غزة- بينما كانت يد إسرائيل تسفك دماء الأبرياء في قطاع غزة، كانت يده تسد النزف، تنتزع الموت، تخيط الجرح وترمم العظام المفتتة، إنها يد جرّاحٍ ثبت في غزة، بقي حين اضطر آخرون لمغادرتها.
“الجزيرة نت” توجهت إلى الطبيب الجراح فضل نعيم في مأواه، حيث المستشفى الأهلي العربي “المعمداني” الذي اتخذه بيتا لم يبرحه خلال أشهر الحرب السبعة.
خرج لنا الطبيب نعيم من غرفة العمليات بملابس الجراحة الخضراء المضرجة بدماء المصابين، لم تُخفِ كمامته ونظارته ذبول وجهه الذي ينمُّ عن إرهاق يسري في جسده، يضاعفه تأثره على فراق صديقه الطبيب عدنان البرش الذي قضى في سجون الاحتلال قبل أيام.
يرد على تعازي الوافدين لمواساته وطيفُ دمعٍ يلوح في عينيه متسائلا “كيف أودى التعذيب بجسد صديقي المتين وببنيته الصلبة، وهو الرياضي الذي يمارس السباحة 3 ساعات يوميا، ويهتم بغذائه، ولا يعاني من الأمراض أو يشكو من الأوجاع؟”.
يطرد نعيم من مخيلته الأفكار التي خامرته حول الطريقة التي أتلف فيها المحقق جسد زميله قائلا “أرجو أن تكون رحمة الله غشيته، ولم يشعر بشيء، كما إبراهيم -عليه السلام- لم تحرقه النار”.
إلى رحمة الله د. عدنان البرش شهيد التعذيب بسجون الجيش الاسرائيلي بعد اختطافه من المشفى أثناء تأدية واجبه الانساني بحق جرحى غزة،
تتحمل النقابات الطبية العربية أولاً على عاتقها مسؤولية صمتها المُخزي إزاء قتل واختطاف وإبادة الطواقم الطبية بغزة طيلة 7 أشهر
pic.twitter.com/dpg485Y0Tg— Nour Naim| نُور (@NourNaim88) May 2, 2024
لا حصانة لطبيب!
يُحدّث نعيم الجزيرة نت عن “أخيه الأصغر” البرش الذي لم يملأ حياته بالطب فقط، بل كان شغوفا بالرياضة والسياسة مما دفعه لاختيار العلوم السياسية تخصصا لدراسته العليا، ويقول “كان عدنان طموحا جدا وبارا بوطنه وبأبناء شعبه، فقد رفض مناصب إدارية ليظل قريبا من خدمتهم”.
كان رفيق المهنة حلقة الوصل بين مشفى الشفاء والمعمداني لتنظيم توزيع الجرحى بين المشفيين، فكان التواصل بينهما يوميا ومتكررا.
لم يكن فقد البرش الضربة الأولى التي قصمت ظهر الجراح، فاستهداف صديقيه الطبيبين عمر فروانة ومحمد دبور وارتقاؤهما كان قد آلمه من قبل.
ولعل ما آلمه أكثر ذلك الصمت الرسمي للنقابات والهيئات الطبية التي لم تنبس ببنت شفة تجاه استهداف الأطباء، لا سيما “جريمة قتل عدنان النكراء التي لا يختلف بشر على فداحتها”، قائلا “تخصص عدنان في الأردن وبريطانيا وله زملاء كثر هناك، لماذا لم نسمع استنكارا واحدا، أو نر وقفة واحدة من أجله!”.
“لم أكن أتوقع أن يكون الأطباء هدفا، ولم أتخيل يوما ألا تمنح الحرب حصانة لأحد!” يقول نعيم الذي كان في الحروب السابقة يستقل سيارته الخاصة للتنقل بدون قيود، لكنه اليوم يجد الطواقم الطبية وسيارات الإسعاف والمشافي تحت مرمى القذائف الإسرائيلية عن سبق إصرار وترصد.
ففي ساحة المعمداني، التي شهدت سقوط أكثر من 500 شهيد وآلاف الجرحى كان معظمهم من النساء والأطفال النازحين في مجزرة مشهودة، تجولت الجزيرة نت مع الدكتور نعيم الذي أصيب في رأسه حين خرّ عليه سقف غرفة العمليات حيث كان موجودا.
يقلّب عينيه كشاهد على مسرح الجريمة، ويسترجع “تفاصيل لن تمحوها ذاكرته” ويقول: لأول مرة أعي قول الله “يوم يكون الناس كالفراش المبثوث”.
قطع لحم متناثر في كل مكان، بحيرات من الدم تغطّي الأرض، ناجون يهرولون بلا وجهة أو هدف، صراخ وذهول كأنها أرض القيامة، وسيل من البشر يستغيثون بالأطباء داخل أبنية المشفى الذي خرج عن نطاق الخدمة بعد انقطاع التيار الكهربائي عنه بشكل كامل بفعل الغارة.
طب الحروب
وفي الوقت الذي يحاول الطبيب جاهدا تقديم العلاج الأمثل لمرضاه، فإن قلة الإمكانات تحول دون ذلك. احتبس الهواء في رئتي الطبيب، وهو يستذكر السيدة التي تمسّكت بقدمه وشدّت عليها لإنقاذ ابنها الغارق في النزع الأخير.
موقف قاس تتمسك فيه الأمهات ببصيص أمل يرينه موجودا، في حين يصنفه الأطباء بعلمهم أنه مفقود.
يقول نعيم “نصنف الحالات بين خفيفة وصعبة وميؤوس منها، نتعامل مع الحالات الصعبة، ونترك الميؤوس منها، ونرجئ البسيطة”. وهو تصنيف اضطر إليه الطاقم الطبي الذي لا يتجاوز 10 أشخاص فقط في مستشفى المعمداني، يتولّون علاج جلّ مصابي شمال القطاع بعد انهيار مجمع الشفاء الطبي.
ويصعّب التصنيف عليهم الالتزام بالبرتوكول الطبي في كثير من الأحيان، فلا وقت لتبديل الطاقم ملابسهم بين العمليات، ولا لمنح المصابين حقهم في التعقيم والإجراءات الروتينية، إلا أن القرار الطبي الجراحي كان يؤخذ برويّة، بما يضمن أساسيات العمل الثلاثة لطب الحروب، والتي تتمثل في إنقاذ الحياة وإنقاذ الطرف والحفاظ على شكله.
“سنستمر” كان القرار الحاسم الذي أخذه نعيم مع ثلة من الأطباء المتبقيين في المعمداني، بعد نزوح المئات منهم، وكانت أولى خطواته لتطبيق القرار هي سد الفجوات الإدارية والطبية التي أحدثها تركهم، وقد تمكنوا بالفعل.
لا ينكر نعيم انهيار المنظومة الصحية في جانب الخدمات المتقدمة كعمليات القلب المفتوح وجراحة الأعصاب، فلا إمكانات ولا كوادر لإجراء هذه العمليات في الوقت الراهن، في حين يحاول الأطباء المتبقون في غزة ترتيب ملفات المنظومة الصحية وترميم بعض المؤسسات الموجودة لتقديم خدمات الرعاية الثانوية والأولية.
تلك محاولات لإحياء ما يحرص الاحتلال جاهدا بالقضاء عليه من خلال هجماته المتكررة والمتعمدة على مستشفيات القطاع عامة ومجمع الشفاء الطبي خاصة، “الذي يمثل لأطباء غزة تاريخا طويلا ومنظومة ومشاعر، ويتجاوز كونه مباني دمرت وسيعاد بناؤها”، بحسب نعيم.
بُعد وفقد بالجملة
ويكمل “مجمع الشفاء يضم تحت سقفه أكثر من 700 طبيب متخصص، ويحوي أجهزة نوعية وإمكانات فريدة، مما جعله محط انبهار الوفود، باعتباره إنجازا انتصرت به غزة على حصارها المفروض عليها منذ سنين”.
أمّا على الصعيد الشخصي، فقد نحى الدكتور فضل العاطفة جانبا، فلم يكن خيار العودة إلى العائلة في مدينة النصيرات جنوب وادي غزة مطروحا، فـ21 عاما من العمل المتواصل في أروقة المعمداني رجّحت كفة بقائه على رأس عمله.
ورغم أن نعيم يحمل جنسية أجنبية، فإنه لم يحاول الخروج من غزة، ولم يفكر أصلا بذلك، كما يقول.
يبرر ذلك بسؤاله “كيف تكون غزة وجهة الوفود الطبية ونخرج نحن الأطباء منها؟ لمن وكيف سأتركها وأنا الذي كنت أحرض طلاب كلية الطب للبقاء فيها وعدم التخلي عنها أبدا؟”.
بقاء أبعده عن عائلته التي فقد منها 7 شهداء من بينهم والدته، في استهداف مباشر للشقة التي كان يوجَد فيها شقيقه الطبيب جمال نعيم في مدينة دير البلح وسط القطاع. خبر تلقاه فجرا برسالة نصية يعجز عن تقبله حتى اللحظة -كما يقول- لأنه لم يشهد تفاصيله!
يردف قائلا “نزل خبر إصابة أمي البليغة كالصاعقة، كيف تصاب أمي بكسور وابنها طبيب عظام وليس معها، كيف ستعيش سيدة البيت مقعدة عاجزة متألمة ولست بجوارها لأخفف عنها”.
وصل إليه بعد ساعات خبر ارتقائها الذي رآه نعيم رحمة لها من كل العذاب والألم، لكنه لم يتمكن من وداعها ودفنها، رغم قرب المسافة بسبب الحاجز الإسرائيلي المنصوب في الطريق بينهما.
المجاعة عبء إضافي
ذلك فقد ينهك الروح والجسد في ظل 17 ساعة يقف فيها الدكتور نعيم على قدميه بتركيز فائق في غرفة العمليات ليستأصل أوجاع الفلسطينيين، تكون صلواته هي فواصل الراحة فيها، ووجبة طعام وحيدة يتناولها طيلة النهار.
تركت المجاعة آثارها على جسد الدكتور الذي فقد 17 كيلوغراما من وزنه، فقد كان مرورها على الأطباء مضنيا. يصف نعيم للجزيرة نت حالتهم في تلك الفترة “أكلنا الشعير وفول الصويا، وتذوقنا طعاما لأول مرة نتعرف عليه، والتهمنا أطباقا لم نكن نأكلها البتة”.
أصبح البحث عن الطعام عبئا إضافيا عليهم، يضطر الدكتور نعيم للقيام به في أسواق المدينة علّه يخفف من وطأة المجاعة على العاملين في المستشفى.
لا يشغل “اليوم التالي للحرب” الساسة فحسب، بل هو تخوف يخشاه جراحو العظام ويرون فيه مرحلة أخرى تتطلب جهودا مضاعفة ومتابعة وجراحة ترميمية.
الأمر الذي لا يمكن للكادر المتاح حاليا السيطرة عليه، مما يتطلب عودة الكوادر النازحة والإمداد بالأدوية والمستهلكات، وإعادة تأهيل وإعمار المباني وتنظيم الأقسام وتأمين الطواقم وتوفير احتياجاتهم.
ورغم أن الحرب انتزعت منه أمّا وأحبة ورفاقا وعافية، فإنها منحته حب الناس وتقديرهم الذي يلتمسه في سلامهم الحار وابتساماتهم العريضة وما تبوح به عيونهم، وهو ما يظهر جليا خلال سيره في شوارع غزة، وهم على قناعة أن للجراح من اسمه نصيب، ففضله عمّ على سائر الثابتين الذين اختاروا البقاء رغم أنف إسرائيل.