تغيّرت معالم العالم قبل أن يُعلن عن وقف إطلاق النار في الحرب على غزة، وسيدفع الإعلان عن تحديد معالم عالم جديد، تبقى فيه الولايات المتحدة الفاعل الأساسي في منطقة الشرق الأوسط، وكل القوى التي حاولت أن تنازعها دورها في المنطقة، من روسيا والصين والاتحاد الأوروبي، توارت وخفَت بريقها.

لا شيء يمكن أن يقع مستقبلًا في المنطقة خارج الولايات المتحدة، أو ضد توجهها، أو في تعارض مع مصالحها.

يمكن القول إنه الزمن الثالث للولايات المتحدة، بعد الزمن الأول، عقب الحرب العالمية الثانية، وما اصطُلِح عليه بالسلم الأميركي، والذي دشنته الولايات المتحدة بحلف “كينسي” على ظهر الباخرة التي تحمل هذا الاسم في فبراير/ شباط من سنة 1945 (قبل ثمانين سنة بالضبط).

والزمن الثاني عقِب حرب الخليج الثانية، ورفْع الولايات المتحدة شعار النظام العالمي الجديد، والدمقرطة وحقوق الإنسان، قبل أن يعصف 11 سبتمبر/ أيلول بتلك الرؤى، بانخراط الولايات المتحدة في المنطقة، في الحرب على الإرهاب.

ويبدأ زمن ثالث، في أعقاب الإعلان عن وقف الحرب في غزة، لن يمثل قطيعة مع سياسة الولايات المتحدة في المنطقة، ومنها ضمان أمن إسرائيل، وتفعيل إطار أبراهام، والتعاون مع الدول العربية الحليفة في المنطقة.

يتجاوز هذا التطور دور الولايات المتحدة في المنطقة، إلى العالم بأسره. ستظل الولايات المتحدة قطب الرحى، عسكريًا، وإستراتيجيًا. وستشهد ولاية ترامب الثانية، تحولًا إستراتيجيًا في العلاقات الدولية، ينبني في جزء كبير على نتائج الحرب على غزة. ومن الوارد جدًا، في ظل ما تحقق من وقف إطلاق النار، برعاية أميركية، أن يؤثر على مسار الحرب الروسية الأوكرانية، في أفق وضع حد لها.

ستنثني كل من روسيا والصين، إلى قضايا إستراتيجية محلية، في محيطهما، إقليم الدونباس بالنسبة لروسيا، وتايوان بالنسبة للصين. ستعيد القوتان حساباتهما في اتجاه تخفيض تطلعاتهما ومطامحهما.

من النتائج الكبرى للحرب على غزة، تحييد الدور الإيراني في المنطقة، وضعف أذرعها في لبنان، أولًا، وهو ما سينعكس على الأذرع الأخرى في العراق واليمن. التحول الناجم عن الحرب على غزة يؤشر على نهاية الحقبة الإيرانية في المنطقة التي أثرت فيها إستراتيجيًا منذ اندلاع الثورة الإيرانية، إذ كانت سببًا غير مباشر في الحرب الإيرانية العراقية، وفي تقوية الاتجاهات الإسلامية، وتغيير الثقافة السياسية في المنطقة، وفي تفعيل المكونات الشيعية في الشرق الأوسط، بل التغلغل حتى في المناطق التي لم يكن فيها تواجد شيعي، في العالم العربي، وفي أفريقيا.

التغيير الذي طال الدور الإيراني، في خضم الحرب على غزة، هو ما انعكس على وضع سوريا فمكّنها من أن تتخلص من الثقل الإيراني الجاثم عليها، وأداته حزب الله.

التغيير الحاصل جراء الحرب على غزة ومضاعفاتها، من شأنه أن يهيئ الأرضية لنظام عربي جديد، تكون سوريا مدخله وبؤرته. ومثلما قالت باحثة فرنسية، فالتحول الذي وقع في سوريا، هو شبيه بالتحول الذي وقع بسقوط جدار برلين، من حيث تأثيره على أوروبا الشرقية.

من شأن تغيير السلطة في سوريا، أن يؤثر على العالم العربي كافة. لا يمكن أن يقارَن التغيير الذي وقع في سوريا، بأي تغيير للسلطة في العالم العربي في خضم الربيع العربي، في كل من تونس ومصر وليبيا.

ليس هناك سابقة يمكن أن يبنى عليها التحول الذي وقع في سوريا، ولن تَعرف المآل الذي عرفته الدول التي شملها التغيير في أعقاب الربيع العربي. واحتمالات النجاح أكبر من احتمالات الفشل لأسباب، منها:

  • أولًا: حجم المعاناة والدمار الذي عرفته سوريا، مما لا يجعل من خيار للسوريين أيًّا كانت مشاربهم، إلا تضميد جراحهم، وإعادة البناء، وعودة المُهجرين.
  • وثانيًا: دول الجوار، التي ليس من مصلحتها أن يترك الأمر على الغارب،
  • وثالثًا، الدول الأوروبية التي مسّها لهيب المأساة السورية من خلال حجم الهجرة ومأساويتها.

رفع العقوبات عن سوريا سيسهم في إعادة اندماجها. لكن الدور الكبير في تغيير معالم سوريا، سيعود إلى الدول العربية بعد أن عادت إلى حضن العروبة، وتخلصت من الوصاية الإيرانية والشيعية. ستكون سوريا بوابة نظام عربي جديد ومختبره، من خلال محور واقعي، مكوّن من الدول التي لها ارتباطات إستراتيجية مع الولايات المتحدة.

تراجعُ الدور الإيراني في المنطقة ليس بالضرورة أن يعوض بتمدد تركي. فقد لا تستعيد تركيا الدور الذي كان لها عقب الربيع العربي في المنطقة، بالنظر إلى ما آل إليه “الربيع العربي”، وبالنظر لحدود إمكانية تركيا، في ظل الأزمة الاقتصادية التي تعرفها، وفي عزم كل من السعودية ومصر النزول بثقليهما، بالنظر للتحولات الإستراتيجية، التي تسير في اتجاه نظام عربي بديل.

في الوقت ذاته، ستتغير الثقافة السياسية في المنطقة، أمام احتمال ضمور توجّه الممانعة. هناك احتمال أن تنسكب الثقافة في العالم العربي في القوالب الكونية. قد يستدعي ذلك مرحلة انتقالية، تقوم على أنظمة قوية.

ما مصير القضية الفلسطينية؟ هل حسم الخيار العسكري الإسرائيلي لصالح “وأد” القضية الفلسطينية، كما تُلوّح الاتجاهات اليمينية في إسرائيل أو تحلم به؟ أم أن حرب غزة أبانت مرة أخرى أن القضية هي لبّ المشكل في الشرق الأوسط. برز جليًا جوهرية القضية الفلسطينية، وكل محاولة للالتفاف عليها، ستبقى مصدر تهديد للأمن والاستقرار في المنطقة والعالم.

تبقى الأولوية، فيما بعد الحرب، هي إعادة إعمار الدمار الذي ألحقته آلة الحرب الإسرائيلية، ومن ثم تتوجب الدعوة لمؤتمر دولي، يتضمن بعدين:

  • حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وإعمار غزة.
  • عدم قرن الإعمار بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، سيسهم في الالتفاف على حقوقه.

المتغير الأخير هو إسرائيل. إسرائيل جديدة ستبرز من حطام الدمار الذي لحق بغزة. هل يمكنها ضمان أمنها، بسلك سياسة التعنت والرفض الممنهج لحقوق الشعب الفلسطيني؟ ستلاحق هذه الأسئلة الرأي العام الإسرائيلي. إلى ذلك، فصورة إسرائيل تضررت، إن لم تكن اهتزت من خلال بشاعة التقتيل والدمار اللذين ألحقتهما بالمدنيين والأطفال والنساء. ستبدأ معركة، بعد انتهاء الحرب، حول تركة الهمجية المرتكبة في حق الفلسطينيين.

لئن كانت بؤرة الحرب في غزة محلية، فلقد كانت ذات أبعاد كونية، وتداعياتها كونية كذلك. هناك ما قبل غزة، وما بعدها. عالم جديد يلوح في الأفق على أنقاض الضحايا والدمار والمعاناة التي اكتوى بها الفلسطينيون في غزة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version