فرضت إسرائيل على إيران حربًا بدأت بضربات مركّزة ودقيقة اغتالت من خلالها قيادات عسكرية وشخصيات علمية، واستهدفت منشآت عسكرية ونووية طالت أحياء مدنية في طهران، ومدنًا أخرى في إيران في الثالث عشر من يونيو/ حزيران.

وأفضت تلك العملية في ساعاتها الأولى إلى اغتيال عدد مهم من قادة القوات المسلحة والعلماء النوويين في إيران، إلى جانب عدد كبير من المدنيين، ولم تتضح بعد أبعاد الهجمات وآثارها على المنشآت المستهدفة. أتى الهجوم الإسرائيلي مباغتًا وصادمًا لكثير من الإيرانيين، ومنهم القادة المستهدفون.

فإيران المنهمكة في نقاشاتها حول المفاوضات النووية تعلم من تجاربها السابقة في التعاطي مع واشنطن أن للأخيرة مقدرة واضحة في تحديد خطوط التحرّك الإسرائيلي. وكان الوضع كذلك مثلًا عند بدء المفاوضات المنتهية بتوقيع اتفاق 2015.

ولاستمرار المفاوضات بينها وواشنطن، كان الظن المرجّح في الدوائر الإستراتيجية الإيرانية تقييد الولايات المتحدة تحرّكات إسرائيل المعادية لإيران؛ حتى اتضاح مخرجات العملية التفاوضية.

ولا يعني ذلك بأي حال من الأحوال استبعاد المواجهة بشكل تام، لكنها تعني أن الخيار الأرجح لواشنطن كان استمرار التفاوض لا التصعيد العسكري.

غيرَ أن واشنطن استخدمت، كما يبدو، الخطاب التفاوضي غطاءً للضربة الإسرائيلية. فقد كانت قد أوعزت للوسيط العُماني بتأمين الظروف اللازمة لعقد جلسة تفاوضية سادسة مع إيران يوم الخامس عشر من يونيو/ حزيران، أي ثلاثة أيام فقط من بدء العملية العسكرية الإسرائيلية.

ورغم تصريح وزير الخارجية ماركو روبيو بعدم مشاركة واشنطن في العملية الإسرائيلية، غرّد رئيسه ترامب بأن الضربة أتت بعد انتهاء الأمد الزمني الذي حدّده سلفًا بشهرين، وأن إيران لم تستفد من الفرصة الدبلوماسية التي أُتيحت لها، ما يشير إلى تنسيق عالي المستوى بين الطرفين.

يقول ذلك لطهران، فيما يقول إن الضربة هي جزء من العملية التفاوضية في المنظور الأميركي؛ لدفع طهران لتقديم تنازلات تمنّعت في الجولات السابقة عن تقديمها.

بيدَ أن المنظور الإسرائيلي لهكذا عملية مختلف تمامًا عن المأرب الأميركي في دبلوماسيته إزاء طهران. ومن الأرجح أن تركّز إيران على أوجه الخلاف بين الطرفين في ردودها على العملية الإسرائيلية.

بعد تلقّيها الضربة الموجعة، بدأت طهران بسرعة تحرّكات للتكيّف مع الوضع المستجد. وكان من الأرجح ألا تتركّز الردود الإيرانية على البُعد العسكري ولا على المعتدي فحسب.

فها هي إيران تفاوض واشنطن وتناكف الثلاثي الأوروبي في ملفها النووي، وتتلقّى ضربة إسرائيلية في خضمّ ذلك كلّه. وبذلك، لا تخرج الردود الإيرانية عن ثلاث استراتيجيات عريضة:

أولًا: ملء الفراغ واستعادة القيادة والسيطرة

نشر مكتب المرشد الأعلى، منذ صبيحة الهجوم- أي بعد ساعات قليلة من استهداف القادة العسكريين قرارات تعيين خلفاء لهؤلاء، وأوكل في تلك القرارات، وفي العناوين العريضة، مهمة الرد على المعتدي. وبعد بدء القصف الإيراني الأهداف الإسرائيلية، اتضح تعافي منظومة القيادة والسيطرة من الصدمة الأولية للعدوان الإسرائيلي.

يتّضح من التعيينات حرص القيادة الإيرانية على طمأنة الشارع الإيراني، وهو ما استمر في الخطاب المتلفز للمرشد، والذي تزامن مع عملية “الوعد الصادق 3” – من جهة، وإظهار المقدرة العسكرية على التكيّف واستعادة المبادرة رغم فقدان إيران قيادات رئيسية في قواتها المسلحة من جهة أخرى، وهو بالأحرى موجّه للمعتدي وداعميه.

ثانيًا: الضرب الصاروخي وموازنة الرعب

انتقلت إيران من ردّ الفعل إلى الفعل مساء يوم الهجوم، وقامت بقصف تل أبيب بثلاث موجات من الصواريخ الباليستية والفرط صوتية. وسقط، حسب الراجح، عدد من الإسرائيليين بين قتيل وجريح.

والبادي تركيز إيران على ميزتها النسبية، أي القدرات الصاروخية، لتحميل موازنة رعب، قولًا مقترنًا بالفعل، من خلال الضرب المباشر ردًّا على ضرب أهداف إيرانية. ومن المرجّح استمرار طهران في الاستهداف الصاروخي لإسرائيل حتى توقّف عداء الأخيرة.

وإذ تُكشّر عن أنيابها، تحاول طهران استعادة ردعٍ ظنّت إسرائيل أنها أجهزت عليه بعد استهداف الدفاعات الجوية الإيرانية التي عادت للعمل بقوة مساء يوم الهجوم.

وإذ أقنعت إسرائيلُ واشنطن بضعف إيران، وابتاعت رضا ترامب في استهدافها، تردّ إيران عسكريًّا لتُذكّر واشنطن بأن الدعاية الإسرائيلية بعيدة عن واقع المقدرة العسكرية الإيرانية.

ثالثًا: الرد النووي وأسئلة الساعة

وإذ تأتي الردود العسكرية وتعافي منظومة القيادة والسيطرة  -بعد استبدال القادة- كردود مسرعة، يبقى السؤال الرئيسي حول الملف النووي: أي المسارات ستُرجّح إيرانيًا؟ فقد صرّح أناس من أعلى السلّم السياسي في إيران عن احتمال تغيير العقيدة النووية في البلاد إن جرى استهداف إيران وواجهت البلاد خطرًا وجوديًّا.

ويبقى السؤال في هذا الإطار: هل الاستهداف الإسرائيلي يرقى لذلك المستوى، أم أن التهديد موجّه لخطر التدخّل الأميركي؟
يشوب الغموض -ولو إلى حين- رؤية طهران، وقد يكون هذا الغموض هدفًا مرحليًّا بحد ذاته.

وإذ تركز طهران اليوم على تثبيت موازنة الرعب أمام إسرائيل، يبقى الإطار الأوسع ماثلًا أمام ساستها. ومن المستبعد استمرار العملية التفاوضية مع واشنطن في ظل تواطئِها الواضح مع الاعتداءات الإسرائيلية.

والإجابة عن سؤال إمكانية استمرار طهران في التفاوض مع واشنطن بعد وضع المواجهة العسكرية أوزارها غير واضحة. ويمكن تحديد خيارين أمام طهران:

  • فبمقدورها من جهة القول بتضرّر المفاعلات النووية، وأن التفاوض سيبدأ بعد تقييم الوضع النووي، وبذلك تدخل طهران خانة الغموض النووي وتستخدمه للضغط الدبلوماسي في مراحل لاحقة، أو تمضي في اتجاه قد يغيّر المعادلة النووية في الإقليم بشكل كامل.
  • ويمكنها من جهة أخرى اشتراط وقف الأعمال العدائية ضد الأهداف الإيرانية للاستمرار في العملية الدبلوماسية، واستخدام قبولها استمرار التفاوض مع واشنطن أداة ضغط لتوسيع الهوة بين واشنطن وتل أبيب.

ويُرجّح الخيار الأخير، نظرًا لعدم دخول واشنطن خط المواجهة المباشرة من جهة، وترجيح طهران الخيار الدبلوماسي لإلغاء العقوبات من جهة أخرى.

وأيًّا كان الخيار، فإن المعركة ما زالت قائمة، ومعها حساباتها العسكرية والدبلوماسية.

وفي ظل المعركة، فإن إيران ستستمر في استهدافات موجعة لتل أبيب لتثبيت وترسيخ موازنة رعب ظنّت تل أبيب أنها ولّت بلا رجعة، وستعمل طهران على عدم إفلات تل أبيب من العقاب، حسب المرشد الأعلى.

وهي، إذ تستهدف تل أبيب لإجبارها على وقف المواجهة، تحرص على وصول الرسائل الردعية إلى واشنطن.

فها هي تقول على لسان مندوبها في الأمم المتحدة إن إيران لن تتوانى عن الرد على المعتدي كحق مكفول قانونيًّا. وهي تحاور جاراتها والأطراف الدولية -غير الغربية- لإيضاح واقع الاعتداء وحق إيران في الرد، وحملها على إدانة المعتدي. وبتركها طاولة المفاوضات حتى انتهاء المواجهة العسكرية، تُحمّل طهران واشنطن مسؤولية توقّف العملية الدبلوماسية وتضغط عليها -بشكل غير مباشر- للنأي بالنفس عن مآرب إسرائيل، كما تسعى لتوسيع الشرخ بين أهداف الأخيرة من جهة، وداعمها الرئيس من جهة أخرى.

حاليًا في طهران، لا صوت يعلو فوق صوت المعركة. وتبقى القضية الرئيسية المرتبطة بحيثيات ومخرجات المعركة مركّزة على الملف النووي الإيراني.

وثمّة قضيتان في هذا الإطار العام: مدى الإضرار بالبرنامج النووي الإيراني أولًا، وترجيحات صانع القرار الإيراني في ذلك الملف في ظل الوضع المستجد ثانيًا. ستوضح الأيام القليلة المقبلة تلك المخرجات والحسابات المترتبة عليها.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version