مراسلو الجزيرة نت
نابلس- وكأن الاحتلال الإسرائيلي بقتله الزميلة شيرين أبو عاقلة لم يشبع حقده الدفين ولم يشف غرائزه الانتقامية، فاستهدف مكان استشهادها بمخيم جنين شمال الضفة الغربية وصرحا أقيم لها بالمكان، بعد أن أضحى مزارا يقصده الناس من كل حدب وصوب، ليعاينوا عن قرب جريمة الاحتلال وبطشه، الذي طال أيضا نُصُب الشهداء ومعالمهم في كل مدن الضفة ومخيماتها وقراها.
وبعد استهدافه البشر والشجر والحجر في اقتحامه للمناطق الفلسطينية، باتت النصب التذكارية التي يشيدها الفلسطينيون لتخليد ذكرى شهدائهم وتمجيد بطولاتهم ضمن بنك أهداف الاحتلال وفوهة جرافاته العسكرية، التي أتت على العشرات منها، في انتهاك كشف حقدا دفينا يضمره الاحتلال لكل ما هو فلسطيني.
واستهدف الاحتلال نصب شيرين المقام عند المدخل الشمالي الغربي لمخيم جنين مرتين، أولاهما في يوليو/تموز الماضي حيث هدم أجزاء منه، ثم عاد بعد أسابيع قليلة وهدمه بشكل كامل، لا سيما الحائط الذي رسمت عليه جدارية لها، وشجرة الخروب التي حملت اسمها، ومعلقات الزوَّار وتذكاراتهم التي خطوها بأيديهم، في رسالة عكست “كمية الحقد والكره داخل جنود الاحتلال الذين اغتالوا شيرين في المكان” حسب وصف طوني أبو عاقلة شقيق شيرين.
لن يمحو الجريمة
ويقول أبو عاقلة للجزيرة نت إن “ذلك يدل أيضا على سياسة ممنهجة، وإرهاب من الاحتلال لطمس الحقائق، وخوفهم من اسم شيرين حتى بعد استشهادها، أو ما يذكرهم بها”، ويقرن أبو عاقلة بين هدم نُصُب شيرين ودمار كبير أحدثه الاحتلال في مخيم جنين لأكثر من ألفي بيت، بـ”عدم محاسبة إسرائيل وجيشها الإرهابي”، ويقول إن “غياب المحاسبة سيوقع الشعب تحت دمار أكبر”.
“لا يمكن للاحتلال محو شيرين من الذاكرة” يقول شقيقها، “وهي راسخة كأيقونة فلسطينية في عقول الأجيال المقبلة، وكذلك مكان استشهادها، فهو باق في قلوب كثيرين، مهما حطَّم الاحتلال وكسَّر”، وقال إنهم سيعيدون بناءه “بما يليق بشيرين، ومدينة جنين ومخيمها الصامد”.
ويقول الصحفي علي سمودي للجزيرة نت، وهو الذي كان زميل شيرين ورفيقها وقت الحدث إن “المكان الذي أضحى مزارا ارتبط كله باستشهاد شيرين، وسمي الشارع باسمها، وسيرتها يتداولها الناس باستمرار”، وأكد أن الاحتلال لن يستطيع محو ما جرى مع شيرين من ذاكرته، وأن جريمته لن تنتهي عند هدم الصرح الذي سبق أن تعرض له مرات عدة بإطلاق النار.
حرب لا تبقي
وفي مخيم جنين أيضا، هدم الاحتلال عشرات النصب التذكارية، وأبرزها قوس النصر (بوابة المخيم)، وصرح العودة الذي يحمل أسماء القرى المهجرة، و”حصان جنين” الذي بني من حديد وبقايا منازل أهالي المخيم ومركباتهم وسيارات الإسعاف التي حطمها الاحتلال خلال اجتياحه المخيم عام 2002.
وبضربه لكل المعالم الوطنية داخل المخيم وفي محيطه، التي تعبر عن حالته النضالية، يقول رئيس لجنة خدمات مخيم جنين محمد صباغ إن “الاحتلال يبعث برسائل مفادها طمس الوعي، وإخراج حالة المقاومة من إدراك الناس، إضافة لحربه الشاملة على الفلسطينيين، وعلى مخيم جنين دون أي محاذير وقيود”.
ويقول صباغ للجزيرة نت إن “إسرائيل تشن حربا على كل ما يعتز ويفتخر به الفلسطيني، ولا سيما المقاومة، التي تريد إسرائيل أن تجعل منها نقمة عليه، عبر عقاب جماعي عليهم، ولكنها لن تنجح، كون الفلسطيني ونضاله المستمر من 76 عاما أعمق وأكبر من أن يرتبط بموقع وبجغرافيا، أو بمعلم يحكي تاريخ مقاومته”.
ويضيف صباغ “لا يوجد بيت في مخيم جنين غير مكلوم، ولم يدفع الثمن بفقد شهيدين أو أسيرين أو جريحين على الأقل، إضافة لتدمير البنية التحتية بالكامل ومنازل المواطنين، وهو ما يعكس فشل الاحتلال وإفلاسه في محاربة البشر ليحارب نصب الشهداء وصروحهم”.
ومثل مخيم جنين، عاشت مخيمات مدينة طولكرم ونابلس الهدم ذاته، وكذلك الحال في مواقع مختلفة في قرى ومدن الضفة الغربية، لدرجة أن هذه الصروح أضحت هدفا بحد ذاتها.
رمزية كبرى
ورغم أن عهد النُصُب التذكارية قديم في حياة الفلسطينيين، فإنها ظهرت بشكل أكثر في العامين الأخيرين، مع تصاعد حالة المقاومة وبروز كتائب مقاومين في الضفة الغربية، فاتخذت بعض هذه النُصُب طابعا فرديا، بينما حملت أخرى أسماء مجموعة من الشهداء وصورهم.
ويقول الناشط في مخيم نور شمس إبراهيم النمر إن “الاحتلال يتقصد هدم هذه النُّصُب، قديمها وجديدها، لا سيما شهداء كتيبة المخيم الذين رسخوا في عقول وقلوب هذه الأجيال الشابة، كالشهيد سيف أبو لبدة مؤسس الكتيبة، فهم لا يريدون استذكار الشهيد اسما فقط، بل يخلدون حكايته ونضاله”.
وإضافة إلى سردية تخليد واستذكار الشهيد، عززت هذه النصب تاريخه المشرف وعمله المقاوم، فعادة ما تقام هذه النُّصُب مكان الاستشهاد، وتعرض معلومات عن الشهيد وعن الحدث وكيفية الاستشهاد، وبالتالي فإن “الاحتلال يهدم رمزا وطنيا فلسطينيا وليس مجرد صرح”، حسب وصف الناشط النمر.
وعزا النمر هدم نُصب وصروح الشهداء إلى سياسة العقاب الجماعي التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي ضد كل ما هو فلسطيني، ويقول إن ذلك “لا يقل عن هجوم الاحتلال على العَلم الفلسطيني ورواتب الأسرى والشهداء، وتدمير البنى التحتية للمناطق التي يقتحمها بالكامل، لا سيما المخيمات”.