثر مما يتناغم مع عمليات المقاومة فيها، بما يخرجها أصلًا من إطار الرد، ويبعد عمليات المقاومة من سياق الذريعة.

يقول الحجاج الرئيسي لمنتقدي عملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول إنها فعل نضالي بسقف مرتفع جدًا وإنها بالتالي خارج السياق المألوف وكاسرة للتوازن بما منح الاحتلال الذريعة لينفذ خططه في القتل والحصار والتجويع وربما التهجير، وبالتالي تصفية القضية الفلسطينية. بينما شواهد التاريخ تؤكد أن هذه مغالطة كبيرة.

لقد نفذت العصابات الصهيونية المجازر المتتالية خلال النكبة دون ذريعة مماثلة، وإنما بهدف تأسيس الدولة، وخاضت حرب 1967 كفعل استباقي، واجتاحت لبنان في 1982 بعد محاولة اغتيال سفيرها في المملكة المتحدة متذرعة بصواريخ المقاومة الفلسطينية (المستمرة منذ سنوات)، وخاضت حرب 2006 التدميرية ضد لبنان بعد أسر حزب الله جنديين لها فقط.

كما أنها شنت حرب 2008 على غزة بشكل استباقي مفاجئ، وبدأت حرب 2012 باغتيال نائب القائد العام لكتائب القسام أحمد الجعبري، معلنة أن الهدف وقف تهديد صواريخ المقاومة، وهو أمر ينسحب على حرب 2014 كذلك.

أما على صعيد التاريخ الإنساني، فلم يكن هناك فعل ياباني يستحق إلقاء قنبلتين ذريتين، إذ كانت اليابان على وشْك الاستسلام في الحرب العالمية الثانية، واستُبق غزو العراق في 2003 بكذبة حيازته أسلحة دمار شامل، والأمثلة على هذا المعنى كثيرة.

أي مقاومة نريد؟

إن التسليم بأن أي عمل مقاوم مرتفع السقف سيشكل ذريعة أو فرصة للاحتلال لينفذ خططه المسبقة يدفعنا للتساؤل عن أي مقاومة نريد؟ هل المطلوب من الشعب الفلسطيني ومقاومته اعتماد أعمال نضالية فلكلورية شكلية لا تؤذي الاحتلال ولا تزعجه حتى لا تشكل تلك الذريعة أو الفرصة؟ وفي هذه الحالة ما العائد المستفاد من هذه “المقاومة”، وما أثرها ومكانها في مسيرة التحرير؟ والسؤال الثاني، ودون التقليل من قيمة الإنسان وفداحة الفقد وعظم المأساة الإنسانية في القطاع تحديدًا وبلا أدنى مزايدة على أهلنا هناك، هل نريد مقاومة بلا ثمن؟

لقد أتت عملية “طوفان الأقصى” كخطوة أخيرة تحاول منع تصفية القضية الفلسطينية، بعد أن أوصد الاحتلال أبواب السياسة، وحاصر غزة واستباح الضفة، وسعى لتهويد القدس، وتقسيم المسجد الأقصى وصولًا لاتفاقيات “أبراهام”.

وكانت عدة تقارير “إسرائيلية” ودولية أشارت إلى أن المقاومة وتحديدًا في غزة تشكل العائق الرئيسي أمام مسار التصفية والتطبيع ودمج الاحتلال في المنطقة، ما يعني أن ضربة كبيرة لها ولحاضنتها الشعبية كانت قادمة الآن، أو في وقت قريب.

ومنذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، ترسخت قناعة لدى دولة الاحتلال بأنها تخوض حربًا وجودية بسبب الأبعاد والتأثيرات الإستراتيجية للعملية الناجحة، ولذلك فهي ترى أنه من الضرورة بمكان حسم المهددات القائمة أمامها، وفي مقدمتها الضفة الغربية، والأراضي المحتلة عام 1948، وحزب الله في لبنان.

وقد كان التوجه لدى الاحتلال بفتح حرب واسعة مع الحزب بعد “الطوفان” بأيام قليلة فقط، ما يضيف قرينة إضافية على عدم حاجة الاحتلال لذريعة وأن “الفرصة” لا يُشترط أن تكون حقيقية بل ربما تُختلق اختلاقًا.

الأهم من كل ما سبق، أن حصر التفكير والتنظير والكتابة في “خطأ عملية طوفان الأقصى” المفترض، يلهي عن الانشغال بالمسؤوليات الحقيقية إزاء الشعب والقضية في ظل حرب الإبادة التي يتفق الجميع على وحشيتها واستثنائيتها، ويرى الكثيرون أنها ستستمرّ طويلًا وفق الأجندة الصهيونية.

إنّ النقد وإن كان حقًا للجميع من حيث المبدأ، إلا أنه لا ينبغي أن يكون نقدًا هادئًا باردًا وكأنه يناقش حدثًا تاريخيًا انتهى أو حدثًا معاصرًا بعيدًا. فما يليق بالمثقف الحق أن يكون مثقفًا “عضويًا” و “مشتبكًا” لا متفرجًا معلقًا على الأحداث ببرود عاطفي أو حياد مدَّعى.

إنها حرب تسعى لاستئصال الشعب الفلسطيني وتصفية قضيته وإخضاع المنطقة، ما يضع الجميع أمام مسؤولياته، ويضيء على ثغره الذي عليه شغله وحمايته، لا من زاوية نظر محدودة وضيقة وإنما برؤية شاملة واسعة للحرب وأبعادها والمنعطف التاريخي الذي تمرّ منه القضية والمنطقة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version