لم يتغير الواقع الإستراتيجي لإسرائيل بعد عام من الحرب، فما فعلته لم يكن سوى مزيد من الهروب نحو الأمام، يحقق لها بعض الإنجازات التكتيكية لكنه لا يقدم أي إجابة للمجتمع الإسرائيلي عن المستقبل والأسئلة المصيرية التي استجلبها السابع من أكتوبر/ تشرين الأول. فقد دخلت إسرائيل الحرب على وقع صراع داخلي عميق حول هوية الدولة، وفقدان الثقة بين الجيش والمجتمع، وتآكل الردع. وقد أنهت عامًا من الحرب وقد أغرقها تطرفها في حرب متعددة الجبهات.

ومع الذكرى الأولى للسابع من أكتوبر/ تشرين الأول الذي اعتُبر أكبر تحدٍ وجودي لإسرائيل منذ قيامها، اعتبر المؤرخ الإسرائيلي بيني موريس “أن المرة الوحيدة التي واجهت فيها إسرائيل تهديدًا وجوديًا مماثلًا كانت في حربها عام 1948، والثانية في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول. تجد إسرائيل نفسها غير قادرة على الحسم والردع.

لقد حطمت حماس أوهام الإسرائيليين بشأن أمنهم، بشكل أعمق من أي وقت مضى منذ حرب 1973، وأدخلتهم في “صدمة جماعية” وفق الصحفي الأميركي ستيفن كولينسون. كما فقدت إسرائيل بريقها بالكامل على المستوى الدولي، وتحولت إلى دولة “منبوذة” تتعرض لمقاطعات اقتصادية وحظر على شحنات الأسلحة من دول عديدة، مما دفع الإسرائيليين إلى إخفاء هويتهم في كثير من دول العالم؛ خوفًا من الملاحقة والازدراء، وهي أسوأ صورة تخيّلت إسرائيل أن تقدمها للجيل الرابع فيها بعد 76 عامًا على تأسيسها.

أكد “معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي” في جامعة تل أبيب أن إسرائيل تقف أمام خطر عزلة دولية غير مسبوقة. واعتبر رئيس المعهد، اللواء احتياط تامير هايمان، “أن الساعة الرملية للشرعية الإسرائيلية فرغت تمامًا تقريبًا. وإسرائيل أمست اليوم في أقرب نقطة في تاريخها من عزلها دوليًا”.

بنت إسرائيل لنفسها صورة القوي المتفوق طيلة عقود، إلى أن تكَسّرت هذه الصورة في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، ومنذ عام وإسرائيل تحاول ترميم هذه الصورة دون جدوى. يعتبر الفيلسوف الإسرائيلي، ميكا غودمان، “أن إسرائيل تواجه معضلة، وهي أنها تريد أن يحبها الغرب، لكن يجب أن يهابها أعداؤها في الشرق الأوسط؛ لضمان وجودها على المدى الطويل”.

وكلما حققت إنجازات أمنية أو اختراقات مكّنتها من الزهو والتباهي، سرعان ما تتلقى ضربة هنا أو هناك تشعرها بأن ميزان القوة في المنطقة قد تغير. يبدو أن الحلم الذي وعد به نتنياهو وجنرالاته المجتمع الإسرائيلي بأن تكون إسرائيل في الذكرى السنوية الأولى لأحداث السابع من أكتوبر/ تشرين الأول قد سحقت كل أعدائها، ما زال بعيد المنال.

أحدثت إستراتيجية التحول نحو المعارك الطويلة أحد أهم التحولات التي أحدثها طوفان الأقصى في المجتمع الإسرائيلي وفي الجيش الإسرائيلي الذي بنى عقيدته على الحروب الخاطفة، لكنه اليوم يجد نفسه أمام حرب قد تبدو بلا نهاية ومتعددة الجبهات.

حطمت حماس أوهام الإسرائيليين بشأن أمنهم، بشكل أعمق من أي وقت مضى منذ حرب 1973، وأدخلتهم في صدمة جماعية

بواسطة الصحفي الأميركي ستيفن كولينسون

حاولت إسرائيل تحويل المأزق الإستراتيجي الذي تسبب به طوفان الأقصى إلى فرصة تاريخية للقضاء على أعدائها وإغراق حلفائها معها، لكنها فشلت في ذلك. فانهارت مفاهيم التفوق والردع والحسم، والحروب في أرض العدو، لتغرق إسرائيل في حرب استنزاف طويلة لا يبدو أن لها نهاية وشيكة.

وهذا هو الفخ الإستراتيجي الذي تحلم أي مقاومة عاقلة أن توقع عدوها فيه، وقد وقعت إسرائيل فيه بالفعل. يؤكد ذلك الجنرال إسحاق بريك “إن كافة المسارات التي اختارتها القيادة السياسية والعسكرية في إسرائيل تقود البلاد إلى منحدر زلق، وقد تصل قريبًا إلى نقطة اللاعودة”. وهو الفخ الإستراتيجي الذي تحدث عنه المفكر الروسي ألكسندر نازاراف الذي اعتبر أن قدرة المقاومة على تحويل الحرب إلى حرب بطيئة ومحدودة ولو على مستوى أعلى هو الذي سيؤدي للنصر الإستراتيجي.

لقد حوّل ذلك الحياة في المجتمع الإسرائيلي إلى واقع لا يُطاق، فأكثر من ثلث الإسرائيليين يفكرون في الهجرة، والمقتدرون يمارسونها فعليًا. يمكن ملاحظة الحركة النشطة لشراء الإسرائيليين شققًا وعقارات بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول في برشلونة، إيطاليا، المجر، واليونان، وانتقالهم للعيش فيها أو اعتبارها مكانًا بديلًا في حال انهيار الأوضاع.

كذلك تُعد المؤشرات الاقتصادية في إسرائيل مقلقة للغاية؛ بسبب تداعيات الحرب، التي يفاقمها أيضًا وجود وزير مالية هو بتسلئيل سموتريتش، المتهم من قبل خبراء الاقتصاد والمال في إسرائيل بأنه شخص عديم خبرة في المجال الاقتصادي.

بدأ التباطؤ في الاقتصاد الإسرائيلي يظهر وسط تحذيرات شديدة من الغرق في فخ الديون، خاصة مع الإفراط في الإنفاق على التسلح، الذي يعتبر الأعلى في العالم. فمتوسط الإنفاق الدفاعي مقارنة بالناتج الإجمالي عالميًا هو 341 دولارًا، لكنه وصل في إسرائيل حاليًا إلى 3000 دولار.

كذلك، وفقًا لصحيفة “ذا كونفيرزيشن” (The Conversation)، فإن اقتصاد إسرائيل يشهد أشد تباطؤ بين أغنى دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD). إضافة إلى تخفيض وكالتَي فيتش وموديز التصنيف الائتماني لإسرائيل لدرجتَين حتى الآن، وهو أمر غير مسبوق في تاريخها.

كذلك، انخفض الاستثمار في التكنولوجيا الفائقة الذي يشكل 20% من اقتصادها، وتوقف قطاع السياحة بالكامل الذي يشكل ثلث الاقتصاد الإسرائيلي. كما تعطل ميناء إيلات بالكامل، وحدث تشويش في سلاسل التوريد، بالإضافة إلى تعطل قطاعي البناء والزراعة، والتشويش في قطاع الأعمال الذي يحدثه تجنيد الاحتياط الذي تم بشكل غير مسبوق.

في السياق الداخلي الإسرائيلي، تعتبر إسرائيل نفسها قد تجاوزت عقدة السابع من أكتوبر/ تشرين الأول في جوانب، وأخفقت في جوانب أخرى. أما ما تعتبره إنجازًا لها فهو تمكنها من استعادة زمام المبادرة وتجاوز الصدمة والمبادرة إلى الهجوم، وما تعتبره تفكيكًا لمعظم قدرات المقاومة في غزة، ومنع جبهة الضفة من إسناد غزة بشكل فاعل، والمبادرة إلى اغتيالات وهجمات غير مسبوقة في لبنان وسوريا وإيران، حيث ترى أنها استعادت الردع أمام ما تطلق عليه محور الشر، خاصة في الاختراقات والاغتيالات الأخيرة.

لكن في المقابل، تعترف إسرائيل بأنها وبعد عام من الحرب ما زالت تواجه ذات التحديات التي بدأت بها الحرب، وهي: الفشل في تحرير الأسرى في غزة، وعدم القدرة على إعادة المستوطنين في الشمال والجنوب، وعدم القدرة على تفكيك حكم حماس المدني في غزة، وفشل إسرائيل في كسب التضامن الدولي وقرارات الهيئات الأممية، والمحاكم الجنائية والعدل الدولية.

أما داخليًا؛ فإن تتبع المجتمع الإسرائيلي هذه الأيام من يسار ويمين وسط ويمين متطرف ويمين ديني لا يلحظ وجود خلاف على الاستمرار في الحرب في كل الجبهات، ولكن الخلاف فقط بين من يريد ومن لا يريد أن يكون نتنياهو هو قائد هذه الحرب.

لا يمكن وصف ما يمر به المجتمع الإسرائيلي هذه الأيام على أنه جنوح نحو التطرف، فقد تجاوزت إسرائيل في نظرتها للصراع مفهوم التطرف إلى مفهوم التوحش، إذ تعتقد أنها بمزيد من التوحش يمكن أن تزيد في عمر الدولة، وهي العقيدة الوحيدة التي تحكم النخبة في إسرائيل.

فإسرائيل لا تحترم حتى من وقّع معها على اتفاقيات سلام. يعبر نتنياهو عن ذلك بصراحة في كتابه “مكان تحت الشمس” بأن العرب لم يجلسوا ليوقعوا اتفاقيات سلام مع إسرائيل إلا بعد أن فرضت إسرائيل قوتها عليهم، وسبق لوزير الخارجية الأميركي السابق هنري كيسنجر أن عبّر عن ذلك حين اعتبر أن العرب لا يجلسون على الطاولة إلا بالقوة. يفسر ذلك أحد أسباب رفض إسرائيل عقد صفقة مع المقاومة في غزة، حتى لو كانت شروطها معقولة لإسرائيل؛ لأن عقدها بحد ذاته يعني نهاية هذه النظرية في السيطرة على الشرق الأوسط.

بالعودة إلى حرب لبنان 1982، فقد أوصى جنرالات الجيش الإسرائيلي القيادة السياسية عام 1983 بضرورة عقد صفقة الانسحاب من لبنان لاستنفاد الأهداف، ولكن ذلك تأخر ثمانية عشر عامًا؛ بسبب عقدة “الانسحاب ضعف”، وأن ذلك سيضعف صورة إسرائيل أمام العرب والولايات المتحدة.

ويبدو أن هذه العقدة متلازمة وتعيد نفسها تاريخيًا مع غزة. وهو ما عبّر عنه رئيس أركان جيش الاحتلال السابق مردخاي غور إبان حرب لبنان 1982 بأن إسرائيل تغرق في الاعتبار التكتيكي والنغمة الوطنية، ورد عليه حينها رئيس وزراء إسرائيل مناحيم بيغن بأن حرب لبنان حينها “حرب اللاخيار بالنسبة لحياة مواطني إسرائيل والشعب اليهودي”، وكانت النتيجة مأساوية بعد ذلك بعقدين بانسحاب مهين لإسرائيل.

ويبدو أن هذا السجال يتكرر اليوم وبنفس الطريقة بين الجيش والمستوى السياسي في إسرائيل دون تعلم من تجارب التاريخ ويسير لنفس النتيجة.

تتمثل التغيرات داخل المجتمع الإسرائيلي بمزيد من تغلغل الصهيونية الدينية داخل المجتمع. وبعد أن تلقى اليمين الصهيوني ضربة قوية بشقيه الديني والعلماني في بداية الحرب، سرعان ما لملم أوراقه وأعاد إحكام سيطرته على المشهد الداخلي، وكأن المجتمع الإسرائيلي يعيش حالة إجماع أن ما فشل به التطرف يُعالج بمزيد من التطرف.

وحتى وإسرائيل تخوض أكثر معاركها مصيرية منذ تأسيسها، يتم إعادة هندسة المجتمع الإسرائيلي داخليًا باتجاه الانقلاب الشامل نحو تمكين الصهيونية الدينية من الجيش والأمن والاقتصاد، فكل من استقال أو تقاعد أو تم تغييبه أو يتم العمل على تغييبه في مراكز صنع القرار في إسرائيل، خاصة في الجيش، يتم استبداله بأحد أبناء هذه المدرسة الأشد تطرفًا في إسرائيل.

يعني ذلك أننا قد نكون مع نهاية هذه الحرب أمام مشهد انقلاب داخلي في إسرائيل قد يكون وقعه أشد من نتيجة الحرب ذاتها على مستقبلها.

الجيش الإسرائيلي الذي كان فوق الانتقاد في المجتمع الإسرائيلي أصبح اليوم مثار هجوم كبير سواء من قواعد المجتمع المفتقد للأمن أو من دوائر اليمين الصهيوني

تشهد إسرائيل بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول هجرة عكسية متصاعدة، تتكتم الدوائر الإسرائيلية على الأعداد فيها، لكن اللافت أن السمة الغالبة من هؤلاء المهاجرين هم من العلمانيين من النخبة الاقتصادية ورجال أعمال الهايتك والعلماء، وهو هروب مزدوج الشعور بين غياب الثقة بمستقبل الكيان، وعدم القدرة على التعايش مع الانقلاب الداخلي الذي تقوده الصهيونية الدينية المتحالفة مع النسخة المحدثة من أقصى اليمين العلماني.

وعلى الرغم من كل ما أحدثه الجيش الإسرائيلي من دمار مهول وتوحش غير مسبوق، فإنه لم ينجح حتى الآن في ترميم الصدمة الوجودية التي أحدثها طوفان الأقصى، ومن أهم معالمها انهيار الثقة بين الجيش والشعب. فأصبح الجيش الذي كان فوق الانتقاد في المجتمع الإسرائيلي مثار هجوم كبير، سواء من قواعد المجتمع المفتقد للأمن، أو من دوائر اليمين الصهيوني الذي يسعى لتغيير هويته بالكامل.

يضاعف متاعب هذا الجيش تململ المجتمع من تجنيد أبنائه في حرب طويلة، والهروب المتصاعد من الخدمة، والنزاع على تجنيد “الحريديم” المتدينين الذين يشكلون 13% من المجتمع. لقد انتهت قداسة الجيش في المجتمع الإسرائيلي.

عززت معركة طوفان الأقصى والحرب في الشمال من انكماش إسرائيل نحو المركز، وهو أحد أهم نقاط الضعف الجغرافي في إسرائيل، حيث يعيش 60% من الإسرائيليين في أقل من 500 كيلومتر مربع، فيما يُطلق عليه منطقة المركز التي تضم تل أبيب الكبرى حتى حيفا وما جاورها. ومع هروب الإسرائيليين من مستوطنات الغلاف مع غزة والشمال مع لبنان، ازداد سكان المركز. يُعتبر ذلك مهددًا جغرافيًا إستراتيجيًا لإسرائيل، فاقمته الحرب الأخيرة، وله مدلولات خطيرة في مفاهيم الأمن القومي.

كسرت إسرائيل في هذه الحرب كل ما كانت تتباهى به من “ممارسات ديمقراطية” في مجتمعها الداخلي، فانتهت بروباغندا “الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”، بعد أن فرضت قيودًا صارمة وإجراءات بوليسية مشابهة لتلك الموجودة في الدول الدكتاتورية، ليس على الفلسطينيين في الضفة والقدس فقط، ولكن على مجتمعها ومن يحمل جنسيتها بمن فيهم فلسطينيو الداخل.

ملاحقات واسعة على خلفية التعبير عن الرأي، لدرجة أن فلسطينيين من الداخل تم اعتقالهم لكتابة آية “إنا لله وإنا إليه راجعون” شبهة بأنها تعاطف مع غزة، كما حرَمت بتعميم رسمي آيات من القرآن الكريم في مساجد الداخل، ومنها “واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا”.

وكذلك فقد فُصل كثيرون من عملهم لمجرد التعاطف مع المدنيين في غزة، واستُبيحت بإجراءات الطوارئ كل الخصوصيات والحريات الفردية والجماعية ليهود وعرب. دخلت العلاقة بين فلسطينيي 48 واليهود في علاقة جديدة من اللاعودة.

كما انكشف زيف حرية الإعلام في إسرائيل، الذي وصفه مراقبون بأنه تحول إلى “كلب حراسة للمستويين السياسي والأمني”، وبأنه أصبح من أكثر الإعلام في العالم تضمنًا لمحتوى الحقد والكراهية وخطاب الإبادة.

كما عمل وزير الأمن الداخلي بن غفير على تسليح المجتمع، مصدرًا نحو 400 ألف رخصة سلاح؛ بذريعة الحماية من العمليات الفدائية، ما أدى لعسكرة المجتمع، وهو أمر له آثاره المستقبلية الكارثية على المجتمع الإسرائيلي.

يقال في علم النفس أن كثرة ترديد الكلمة من شخص ما دليل على الهواجس التي تسكنه تجاهها. ولسنا بحاجة إلى كثير من الاستدلال على كثرة استخدام نتنياهو وقادة إسرائيل حتى بعد عام على السابع من أكتوبر/ تشرين الأول مصطلحات: “الوجودية”، و”بقاء إسرائيل”، و”عدم زوالها”.

يعيش المجتمع الإسرائيلي حالة من “الانتهاك العاطفي”، والتي ستكون آثارها كارثيّة عليه بعد الحرب أكثر من الحرب ذاتها. وهي ستنتج قيادات ذات مستويات غير مسبوقة من التطرُّف لسنوات طويلة قادمة، قد تحمل معها بداية نهاية إسرائيل بشكلها الحالي كدولة ومُجتمع.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version