رائحة القهوة الفلسطينية التي تشمها وأنت تدخل بيت الغزاوييْن إبراهيم وزوجته شادن في ضواحي مدينة رين شمالي غرب فرنسا قد تشي بحياة هادئة، لكن ما أبعد يوميات هذا الزوج عن الاستقرار، كما يقول موقع “ميديا بارت” الفرنسي في تحقيق عن قصة هذه العائلة الغزاوية التي أحيطت بتغطية إعلامية واسعة الأيام الماضية.
والعام الماضي، صدر قرار بطرد العائلة بعد رفض طلب لجوئها، ورغم أن القرار جرى تعليقه، فإن الحياة على هامش القانون قاسية، والأصعب أن تصل الزوج وزوجته أخبار الأحبة ممن استشهدوا في غزة، ولا يملكان لهم شيئا.
وفي عام 2018 رفض مكتب حماية اللاجئين وعديمي الجنسية طلب لجوء قدمه إبراهيم وشادن، وأكدت القرار محكمة مختصة، ليصبحا وأطفالهما في وضع غير قانوني، بعد عامين من الإجراءات القانونية.
لكن الصدمة الأكبر كانت في مايو/أيار الماضي عندما تلقيا أمرا بمغادرة الأراضي الفرنسية.
“يريدون إرسالنا إلى حتفنا”
كبرى بنات إبراهيم وشادن الثلاث، جاءت إلى فرنسا وعمرها عامان ونصف العام. لم تتجاوز إلا بمشقة كبيرة كوابيس القصف الذي عاشته في قطاع غزة عام 2018، وما زالت حتى بعد تعافيها تخشى الذهاب إلى المرحاض بمفردها، كما تقول أمها.
تعافت البنت لكن الأبوين ما زالا تحت هول أحداث غزة. تلاحق الأم الصحافة العربية بعدما استشهد أخوها مجد وجُرح أبوها في قصف البيت العائلي وسط القطاع، وانتهى المطاف ببقية الأسرة في مخيم لجوء قرب رفح حيث تتأهب إسرائيل لهجوم كبير.
“رغم كل ذلك، يريدون إعادتنا إلى هناك.. يريدون إرسالنا إلى حتفنا” يصيح إبراهيم الذي يرفض توصيفه بمهاجر، ويصر على كلمة “بلا وطن”.
“تركنا حياة هناك”
وصل إبراهيم -وهو مدرس لغة فرنسية- إلى فرنسا بتأشيرة طالب عام 2016، والتحقت به زوجته عام 2018.
صدم قرار الطرد العائلة أيما صدمة؛ فـ”نحن نستجيب للشروط، ولدينا صداقات بين الفرنسيين وأنا لدي وعد بعقد عمل”. يعدّد الزوج وزوجته أوجه استحقاق البقاء في فرنسا.
“نعيش في فرنسا منذ 6 و8 سنوات على التوالي، ونتحدث الفرنسية.. لكنهم يرفضون منحنا الوثائق القانونية.. تركنا حياة هناك. تركنا شقة، ومهنة مدرس، وجئنا إلى هنا بأموالنا. من البداية دفعنا كل نفقاتنا دون أي مساعدة”.
ساعد في تسليط الضوء على حالة العائلة تحقيق صدر في صحيفة محلية. ضغط التغطية الإعلامية جعل البلدية تعلّق قرار الطرد.
وفي بيان لها، نفت البلدية وجود خطة لتنفيذ قرار الترحيل إلى فلسطين في الظروف الحالية، لكن القرار ذاته ما زال قائما، والمحكمة الإدارية تنظر في طعن رفعه إبراهيم وشادن في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
وطلب الزوج وزوجته في الوقت نفسه إعادة مراجعة ملف اللجوء، لكن رفض الطلب مجددا قد يعني تفعيل قرار الطرد.
“الضفة هادئة”
صحيح أن البلدية علقت قرار الطرد، لكنها ما زالت تدافع عنه بشدة، ففي مرافعتها الشهر الماضي أمام المحكمة الإدارية -والتي اطلع عليها موقع ميديا بارت- تسوّغ الخطوة بقولها إن “الزوج وزوجته لم يثبتا افتقداهما أيّ روابط في بلدهما الأصلي”.
ورغم أنها تقر بأن الوضع تدهور كثيرا في غزة، فإن البلدية تراه “مستقرا عموما” في الضفة الغربية، ويمكن للعائلة بالتالي -حسبها- البقاء هناك، ويستطيع الأطفال مواصلة دراستهم، خاصة أنهم ما زالوا في المراحل الدراسية الأولى.
“حتى إنهم لا يعرفون أن الغزاويين ممنوع عليهم دخول الضفة!” تصيح شادن مندهشة، وما جعلهما يصممان على البقاء في فرنسا هو الوضع النفسي للأطفال.
يتحاشى الزوجان متابعة وسائل الإعلام في وجود بناتهما، لكنهن يشعرن بكل شيء، تقول شادن.
وتعبّر محامية العائلة لو فرجي عن صدمتها؛ فـ”الزوج وزوجته يحبان فرنسا. إبراهيم مدرس لغة فرنسية، وينتظر عقد عمل، والزوج وزوجته مندمجان تماما في حياة مدينتهما”.
بالنسبة لهذه المحامية، فإن قرار الطرد أحد أعراض سياسة الكم التي يعشقها وزير الداخلية الذي يصر على إصدار أوامر مغادرة لرعايا دول تمزقها الحروب.
حياة معلقة
حياة شادن وإبراهيم معلقة الآن بقرارين: الحصول على اللجوء من عدمه، وإلغاء قرار الطرد أو تثبيته.
وإلى أن يحدث ذلك يعيشان على وقع نشرات الأنباء، يتتبعان أخبار الأهل هناك. أعداد الشهداء كثيرة للغاية حتى إننا نبحث عن الأسماء منطقة بمنطقة، تقول شادن.
لا تصل أخبار الأهل لأسابيع كاملة أحيانا، بسبب انقطاع الإنترنت والكهرباء اللازمة لشحن الهواتف النقالة، وعندما تصل الرسائل فإنها في الغالب من كلمتين: “نحن أحياء”.
في مدخل البيت، علقت شادن قلادة مرصعة بصورة أخيها الراحل. كانت ربما ستستطيع رؤيته لآخر مرة قبل أن تشب الحرب ويُقتَل.. لو منحتها فرنسا وثائق إقامة.