في بداية الألفيّة الثانية، خرجت العلاقة بين الفضاء السيبراني والعلاقات الدولية من بُعدها التكنولوجيّ لأبعاد أخرى سياسية وأمنية واقتصادية وعسكرية وقانونية، وتحولت لدور وظيفي وحيويّ سواء في الاستحواذ على عناصر القوة أو في تشكيل السياسات الخارجية، والتأثير في الرأي العام، وحتى إتاحة الفرصة لتشكيل تحالفات دولية.
وباتَ من الأمور المستقرة في العلاقات الدولية أن مصادر القوة وأشكالها تتغير، فإلى جانب القوَّة الصلبة التي تتمثل في القدرات العسكرية والاقتصادية، تزايد الاهتمام في الأبعاد غير المادية للقوة، فبرزت القوة الناعمة التي تعتمد على جاذبية الإقناع والنموذج.
ثم ظهرت اتجاهات جديدة بالحديث عن القوة الذكيّة، وبفعل ثورة المعلومات والاتصالات التي تزامنت مع انتشار الإنترنت، واتساع نطاق مستخدميها في منتصف تسعينيات القرن الماضي، ظهرت بيئة جديدة، وهي (الفضاء السيبراني)، تضاف إلى البيئات الأربعة المعروفة.
ومنذ ذلك الوقت أصبح الفضاء السيبراني جزءًا من المشهد الدولي الحديث، ومتغيرًا أساسيًا وأحد العناصر الرئيسية التي تؤثر في النظام الدولي، وبالتالي أسّس هذا الفضاء لمفهوم جديد من أشكال القوة، هو ما بات يُعرَف بـ (القوة السيبرانية) التي تقوم على الإبداع والابتكار والاختراع وترتبط بامتلاك المعرفة التكنولوجية والقدرة على استخدامها.
وعليه، أصبح الفضاء السيبراني محركًا ووسيطًا لحركة التفاعلات الدولية بأنماطها التعاونية والصراعية. وراح يشهد تناميًا مستمرًا في استخداماته وتطبيقاته التي أصبح لها دورٌ جوهريٌ في تحسين الحياة البشرية في مجالات عديدة، وغدَا العالم معتمدًا على نحو متزايد على هذا الفضاء في البنى التحتية المعلوماتية العسكرية والمصرفية والحكومية والتجارة الإلكترونية، وفي الاتصالات والملاحة والبثّ الإعلامي الرقمي.
وبهذا المعنى لم يعد اليوم تحليل القوة في العلاقات الدولية مكتملًا دون مراعاة الفضاء السيبراني في عالم يتجاوز عدد سكانه 8 مليارات نسمة، 5.3 مليارات منهم يستخدمون هذا الفضاء بنسبة تتجاوز 67%.
هناك العديد من المعطيات والمؤشرات الكَمية التي تدلّل على تنامي واتساع ظاهرة الفضاء السيبراني، تقاس بأجزاء من الثانية، ولنتخيّل هذا العالم الذي يجري فيه إرسال ملايين النصوص ورسائل البريد الإلكتروني وتحميل الفيديوهات والصور وتمريرها ومشاهدتها والتفاعل معها، (يتم إرسال حوالي 250 مليون رسالة في البريد الإلكتروني كل دقيقة (350 مليار رسالة في اليوم)، و19 مليون رسالة نصية (27 مليارًا في اليوم)، و3 ملايين عملية بحث على غوغل، و4 ملايين صورة في سناب شات، وحوالي 650 مليون مقطع فيديو على تطبيق (تيك توك) كل دقيقة، ومشاهدة3.5 ملايين فيديو على اليوتيوب في الدقيقة، بينما يتم تحميل أزيد من 500 ساعة من المحتوى المرئي على الموقع نفسه.
فمشهد “الحالة الرقمية” العالمية اليوم أكثر ضخامة وتعقيدًا مما كنّا نظن، وتبدو البيانات الضخمة Big Data في هذا المشهد أثمن من أي وقتٍ مضى. لماذا نقول ذلك؟ لأن عالم البيانات وصلت حجم مبيعاته عام 2023 حوالي 900 مليار دولار، ومن المتوقع أن يرتفع هذا الرقم إلى نحو 1.6 تريليون دولار بحلول عام 2025.
طبعًا هذه البيانات تنتقل ويتم استخدامها من خلال الفضاء السيبراني بنسبة 99% عبر الكابلات (الطبقة المادية)، و1% عبر الأقمار الصناعية.
المعطيات نفسها التي تتخصص بها مواقع مثل ” All Access و Statista” تتوقع أن يصل الإنفاق العالمي على الإعلانات الرقمية إلى حوالي 700 مليار دولار في عام 2024.
وبالتالي فقد أتاح الفضاء السيبراني – من خلال تطبيقاته المختلفة القائمة على الابتكار والإبداع- تكوين الثروة التي بدورها تتحول إلى نفوذ وسلطة وقوة. وأصبح هذا الفضاء بمثابة البنية التحتية المعلوماتية الإستراتيجية للمجالات والمرافق الحيوية في الحياة البشرية، وباتت لديه قدرة على التداخل في البيئات التشغيلية Operating Environments، مثل المجال: البري والبحري والجوي والفضاء الخارجي.
وما يلفت الانتباه منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، هو أن هذه الحرب كشفت عن الدور المركزي والحيوي للفضاء السيبراني في تشكيل نتائج هذا الصراع الذي يجري بموازاة دوي الدبابات والمدافع.
لقد أثّر الفضاء السيبراني في تحولات القوة في العلاقات الدولية عبر مستويَين اثنَين:
- الأوّل: من خلال توزيع القوة وانتشارها بين عدد أكبر من الفاعلين (الدول)، والفاعلين من غير الدول، حيث جعلت القوة السيبرانية بعض الفاعلين الأصغر في السياسة الدولية لديهم قدرة أكبر على ممارسة كل من القوة الصلبة والقوة الناعمة، عبر الفضاء السيبراني، والتأثير في سلوك الفاعلين في هذا الفضاء.
هذا المستوى يتعلّق بالأطراف التي تمتلك القوة في ظلّ انتشارها بين فاعلين من غير الدول Non state actors: (الأفراد، الشركات متعددة الجنسيات، الجماعات الإرهابية، القراصنة، وحركات المقاومة والتحرر) الذين باتوا يلعبون دورًا في التفاعلات الدولية، وهذا ما فرض تحديات على الدول وسيادتها.
- والثاني: من خلال العناصر المكونة للقوة وأشكالها التي تتمثل في: (الهجمات السيبرانية، الفيروسات، الاختراق، القرصنة، الخوارزميات، التشفير، التصيد، التضليل والتشويش السيبراني).
“طوفان الأقصى” السيبراني.. المعركة الصامتة بين إسرائيل والفلسطينيين
لطالما أخذت الصراعات بين إسرائيل وحركة حماس منحى جديدًا في الفضاء السيبراني، حيث يشهد التصعيد الرقمي تكثيفًا ملاحظًا، فالحروب لا تقتصر على الأرض فقط، بل تنتقل إلى معركة صامتة، حيث تُشن هجمات سيبرانية مستمرة ويتسارع استخدام التقنيات التكنولوجية الرقمية للاستيلاء على المعلومات أو تعطيل البنية التحتية المرتبطة بالفضاء السيبراني.
إلى اليوم، ما زالت مراكز الأبحاث الإسرائيلية حائرة حول الكيفية التي دخلت بها المقاومة إلى غلاف غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023؛ لكن هناك تقديرات وازنة بأن الهجوم العسكري تزامن مع “طوفان سيبراني” فلسطيني عطّل بعض الكاميرات وأجهزة المراقبة دون أن يتم رصده في الساعات الأولى.
وكما هو معروف يجري توظيف البيئة السيبرانية من خلال استخدام البعد الصلب والبعد الناعم، انطلاقًا من فرضية أن من يمتلك القوة السيبرانية يصبح أكثر قدرة على ممارسة القوة والتأثير في سلوك المستخدمين للفضاء السيبراني.
توظيف القدرات السيبرانية في الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة
إن إعطاء هذا الحدث الذي يعد الأبرز على صعيد العلاقات الدولية مثالًا في هذا السياق، قصدُه التدليل على أهمية الفضاء السيبراني، والقوة التي أسس لها وكيفية توظيفها من قبل الفواعل الدوليين، والمقصود إسرائيل، وفواعل من غير الدول أي (حركة المقاومة حماس)، في جوانب القوة الصلبة والقوة الناعمة.
وما يلفت الانتباه منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، هو أن هذه الحرب كشفت عن الدور المركزي والحيوي للفضاء السيبراني في تشكيل نتائج هذا الصراع الذي يجري بموازاة دوي الدبابات والمدافع.
- أولًا: يتجلى توظيف البعد الصلب للقوة السيبرانية من قبل المقاومة الفلسطينية من خلال:
- الهجمات السيبرانية التي حدثت قبل إطلاق أول رشقة صاروخية من قطاع غزة، واستهدفت بشكل رئيس الأنظمة التشغيلية لمنظومة “القبة الحديدية”، وأوقفت عملها لأكثر من خمس ساعات.
- ضرب أبراج الاتصالات وقطع كوابل الإنترنت، مما تسبب في تعطيل الاتصالات والتواصل بين مختلف أنظمة الدفاع والمراقبة، والتشويش السيبراني على الرادارات في غلاف غزة، مما أدى إلى إعاقة القدرة على تحديد المواقع بدقة ورصد الأنشطة في المنطقة.
- اختراق السيرفرات والخوادم والسيطرة على مراكز تخزين البيانات، واختراق هواتف جنود إسرائيليين، وقرصنتها قبيل عملية “طوفان الأقصى”.
- اختراق تطبيقات صفارات الإنذار التي ترسل إلى الإسرائيليين إشعارًا بوجود هجمات صاروخية وخطر قريب، وعطلتها بالكامل طوال فترات الهجمات الصاروخية.
- شن هجمات الحرمان من الخدمة على العشرات من المواقع الحكومية الإسرائيلية، استمرت هذه الهجمات -حسب شركة cloud flare المتخصصة بالأنظمة السيبرانية- لمدة ست دقائق وبلغت ذروتها مليونًا و100 ألف طلب في الثانية.
- تعطيل أكثر من 100 موقع لبعض الوزارات والبنوك والجامعات الإسرائيلية ومكتب بريد إسرائيل، واختراق محطة إسرائيل للطاقة الكهرومائية، وشركة الكهرباء الإسرائيلية، وتعطيل مواقع إعلامية وصحفية، وتطبيق تنبيه الطوارئ الإسرائيلي.
- ثانيًا: البعد الناعم:
استخدام المقاومة الفلسطينية شبكة الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي لبثّ عملياتها وخطاباتها والاشتباكات المسلحة على أرض الميدان، ونشر مقاطع فيديوهات خاصة بالأسرى الإسرائيليين من أجل التأثير في الرأي العام العالمي: (صناع القرار، النخب السياسية والفكرية والأكاديمية..)، ولجذب الدعم والأنظار لما يحدث في القطاع.
- دحض السردية والرواية الإسرائيلية (خاصة فيما يتعلّق بصور قطع الرؤوس واغتصاب النساء وحرق الأطفال).
- هناك دور لا يمكن تجاهله للوكلاء السيبرانيين Cyber Agents، هذه الفئة تعتبر جزءًا من أدوات القوة السيبرانية ومن النشاط السيبراني الذي يهدف إلى نشر الوعي وتعزيز التضامن مع القضية من خلال التوعية وتنظيم حملات رقمية تستهدف تعزيز الضغط الدولي، الدفاع السيبراني من خلال حماية المواقع الإلكترونية ذات الصلة بالقضية الفلسطينية من هجمات القرصنة والتلاعب السيبراني، والتي ظهرت في هذه الحرب عبر تعطيل مواقع الإنترنت أو استهداف البنية التحتية الرقمية، مثل: مجموعة “كيل نت” (Killnet) الروسية، وأنونيموس السودان” ،Anonymous Sudan، وأنون غوست” (AnonGhost) الإيرانية، ومجموعة “أنونيموس الجزائر”.
كيف استخدمت إسرائيل قوتها السيبرانية في هذه الحرب؟
تعتبر إسرائيل من الدول الرائدة في استخدام القدرات السيبرانية سواء على صعيد (الدفاع أو الهجوم)، وقد استخدمت إسرائيل قوتها الصلبة في الفضاء السيبراني في هذه الحرب من خلال اختراق شركة الاتصالات الفلسطينية، والسيطرة على شبكة الإنترنت وتدمير البنية التحتية للاتصالات الفلسطينية، كما سخّرت إسرائيل أيضًا قدراتها السيبرانية في مراقبة واغتيال بعض قيادات المقاومة سواء في لبنان، أو الضفة الغربية، وقطاع غزة من خلال الاختراق والتجسس السيبراني، وحتى عبر وكلائها، قامت مجموعة قراصنة مرتبطة بإسرائيل تطلق على نفسها “العصفور المفترس” باستهداف محطات الوقود في إيران وأخرجت 70% منها عن الخدمة.
كان هناك استخدام إسرائيلي للبعد الناعم في الفضاء السيبراني مدعومًا بالخوارزميات (من خلال الضغط على الشركات التكنولوجية الكبرى (التي تسيطر على الفضاء السيبراني) لتقييد المحتوى الداعم للقضية الفلسطينية والمقاومة عبر منصات التواصل الاجتماعي) وبتطبيقات الذكاء الاصطناعي Deepfake (التزييف العميق) (مثل جثة الطفل المحروق)، وبث مئات الرسائل عبر الكلمات والصور والفيديوهات لخلق حالة تعاطف دولي وتوجيه الرأي العام العالمي عبر دعاية شيطنة الفلسطيني ودعشنته، وتشبيه ما جرى في يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول في تجمع مستوطنات غزة بـ “محرقة النازية”.
ما يمكن استنتاجه مما تقدّم أن القوة السيبرانية تعتبر من عوامل مضاعفة قوة الدول والفواعل من غير الدول، مثل حركات المقاومة والتحرر، وممارسة النفوذ، وتحقيق التفوق، والفاعلية والتنافس، وحقيقة مسانِدة للقوة التقليدية مكملة وداعمة لها في تحقيق الأهداف وليست بديلة عنها.
ومما دلت عليه الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة أن هناك دورًا مهمًا للفضاء السيبراني والقوة التي أسس لها، حيث كان لهذا الفضاء بُعد في تشكيل نتائج هذا الصراع الذي يجري بموازاة دوي الدبابات والمدافع.
إذ يعتبر الفضاء السيبراني بشكل عام فرصة حيوية للجهات ذات الإمكانات المحدودة التي تعاني من نقص في الموارد مثل الفواعل من غير الدول، حيث يمنحها هذا النطاق فرصًا للتنافس مع الدول ذات القدرات السيبرانية الكبرى. يتجلى هذا بشكل خاص في تزايد رغبة هذه الجهات في اكتساب قدرات هجومية ودمجها ضمن أدواتها السائدة؛ بهدف تعزيز أهدافها الإستراتيجية وتعظيم قوتها الصلبة وقوتها الناعمة، وزيادة تأثيرها في البيئات التشغيلية الأخرى: البر، البحر، الجو، والفضاء الخارجي.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.