بعد قطيعة استمرّت عقدًا من الزمن بين البلدَين، تخللته الكثيرُ من المواقف السياسيَّة العدائية، والتصريحات السلبية المتبادلة تجاه كلّ منهما لنهج سياسات الآخر الإقليمية، توجّه الرئيس أردوغان إلى القاهرة في زيارة رسمية لمدة يوم واحد، وهي الزيارة التي من المنتظر أن يكون لها انعكاسات إيجابية واسعة المدى على العديد من الملفات والقضايا الإقليمية التي تحتاج إلى تعاون البلدين، خاصة تلك التي تتشابك فيها مصالحهما، مثلما هو الحال في أحداث غزة، والوضع في كل من ليبيا، والسودان، وملفّ شرق المتوسط.
محبّة بعد عداوة
إيجابية موقف الرئيس التركي تجاه القاهرة، وتعاطيه بكل هذا الودّ والتَرحاب مع رئيسها عبدالفتاح السيسي بعد مرحلة من الكراهية الشديدة التي ميزت تعاطيهما على الصعيد الشخصي لسنوات، وهو ما انعكس بصورة سلبية على علاقات البلدين السياسية والدبلوماسية، يجعل ذلك من المنطقي البحث عن إجابة لسؤال طالما شغل أذهان الكثيرين من الأتراك والسوريين معًا: متى إذًا يزور أردوغان دمشق؟!
خطوة المصالحة التركية مع القاهرة والسعي لتحسين علاقاتها معها ليست الأولى التي تخطوها أنقرة في سبيل إنهاء خلافاتها الإقليمية، وتحسين علاقاتها السياسية، وتوسيع حجم تعاونها السياسي والاقتصادي مع دول المنطقة، فقد سبق لها استعادة علاقاتها مع المملكة العربية السعودية.
كما استأنفت علاقاتها الدبلوماسيّة مع الإمارات العربية المتحدة بعد سنوات من الجفاء والتوتر نتيجة التباين في وجهات النظر بشأن قضايا المنطقة، وموقف كل منهما من ثورات الربيع العربي.
أردوغان والأسد
من هذا المنطلق يبدو من الطبيعيّ بل ومن المنطقي أن يتم فتح باب ملف العلاقات التركية – السورية على مصراعيه، وأن يبدأ الجميع في التكهن بالموعد الذي سيتم فيه تبادل الزيارات الرسمية بين البلدين، ويلتقي أردوغان والأسد وجهًا لوجه.
خاصة أنه كانت هناك علاقة صداقة عائلية قوية ربطت لسنوات بين الرجلَين، قبل اندلاع الثورة السورية، تبادلا خلالها الزيارات الخاصة، وقضاء العطلات، والاحتفال بالعديد من المناسبات الاجتماعية سويًا.
الواقع الإقليمي وما تمرّ به المنطقة من توترات، والدعم الذي يتلقاه النظام السوري، كلّها عوامل تؤكّد أن بشار الأسد باقٍ على رأس السلطة في دمشق، وأن مسألة الإطاحة به أو محاولة تغييره لم تعد مطروحة حاليًا لا على الصعيد الإقليمي ولا الدولي.
عودة اللاجئين
بل إن الجميع بدأ في البحث عن آليات وسبل يمكن من خلالها وضع حدّ لمرحلة الانقسام التي يعيشُها الشعب السوريّ، وإنهاء معاناة اللاجئين منهم، وضمان عودتِهم إلى مدنهم وقراهم، واستعادة ممتلكاتهم التي صادرها النظام، وضمان مشاركة فصائل من المعارضة في الحكم، عبر إجراء انتخابات نزيهة تتم وفق بنود ومواد الدستور الجديد الذي يتم إعداده حاليًا في جنيف برعاية الأمم المتحدة.
وهي في جملتها تمثل نفس المطالب التي تضعها أنقرة شرطًا لإعادة علاقاتها مع دمشق، إلى جانب مسألة التعاون بينهما في مجال مكافحة الإرهاب، لإخراج عناصر حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب (قسد) من الشمال السوري.
انسحاب أميركي
وهي المعضلة التي قدمت واشنطن حلًا لها على طبق من ذهب لكل من أنقرة ودمشق معًا، بعد أن تم الإفصاح عن وجود نقاش واسع ومكثف داخل دوائر صنع القرار الأميركيّ حول الرغبة في سحب القوات الأميركية الموجودة في شرق سوريا، حيث تحتفظ واشنطن بـ 900 جندي هناك، إلى جانب مجموعة من أحدث الأسلحة والمعدات العسكرية المتنوعة، بعد أن أصبح وجودها هناك غير ضروري.
وهو ما يفسح المجال أمام إمكانية خلق آلية لتعاون القوات التركية في الشمال السوري مع كل من القوات الروسية والسورية الموجودة في المنطقة؛ لإنهاء وجود هذه العناصر من على طول خط الحدود بين البلدين البالغ 932 كيلومترًا، ويحقق لأنقرة أمنها القومي، وينهي مخاوفها من تعريض وحدتها الترابية لخطر التقسيم.
وهو ما يعني بدوره تلبية المطلب السوري الوحيد من أنقرة، والمتمثل في سحب قواتها من المناطق التي تتمركز فيها في الشمال السوري، ووضع برنامج زمني محدّد للقيام بذلك، حيث تعتبرها دمشق قوّات احتلال، تهدّد أمنها القومي، وتستحوذ على جزء من ترابِها الوطني.
مكاسب متعدّدة
حقيقة الأمر أنَّ هناك جملةً من المكاسب لا يمكن تجاهلها، يمكن لأنقرة تحقيقها إذا ما قررت استئناف علاقاتها الدبلوماسية مع النظام السوري، وفي مقدّمتها بطبيعة الحال إغلاق ملف اللاجئين السوريين لديها؛ تحقيقًا لمطالب شعبية واسعة النطاق تتخطى شريحة العلمانيين والكماليين إلى باقي شرائح المجتمع التركيّ، خصوصًا منتمي الطبقتين: الفقيرة والمتوسطة، الذين أصبحوا يعانون أشد المعاناة في ظل استمرار الأزمة الاقتصادية الخانقة، والارتفاع غير المسبوق في أسعار كافة السلع والخدمات والسكن.
إلى جانب الرغبة في إنهاء التّوتر القائم على المناطق الحدودية، الذي يعيق عمليات التبادل التجاري التي طالما كانت السبيل الوحيد أمام تحقيق مكاسب اقتصادية، ومصدر كسب لسكان المنطقة، وخلق فرص عمل أمام آلاف الشباب من خلال تجارة الترانزيت الحدودية.
هناك حاجة إلى وجود قنوات دبلوماسية مع دمشق، يمكن من خلالها وضع آلية تركية – سورية للتعاون في ملف غاز شرق المتوسط، وهو الأمر الذي يعضد موقف تركيا، خاصة إذا نجحت في ترسيم حدودها البحرية مع القاهرة، مما يمنحها قدرة أكبر على التصدي للموقف الأميركي والأوروبي الرافض لاقتسامها ثروات المنطقة مع باقي الدول تحت ضغط كل من اليونان وقبرص.
تسريع المصالحة
التطورات الإقليمية والدولية، والمكاسب التي يمكن لأنقرة إحرازها، قد تعجل بإنهاء الخلافات، بما يفضي إلى عودة قريبة للعلاقات التركية – السورية، وتبادل الزيارات الرسمية، في ظل نصائح المؤسستين: العسكرية والاستخباراتية، التركيتين، اللتين طالبتا فيها بضرورة تغيير السياسة التي تمَّ انتهاجها خلال السنوات الماضية في التعاطي مع الملف السوري، بعد إجرائهما دراسات معمقة حول الأوضاع الدولية والإقليمية، وانعكاساتها المستقبلية على الأوضاع الداخلية التركية سياسًيا واقتصاديًا.
إضافة إلى دعم كل من موسكو، وطهران اللتين انضمت لهما الرياض، وأبوظبي لاتخاذ خطوات أكثر إيجابية في سبيل إنهاء الخصومة واستئناف علاقتهما، مع احتمالية أن تلعب القاهرة هي الأخرى دورًا فاعلًا في هذا الملف للتقريب بين وجهات النظر، وحل المسائل الخلافية التي تعرقل إتمام هذه المصالحة بعد تصالحها هي نفسها مع أنقرة.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.