أقرّ المجلسُ التشريعي في ولاية أوتارخاند بشمال الهند قانونًا مدنيًا موحدًا في الولاية التي يسيطر عليها حزب “الشعب الهندي” القومي الحاكم في البلاد، ويشمل القانون لوائح تضبط قضايا الزواج والطلاق، وملكية الأرض والإرث، وغيرها من قوانين المجتمع والأسرة.
ولن تسري أحكام القانون على أبناء القبائل في الولاية، ومعظمهم من الهندوس الذين تحكمهم قوانين الأحوال الشخصية الخاصة بهم، كما استثنى القانون فئاتٍ أخرى من سكان الولاية مذكورةً في الدستور، بينما أُلزِم به المسلمون من سكان الولاية.
ويتبع الهندوس من غير أبناء القبائل القانون المدني بحكم أنه لا توجد لهم شريعة محددة، على عكس المسلمين الذين لديهم شريعة واضحة ومحددة، فمثلًا منع القانون الجديد تعدد الزوجات، كما حدّد سنّ الزواج للرجال 21 سنة، وللنساء 18 سنة.
وجاء القانون استجابة لتوجهات حزب “الشعب الهندي” الذي يتزعمه رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، الذي ظلّ ينادي منذ سنوات بقانون مدني موحد لحرمان المسلمين من العمل بالشريعة الإسلامية فيما يتعلّق بالأحوال الشخصية.
ويمتثل المسلمون في الهند لأحكام الشريعة الإسلامية في الأحوال الشخصية منذ العهد الإنجليزي، فعقب سقوط الدولة المغولية سنة 1857 على أيدي الإنجليز استمرّ المسلمون بالعمل بقوانين الأحوال الشخصية الإسلامية في قضايا، مثل: الزواج، والطلاق، وتقسيم الميراث والحضانة.
وقد أسبغ الإنجليز على هذا الحق غطاءً تشريعيًا حين أصدروا “قانون الشريعة” سنة 1937، وهو لا يزال ساري المفعول في الهند.
كما أكدت الحكومات الهندية المتعاقبة بعد الاستقلال، أنّه لن يتمّ المساس بالأحوال الشخصية الإسلامية إلا بطلب المسلمين.
ومع وصول حزب “الشعب الهندي القومي” للحكم، فإنّ غلاة الهندوس بدؤُوا بالترويج إلى أنّ عملَ المسلمين بالشريعة الإسلامية في أحوالهم الشخصية يعرقل اندماجهم في المجتمع الهندي، ولذلك لابدّ من إلغائه وفرض قانون مدني موحّد على البلاد.
ولكن الحقيقة هي أنّ القانون المدني الموحد حتى في حالة صدوره سينفذ على المسلمين فقط، إذ إن القانون المدني الموحد لن يكون إلا القانون المدني المعمول به حاليًا في الهند، والذي يخضع له الهندوس، وبالتالي لن يتغير شيء بالنسبة للهندوس، بينما سيجبر المسلمون وحدهم على العمل بالقانون المدنيّ، وترك العمل بالشريعة في أحوالهم الشخصية.
وهناك مئات (بين 250 و300 حسب وزير القانون السابق ويرابا مويلي) من الشرائح الاجتماعية التي تتمتع بقانون مدني خاص بها، ومنها شرائح هندوسية ومسيحية وسيخية وقبلية وسكان المناطق الجبلية. ومن المؤكّد أن الحكومة ستجد أعذارًا لاستثناء هذه الشرائح من العمل بالقانون المدني الموحد، وسيبقى المسلمون وحدهم من سيفرض عليهم هذا القانون.
ذرائع وحجج
وظلّ قادة حزب “الشعب الهندي” يرفعون صوتهم من وقت لآخر لسنّ قانون مدني موحد، وذلك لحرمان المسلمين من التمتّع بالشريعة الإسلامية.
ويتذرّع غلاة الهندوس بأنّ الدستور الهندي يلزم الدولة الهندية بسنّ قانون مدني موحد، وهم يشيرون إلى “مبدأ توجيهي” في الدستور، رغم أن الدولة الهندية غير ملزمة بالعمل به. ولم يتم العمل بهذا المبدأ التوجيهي رغم مرور 72 سنة على صدور الدستور، وظلت الدولة الهندية تؤكد لمختلف الفئات أنها لن تعبث بقوانين الأحوال الشخصية الخاصة بها.
وينسى هؤلاء أن القانون المدني الموحد هو واحد فقط من 23 مبدأ توجيهيًا مذكورًا في الدستور الهندي ولم ينفّذ حتى الآن أغلب هذه المبادئ، ومنها تحريم الخمور (المادة 47)، وتوفير الرعاية الصحية لكل المواطنين (المادة 47)، وتوفير الغذاء والتعليم وسبل الحياة الجيدة لكل أفراد الشعب وحمايته من الاستغلال (المادة 46).
وتقسيم ثروة البلاد بعدل، والمساواة بين الرجال والنساء، ومنع ارتكاز الثروة في بعض الأيدي (المادة 39)، وتوفير العدالة للكل والتأكد من أن أحدًا لا يحرم من الإنصاف بسبب الفقر (المادة 41)، وتنظيم المجالس القَرويّة لضمان قيام الحكم القَرويّ (المادة 49).
وتوفير التعليم وفرص العمل لكل الهنود، وتوفير المساعدة للمرضى وكبار السن والعجزة (المادة 41)، وضمان مشاركة العمال في ملكية المصانع (المادة 43/أ)، وحماية القضاء من التدخل الحكومي (المادة 50)، وتوفير العدالة على كل المستويات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية (المادة 38/أ)، والتقليل من الفارق بين المرتبات (المادة 32/2).
والقضاء على عدم المساواة الاجتماعية، وتوفير الفرص لكل المواطنين (المادة 38/2)، وضمان مرتبات معقولة للعمال (المادة 43)، والعمل على تقوية السلام والأمن على المستوى العالمي (المادة 51)، وتوفير التعليم المجاني الإلزامي لكل الأطفال حتى سن 14 سنة (المادة 45) إلخ… وكل هذه المبادئ التوجيهية لم تنفذ أو نفذت بصورة جزئية فقط .
ولا يتحدث غلاة الهندوس عن ضرورة تنفيذها بل يعملون على عكسها. وعلى سبيل المثال تعمل حكومة مودي على تقوية الأثرياء وتكديس الثروات في أيديهم، وهي تعمل باستمرار للسيطرة على كل أجهزة الدولة، بما فيها النظام القضائي.
ومن الغريب أنَّه رغم المطالبات المستمرة بالقانون المدني الموحد، لم يتم حتى الآن وضع مسوَّدة له ونشرها؛ حتى يعرف الناس ما هو المقصود بالقانون المدني الموحد.
مطالب قديمة
المطالبة بقانون مدني موحّد في الهند قديمة تعود إلى بدايات القرن العشرين، حين نادت به المرأة الهندوسية، وذلك لأنَّ القانون الهندوسي لا يعطي المرأة الهندوسية أيّ حقوق بخصوص الميراث أو إدارة الأسرة أو كفالة الأولاد عند وقوع الانفصال، أو حق الطلاق أو حق الحضانة، كما لا يسمح للمطلقة والأرملة الهندوسية بحق الزواج مرّة أخرى.
وقد أصدرت الدولة الهندية عقب الاستقلال عدة قوانين لتوفير هذه الحقوق للمرأة الهندوسية. وقد عارض غلاة الهندوس تلك القوانين حينذاك بشدة، ولكنها أجيزت بسبب الأكثرية التي كان حزب “المؤتمر” يتمتع بها في البرلمان خلال العقود الأولى عقب الاستقلال، وبسبب الاحترام الذي كان يتمتع به قادة مثل جواهر لال نهرو.
وقد نُوقشت قضية القانون المدني الموحد مرارًا في البرلمان الهندي، ولكن لم يمكن الوصول إلى اتفاق بشأنه. وكان المجلس التأسيسي قد قرر إعطاء الخيار لكل مواطن للعمل بالقانون المدني العام (الذي صاغه الإنجليز) أو بالأحوال الشخصية الخاصة بدينه وتراثه.
وقال الدكتور أمبيدكار، واضع الدستور الهندي، خلال نقاش القضية في المجلس التأسيسي يوم 2 ديسمبر/ كانون الأول 1948: ” لا ينبغي لأية حكومة أن تمارس سلطاتها بأسلوب يحمل الطائفة المسلمة على التمرد. أنا أظن أن حكومة تحاول هذا ستكون حكومة مجنونة”.
وقال رئيس الوزراء جواهر لال نهرو خلال هذه المناقشة: “أيّ تغيير من هذا النوع (في القانون المدني) سينطبق فقط على أية طائفة حين تقبل به تلك الطائفة”.
قضية شاه بانو
ثارت قضية القانون المدني الموحد من جديد حين توجهت امرأة مسلمة تسمى (شاه بانو) إلى المحكمة العليا سنة 1985؛ لأن زوجها طلقها ولم يعطِها نفقة حسب القانون الهندي المدني. وقررت المحكمة العليا إعطاءها نفقة مدى الحياة اعتمادًا على بعض ترجمات القرآن الكريم.
وهنا ثار مسلمو الهند وأجبروا حكومة راجيف غاندي على التراجع، فسنَّت قانونًا يستثني المطلقة المسلمة من القانون المدني الذي يعطي المطلقة نفقة مدى الحياة.
وثارت القضية مرة أخرى سنة 2015 حين أوصت المحكمة العليا في أحد قراراتها بسن قانون مدني موحد لكل المواطنين، وثار ضدها المسلمون قائلين؛ إن سن أيّ قانون كهذا يعني سحب الحقوق الدينية والثقافية التي يعطيها الدستور الهندي للأقليات الدينية.
وقد عبّرت حكومة مودي غير مرة عن رغبتها في سنّ قانون مدني موحد، ولكنها لم تتجرأ على ذلك حتى الآن، ماعدا سنّ قوانين فرعية مثل حظر الطلاق الثلاثي في جلسة واحدة.
وحين طالبت مفوضية القانون الهندية في السنة الماضية بضرورة سنّ قانون مدني موحد، هاجمه المسلمون وغيرهم بشدة. وقدم مجلس الأحوال الشخصية الإسلامية (وهو تنظيم أهلي إسلامي أنشئ سنة 1973 لحفاظ على قانون الأحوال الشخصية الإسلامي) مذكرة تعارض هذه التوصية حاملة توقيعات 1ر48 مليون شخص.
شعار لضرب المسلمين
يستخدم غلاة الهندوس شعار: “القانون المدني الموحد” لضرب المسلمين وإصابتهم بالإحباط. ومن المؤكد أنه حين صدوره بالفعل سواء على مستوى الولايات أو البرلمان المركزي، فهو سينفذ على المسلمين فقط؛ لأن القانون المدني الموجود هو قانون هندوسي وقد تم استثناء شرائح كثيرة منه.
ولا يتوقع أن حزب “الشعب الهندي” سوف يفرض القانون المدني الموحد على شرائح هندوسية ومسيحية وسيخية وقبلية تتمتع باستثناءات؛ لأن ذلك سيعني تمردًا واسعَ النطاق في كل مناطق الهند.
أما المسلمون فيرى قادة حزب “الشعب” أنه يمكن اللعب بهم، فهم لن يثوروا. وقد جرب غلاة الهندوس هذا خلال الأعوام العشرة الماضية بمختلف بالونات الاختبار، مثل: قتل المسلمين على الهُوية، وقتلهم بتهمة تناول لحم البقر أو ذبح البقر، وتدمير مساجد ومزارات ومدارس دينية، وتحريم الحجاب واللحم الحلال، وهدم بيوت المسلمين بالبلدوزرات لأتفه الأسباب وبدون مراعاة القانون والإجراءات القضائية، واعتقال آلاف من الشباب المسلم بتهمة الإرهاب وتأييد داعش والقاعدة، وهي تهم كاذبة، ولكن يتم تلفيقها من وقت لآخر بمنتهى الذكاء.
ومن المتوقع أنه بعد موافقة ولاية أوتارخاند على قانون مدني موحد ستحذو حذوها ولايات أخرى، وخصوصًا تلك التي يحكمها حزب “الشعب الهندي”، إلى أن تتوفر البيئة المناسبة محليًا وعالميًا لتقدم الحكومة المركزية على تمرير قانون مدني فدرالي عبر البرلمان المركزيّ.