لا يمثل هجوم “طوفان الأقصى” في حدّ ذاته عاملًا من عوامل نشوب حرب عالمية ثالثة، ولكنه جاء في سياق تاريخي يموج بالكثير من التحولات والأزمات والتقاطعات والانهيارات الدولية الكبرى التي قد تؤدّي، تحت ضغط عوامل معينة، إلى تطوّر تداعيات هذا الهجوم لتتحول إلى ذريعة تتخذها القوى (المتحفّزة) لدفع العالم نحو حرب عالمية ثالثة، تمكّنها من تحقيق أهدافها في مرحلة تاريخية مفصلية تمهّد لإعادة بناء النظام العالمي، وقد تناولت في المقال السابق أبرز المؤشرات التي أفرزتها تداعيات حرب الإبادة الجماعية التي يشنها التحالف الصهيو-أميركي على قطاع غزة في أعقاب “طوفان الأقصى”.
الحرب العالمية الأولى أنتجت نظامًا عالميًا متعدد الأقطاب، ثم تلتها الحرب العالمية الثانية لتنتج عالمًا ثنائي القطبية، سرعان ما انهار ليتحول إلى عالم أحادي القطبية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، إلا أن قوى عديدة بدأت مؤخرًا تعترض على ذلك وتطالب من جديد بنظام عالمي متعدد الأقطاب يحقق العدل والسلام والاستقرار في العالم أجمع
توضيح
قبل الحديث عن هذه الأسباب، أودّ توضيح ما يأتي:
- أن هذا المقال لا يقدّم نبوءة، وإنما يحاول الوقوف على أوجه الشبه بين الأسباب الحقيقية وراء اندلاع الحربين العالميتين: الأولى والثانية، والتأكيد على أن هذه الأسباب باتت متوفرة بشكل كبير في زماننا وتنذر بوقوع حرب عالمية ثالثة.
- أن الحرب العالمية الأولى لم تقم بسبب اغتيال الصرب وليَّ عهد المملكة النمساوية – المجرية في العاصمة سراييفو في يونيو/ حزيران 1914م، والحرب العالمية الثانية لم تقم بسبب غزو اليابان مقاطعةَ منشوريا الصينية في سبتمبر/ أيلول 1931م، وإنما كانت الأسباب الحقيقية لكلتا الحربَين أبعد من ذلك بكثير، وكانت هذه الأحداث مجرد اللحظات المناسبة التي دفعت القوى الكبرى لاعتبارها مبررات كافية، للذهاب إلى حرب عالمية هي في أمسّ الحاجة إليها.
- من المتوقع أن يتخذ الغرب من الشرق الأوسط ساحةً للحرب العالمية القادمة، كي يجنّب الدول الغربية ومدنها وبناها التحتية ومكتسباتها الصناعية والتكنولوجية ما عانته في الحربَين العالميتين: الأولى والثانية. وأن الدول العربية ومعها تركيا وإيران؛ ستكون مستهدفة في هذه الحرب، بموقعها الجيوسياسي المطلوب تفتيته، وبثرواتها الطبيعية النفطية والمعدنية.
- سيكون الكيان الصهيوني طرفًا أساسيًا في هذه الحرب؛ طمعًا في تحقيق تطلعاته الجيوسياسية في المنطقة.
وضعت الحرب العالمية الأولى اللبنات الأولى للنظام العالمي الجديد، وتم إعادة رسم الحدود الجغرافية الأوروبية على أسس قومية، كما تم إنشاء عصبة الأمم، ولأول مرة في تاريخ البشرية، كواجهة مؤسسية لهذا النظام
لماذا تنشب الحروب العالمية؟
تتمحور أبرز الأسباب التي دفعت القوى الكبرى مطلع القرن الماضي إلى خوض الحرب العالمية الأولى فيما يأتي:
- ضعف الإمبراطورية العثمانية وتطلعات الإمبراطوريات الأوروبية إلى القضاء عليها، والاستحواذ على تركتها، واسترداد أمجاد الإمبراطورية الرومانية في القسطنطينية.
- الصراعات التي هيمنت على الدول الأوروبية على امتداد القرن 19 م ومطلع القرن العشرين؛ بسبب التطلعات التوسعية والرغبة في الهيمنة والنفوذ.
- اتساع رقعة التنافس الاستعماري الأوروبي في جميع قارات العالم، بأبعاده الاقتصادية والتوسعية، التي برزت فيها بريطانيا باعتبارها الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس.
- التحالفات المتغيرة وغير المستقرة التي كانت تقوم بها الإمبراطوريات الأوروبية لتتقوى بها على منافسيها، مثل عصبة الأباطرة الثلاث: (الإمبراطورية الروسية، والإمبراطورية الألمانية، والإمبراطورية النمساوية- المجرية)، والتحالف الثنائي بين الإمبراطورية الألمانية والإمبراطورية النمساوية- المجرية، والتحالف الثلاثي بينهما وبين إيطاليا، والتحالف البريطاني- الياباني.
- سباق التسلح الذي انطلق مع الثورة الصناعية والعلمية وتطور الآلات والمعدات والأساليب القتالية.
استمرت الحرب العالمية الأولى أربعة أعوام (1914-1918م)، وانتهت بانتصار دول الحلفاء: بريطانيا، وفرنسا، وروسيا، (دول الوفاق الثلاثي)، وانضمت لها لاحقًا الولايات المتحدة، واليابان، وإيطاليا، وهزيمة (دول المركز): ألمانيا، وتركيا، والنمسا-المجر، وبلغاريا، وقتل فيها نحو عشرة ملايين جندي، وسبعة ملايين مدني، وكانت سببًا في انتشار الإنفلونزا الإسبانية التي أودت بحياة أكثر من 70 مليون إنسان.
وضعت الحرب اللبنات الأولى للنظام العالمي الجديد بقيادة بريطانيا، وفرنسا، وروسيا، والولايات المتحدة، وتم إعادة رسم الحدود الجغرافية الأوروبية على أسس قومية، كما تم إنشاء عصبة الأمم، ولأول مرة في تاريخ البشرية، كواجهة مؤسسية للنظام العالمي الجديد مسؤولة عن تنظيم العلاقات بين الدول الأعضاء، والمحافظة على السلم والاستقرار الدوليين، والحد من سباق التسلح، وحل النزاعات بالطرق، وفقًا للمعاهدات والقوانين التي تم سنّها ووافقت عليها الدول الأعضاء.
وتم تحميل ألمانيا مسؤولية الخسائر المترتبة على هذه الحرب، وفرض تعويضات عليها بلغت 269 مليار فرنك ألماني ذهبي، تم تخفيضها عام 1929م إلى 112 مليار فرنك، انتهت ألمانيا من تسديدها عام 2010م.
فشلت عصبة الأمم في أول اختبار لها، ولم تستطع القيام بمهامها وتحقيق الأهداف المنوطة بها، كما لم تستطع أن تضع حدًّا لسباق التسلح الذي انطلق بخطى متسارعة لم تتوقف حتى الآن، ولا أن تحدّ من تطلعات الدول الاستعمارية الكبرى نحو التوسع والنفوذ والهيمنة، ولم تستطع معاهدة فرساي أن تلزم الموقّعين عليها بكل ما ورد فيها، الأمر الذي كان بمثابة فشل نسبي للمحاولة الأولى لتأسيس النظام العالمي الجديد، وكشف مدى الحاجة إلى عملية ترميم سريعة في أقرب وقت.
ولم تمضِ عشرون عامًا؛ حتى كانت الحرب العالمية الثانية على الأبواب، واستمرت في الفترة (1939-1945م)، بين فريقين: الأول هو دول الحلفاء، وتضم بشكل أساسي كلًا من: بريطانيا، وفرنسا، والولايات المتحدة، والاتحاد السوفياتي والصين، والفريق الثاني هو دول المحور، وتضم بشكل أساسي كلًا من: ألمانيا، وإيطاليا، واليابان.
لم تكن الأسباب التي أدّت إلى نشوب الحرب الثانية بعيدة عن الأسباب السابقة التي أدّت إلى نشوب الحرب العالمية الأولى، حيث عجزت عصبة الأمم عن القيام بواجباتها، وتحوَّلت إلى أداة بيد دول الحلفاء، فعاودت الدول الكبرى تحالفاتها وتوسعاتها الإقليمية والدولية، وخاصة التوسعات التي قامت بها ألمانيا في أوروبا بعد وصول هتلر إلى السلطة ورفعه شعارَ تفوّق العرق الآري في أوروبا، وقيامه بإلغاء معاهدة فرساي، وتركيز الاهتمام على تقوية الجيش وتطوير الصناعات العسكرية.
انتهت الحرب بانتصار دول الحلفاء وهزيمة دول المحور، ومقتل ما يقرب من 60 مليون عسكري ومدني، نتيجة الحرب وآثارها على مدى السنوات اللاحقة. وكان من أبرز النتائج السياسية التي حققتها الحرب، إعادة بناء النظام العالمي الجديد، وتأسيس الأمم المتحدة بمنظماتها المختلفة، وعلى رأسها مجلس الأمن الذي تتحكم في قراراته إلى اليوم الدول الرئيسية المنتصرة في الحرب، وتحوّل العالم من حالة تعددية الأقطاب إلى ثنائية القطبين: الأول القطب الرأسمالي بزعامة الولايات المتحدة، والثاني القطب الاشتراكي بزعامة الاتحاد السوفياتي.
توالت الأعمال التوسعية في المجالات المختلفة العسكرية والاقتصادية والعلمية، لتعزيز الهيمنة والنفوذ، ونشأت تحالفات جديدة إقليمية ودولية، واتسعت دائرة سباق التسلح في المجالين: التقليدي والنووي وبلغت حدًا مرعبًا.
وعامًا تلو آخر تفشل الأمم المتحدة في القيام بمهامها في تحقيق السلم والاستقرار الدوليين، وفي الحد من سباق التسلح، وظل مجلس الأمن حارسًا لمصالح أعضائه، ومصالح حلفائه، واستمرت الصراعات البينية والإقليمية، والتي كانت في معظمها محكومة بمصالح القطبين، وسياسات المحافظة على هذه المصالح وتطويرها.
انهار الاتحاد السوفياتي، ليتحول العالم من حالة ازدواجية القطب، إلى حالة أحادية القطب، ولتتربع الولايات المتحدة على عرش القطبية، ولكن هذا التربع لم يستقر له المقام، حيث استمر سباق التسلح، واستعادت روسيا قوتها ومكانتها، وبدأت قوى عديدة تعترض على انفراد الولايات المتحدة بقيادة العالم، وتطالب بإعادة بناء النظام العالمي بما يحقق العدل والسلام والاستقرار في العالم أجمع دون تسلّط دولة على أخرى.
يشهد العالم منذ بدايات العقد الثاني من القرن الحالي عودة الأسباب التي أدت إلى نشوب الحربين العالميتين: الأولى والثانية، وعامًا تلو آخر؛ تزداد حدة هذه الأسباب، وتقترب أكثر من إشعال حرب عالمية ثالثة.
هذه الحرب لن تحدث قطعًا بين عشية وضحاها، ولكنها أصبحت قريبة أكثر من أي وقت مضى، فالولايات المتحدة بحاجة إلى تثبيت تموضعها على سدة العالم، ووضح حد لتطلعات الدول الراغبة في تسلّق هذه القمة، والنظام العالمي لم يعد يجدي معه الترميم نفعًا، وأصبح بحاجة إلى هدم وإعادة بناء جديدة تتناسب مع عملية التحوّل التي يشهدها منذ عام 2015م تحت عنوان أهداف التنمية المستدامة، بما يسمح للولايات المتحدة بمواصلة النفوذ والهيمنة بلا منازع، وإدارة العالم بطريقة تزيد من قدرتها على مواجهة التّحديات الراهنة واستكمال بناء مستقبل ما بعد الحداثة حيث يتحول البشر إلى مجرد كائنات رقْمية تحت السيطرة بصورة كاملة.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.