منذ خواتيم القرن الخامس عشر والغرب – ولمدة خمسة قرون – لم يتوقف عن إبادة من يرى لزوم إبادته، بدءًا من شعوب الأميركتين وأستراليا وأفريقيا وآسيا، ثم وصولًا إلى آخر حصون المقاومة الفلسطينية شتاء 2023 – 2024 م، فبعد مائة وستين يومًا من حرب صهيونية متواصلة على غزة، مدعومة بالسلاح والدبلوماسية والإعلام الغربي، تم إضعاف تأثير قوى المقاومة – وبالذات في شمال القطاع – فضلًا عن استشهاد عدة آلاف يقال إنهم ثلاثة عشر ألفًا من المقاتلين المدربين من جملة ثلاثين ألفًا هم حصيلة الشهداء في خمسة شهور من مقاتلين ومدنيين.
وإذا تمكّن العدوّ من الوصول إلى رفح في الجنوب، وإذا تركه العالم يفعل ما فعله في شمال القطاع، تكون الحرب قد وصلت إلى غايتها التي أرادها العدو والتي تواطأ معه عليها العالم كله، وسكتت عنها حكومات العرب والمسلمين إلا في استثناءات لا تكاد تؤثر على مسار العدوان في قليل أو كثير، بينما تقف غزة نفسها، بأهلها الذين يزيد عددهم على مليونين، شاهدةً على استعداد النظام الدولي بقيادة أميركا للتسامح مع إسرائيل ثم التعاطف مع إسرائيل، ثم تزويد إسرائيل بالسلاح والمشورة العسكرية والدعم الدبلوماسي والتغطية.
تضحيات ودروس
المقاومة قدمت الاثنين معًا: قدمت البطولات والتضحيات التي جددت الأمل في أنفس مناصريها في العالم كله، كما قدمت الدرس الأعمق، وهو كشف الغطاء عن عنصرية إسرائيل وأميركا والغرب، العنصرية التي تمنح الحق للحضارة البيضاء في إزالة من سواها إذا اعترض طريقها.
البروفيسور إيان لوو Ian Law الباحث في دراسات العنصرية والإبادة الجماعية ومؤسس ورئيس مركز دراسات العرقية والعنصرية في جامعة ليدز Leeds University في المملكة المتحدة، في ص 259 من الترجمة العربية لكتابه: ” العنصرية والتعصب العرقي Racism and Ethnicity “، يقول: ” العنصرية ضد الفلسطينيين هي أكثر حالات العنصرية قمعًا وإخضاعًا وإهانةً ودمويةً “. وهو يرى أن تأسيس إسرائيل – بصورة فعلية – بدأ على الأرض فور انسحاب العثمانيين من الشام، وانتهاء حكمهم له، مع هزيمتهم في أواخر الحرب العالمية الأولى في شتاء 1917م.
النظام الدولي المعاصر من تأسيس عصبة الأمم 10 يناير/كانون الثاني 1920م حتى تأسيس الأمم المتحدة أكتوبر/تشرين الأول 1945م حتى تواطؤ العالم على إبادة المقاومة 2024م، أكثر قليلًا من مائة عام تمثل النقيضين: تمثل ذروة الهيمنة الغربية – أوروبا ثم أميركا – على مقادير العالم، كما تمثل خلو العالم – لأول مرة – من أي تمثيل سياسي للمسلمين كأمة واحدة منذ تأسيس دولة المدينة في العام الهجري الأول 622 م.
تقريبًا مائة عام خالية من أي شكل للوحدة بين المسلمين، مع انزواء الخلافة العثمانية عن التاريخ، بعد صراع دامَ قرنَين كاملين مع الأمراض وأسباب السقوط. عصبة الأمم 1920م كانت عنوانًا على حقيقتين: الانتصار النهائي والحاسم للغرب على الإسلام، نظام دولي بلا إسلام، نظام دولي أوروبي، سقطت آخر أشكال التمثيل الإسلامي، وسقطت معها في الوقت ذاته وفي الحرب ذاتها إمبراطورية النمسا والمجر التي كانت حائط الصد الذي يقاوم التوغل العثماني في أوروبا، تم تفكيك الإمبرطوريتين معًا، كل منهما إلى عدة دول، مع فارق أن تاريخ الغرب بقي موصولًا دون انقطاع، تحل أمة مكان أمة، مع الإبقاء على التوجهات الكبرى لروح وجوهر وصميم وعقل وميراث أوروبا الحديثة.
صدام تاريخي
لقد تشكلت أوروبا الحديثة مع طلائع الحروب الصليبية عند خواتيم القرن الحادي عشر، تشكلت – في صميم شخصيتها – على مدى قرنين من الزمان من 1097م حتى 1291م، تاريخ متواصل خرجت فيه أوروبا – لأول مرة منذ سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية 476م – من قمقمها الذي تعفّنت في قهره القرون الطوال، خرجت وما زالت في خروج دائم وانتشار قائم حتى هذه اللحظة.
درْس قرنين من الحروب الصليبية هو: أوروبا يلزمها – كضرورة حياة وبقاء – أن تخرج من قوقعتها، ثم تنتشر إلى أبعد مكان في الكون، هذا هو نصف الدرس. أما نصفه الثاني فهو أن أوروبا يلزمها – كي تبقى – أن تكون قلعة حرب ومصنع سلاح وقوة استنزاف لطاقات غيرها وثرواتهم ودفعهم نحو الاستسلام لقيادتها.
هذا الدرس الأوروبي أعاد تأكيد نفسه ثلاث مرات: الأولى في قرنين من الكشف الجغرافي، والكشف الجغرافي هو الاسم المخادع للسطو المباغت على مقدرات الشعوب. والثانية في قرنين من الاستعمار الذي أذل أعرق شعوب الأرض، ثم الثالثة في القرن العشرين حيث تأكد مستجدان : تسلم أميركا دفة القيادة العالمية، وتأسيس إسرائيل .
مثلما تاريخ أوروبا الحديثة يبدأ من الحروب الصليبية، فكذلك تاريخ منطقتنا – الشرق الأوسط – يبدأ بالحروب الصليبية، فالصدام التاريخي الذي بدأ قبل أقل من ألف عام مازال يتجدد تحت أشكال مختلفة، لكن الجوهر قائم لا يتغير، وهو تأكيد هيمنة الغرب وتفوقه، وبالتالي تأكيد هوان الشرق الإسلامي وضعفه.
كانت الحروب الصليبية – رغم اندحارها – أول هزيمة بالمعنى التاريخي العميق لعالم الإسلام، هزيمة تُنهي قرون التفوق، وتبدأ قرون الصراع، ثم تحسم الصراع لصالح الغرب على حساب الشرق، كانت أول هزيمة على طريق طويل من الصراع، كما كانت أول انتصار يمنح الغرب الثقة في نفسه، في ذروة هذا الطريق تواجهنا ثلاث حقائق:
1 – المسلمون بلا تمثيل يوحّدهم أو يجمعهم أو يعبر عن أي لون من ألوان التناصر فيما بينهم، حتى لو كان مجرد إطعام الطعام وإغاثة الضعيف، لم يبقَ لضعفاء المسلمين غير الدعاء في الصلوات يسرفون فيه ويزيدون منه ويأملون من ورائه النصر الذي لم يعدّوا له عدته في قليل أو كثير.
2 – تجسيد قوة الغرب وتفوق غير مسبوق في إمبراطورية أميركية جمعت عنف كل ما سبقها من إمبراطوريات التاريخ تحت رداء الحضارة والديمقراطية والقيم العالمية.
ترجمة ألف عام من صليبية الغرب فيما استجد من تأسيس دولةٍ صهيونيةٍ – تحت اسم إسرائيل- مسموحٍ لها قبل أن تكون دولة ثم بعد أن صارت دولة أن تمارس – تحت ضمان الغرب ورعايته وكفالته – أسوأ أشكال الإبادة العنصرية ضد الشعب الفلسطيني.
تاريخ استثنائي
تود إسرائيل، ويود الغرب، وتود أميركا لو يأتي عليهم يوم يخلو فيه العالم تمامًا من آخر فلسطيني كان على قيد الحياة، وهذا ليس من باب الخيال، إنما هو حقيقة سبق تجريبها، فقد سبق أن احتفل المستعمرون الغربيون بوفاة آخر إنسان من أصحاب البلد الأصليين، فقد قتل المستعمرون الإنجليز آخر إنسان من أهالي جزيرة تسمانيا – في أستراليا – عام 1869. وقد استغرقت عمليات إبادة شعب الجزيرة خمسة وستين عامًا من 1804 – 1869م.
المقاومة الفلسطينية، هي آخر تجسيد لـ (نحن العربَ والمسلمين)، في مواجهة مزدوجة مع قيادة العالم التي هي أميركا، ومع ترسانة سلاح الإقليم وهي إسرائيل، وكل منهما تمتاز بحقيقة تاريخية استثنائية وهي أن وجودهما نتاج إبادة أهل البلاد الأصليين، أميركا نتاج إبادة متواصلة لشعوب الهنود الحمر، وإسرائيل نتاج إبادة متواصلة لقوى الشعب الفلسطيني.
لذا ينبغي إدراك أن الواجب الأول للمقاومة الفلسطينية – كافة أشكال المقاومة – ليس هزيمة إسرائيل في معركة أو حرب مسلحة، فموازين القوة بالغة الاختلال، إسرائيل تنصرها إمبراطورية عسكرية عظمى غير مسبوقة في التاريخ، ومعها عدة إمبراطوريات أوروبية كانت تحكم العالم حتى منتصف القرن العشرين.
وفي المقابل فإن المقاومة الفلسطينية انخلع عنها وانفصل أي دعم عربي أو إسلامي له مغزى. السلاح الفلسطيني أعزل في مواجهة سلاح حضارة الإبادة، لكن الحق الفلسطيني أقوى من خصومه في ضمائر الشعوب، الطبيعة العنصرية للسلاح الصهيوني – الأميركي تستهدف إبادة المقاومة لكنها – دون قصد منها بل وغصب عنها – تسببت في أكبر نصر معنوي وقيمي وأدبي وأخلاقي للمقاومة في ضمائر شعوب العالم كله.
هذا النصر الأخلاقي هو ما خرجت به المقاومة من حرب المائة والستين يومًا والثلاثين ألف شهيد والتدمير الوحشي الكامل لقطاع غزة، ومرافقه وبنيته التحتية، وكل مظاهر حضارته وثقافته.
وارد جدًا أن تسفر الحرب عن تثبيط الكفاح المسلح عند حدود العدم أو قريبًا منها، لكن الهدف من الحرب لم يتحقق، استئصال روح المقاومة لم يتحقق، إبادة الفلسطيني الأخير لم ولن تتحقق، جوهر الصراع له معنيان متلازمان: الأرض لمن، للمشروع الصهيوني أم لأهل البلاد؟ ثم المعنى الثاني: البقاء لمن؟
والمعنى الثاني أخطر من الأول وأعمق، فالشعب الفلسطيني هو من سيستردّ الأرض، لذا فسلامته وبقاؤه وديمومة تجدده رغم كل محاولات إفنائه هي الأولوية في هذه المرحلة من الصراع الذي بدأ قبل ألف عام وربما يستمر ألف عام أخرى. النصر هو عدم تمكين حضارة الإبادة الصليبية – الصهيونية من إفناء آخر فلسطيني.
تاريخ القضية الفلسطينية هو تاريخ استثنائي في مقاومة الإفناء والإبادة .
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.